بعد طويل تجاذب وتنافر وكرّ وفر وقعت أميركا وتركيا منذ أسابيع قليلة اتفاقاً يتناول انشاء «منطقة آمنة» في الشمال السوري أحاطه الطرفان بغموض وضبابية لترك المجال مفتوحاً لمناورتهما ولتفسيره بما يتناسب ومصالح كلّ منهما واستراتيجيته في سورية.

 

وقد اعتبر البعض انّ هذا الاتفاق شكل «انتصاراً» لتركيا واستجابة أميركية لمطلب تركي مزمن عمره عدة سنوات عجزت تركيا عن تحقيقه بمفردها يوم طرحته، عجزاً فرضته اعتبارات شتى منها الى جانب الصعوبات العسكرية والقانونية من الجانب السوري، رفض أميركا للمنطقة الآمنة التي تديرها وتسيطر عليها تركيا لأنها تشكل مسّاً بمصالح الأكراد الذين تتخذهم أميركا أداة لتنفيذ خطتها في سورية في شكلها الأخير وهي الخطة القائمة اليوم على قائمتين: الأولى منع العودة إلى سورية الموحدة ذات الموقع الاستراتيجي المعروف، والثانية إطالة أمد الصراع ومنع سورية من استثمار الانتصارات الميدانية التي سجلتها مع حلفائها ضدّ الإرهاب ومن يدعمه على أراضيها.

 

 

لكن ظروفاً مستجدة فرضت مناورة أميركية وإظهار تساهل أميركي في الموضوع، من هذه الظروف محاولات اقتراب تركيا من روسيا، ومنها أيضاً عمليات الجيش السوري الناجحة في الأرياف الثلاثة حماة وحلب وإدلب، هذه الاعتبارات فرضت على أميركا الدخول في هذا الاتفاق دخولاً على الطريقة الانكلوسكسونية في صياغة القرارات والاتفاقات، وهي الطريقة التي تعتمد فيها المواقف والنصوص حمّالة الأوجه والتي يتعدّد فيها التأويل والتفسير الى حدّ التناقض، وقبلت تركيا السلوك الأميركي معتقدة بأنّ التنفيذ سيمكّنها من إجلاء الغموض ويحقق لها ما تريد.

 

وقع الطرفان الأميركي والتركي اتفاقاً يتناول أرضاً سورية وتناسياً أو تجاهلاً بأنّ الاتفاق المتضمّن عملاً على أرض الغير هو بحدّ ذاته عمل غير مشروع، ينتهك قواعد القانون الدولي العام ويشكل عدواناً على سيادة ووحدة أراضي واستقلال دولة مستقلة مؤسسة للأمم المتحدة، وكان طبيعياً ان ترفض الحكومة السورية هذا الاتفاق جملة وتفصيلاً وتبلغ الأمم المتحدة برفضها هذا وتطالبها بتحمّل مسؤولياتها لمنع تنفيذه. طبعاً الأمم المتحدة لم تستجب كعادتها للمطلب السوري بسبب السيطرة الغربية بقيادة أميركية على أجهزة هذه المنظمة.

 

اما «قسد» قوات سورية الديمقراطية التي تدّعي تمثيل الأكراد، فقد تقبّلت الأمر على مضض، خاصة بعد ان تلقت ضمانات من أميركا تتضمّن ضمان وجودها ومصالحها والتعهّد بأن لا تمسّ المنطقة الآمنة التركية المشروع الانفصالي الكردي، بل تساهم في حمايته وتعزيزه وتخفيف الأعباء التي يتطلبها.

 

وبعد التوقيع انتظر الجميع البدء بوضع الاتفاق موضع التنفيذ، وبالفعل أعلن عن إنشاء غرفة عمليات تركية أميركية تعنى بإنشاء وإدارة المنطقة الآمنة تلك وهي منطقة سيطرة لتركيا وآمنة لها ولمشروعها الخاص في سورية ، ثم أعلن عن بدء تسيير الدوريات المشتركة من الجانبيين إيذاناً ببدء التنفيذ الميداني المباشر، وهنا كانت النتائج المخزية لأردوغان وخيبة كبرى له، خيبة تلقاها كالصاعقة تسقط على رأسه حين أدرك بأنّ الأميركيين خدعوه وأنّ المنطقة الآمنة التي ظنّ أنه انتصر في إنشائها بموافقة لا بل بمساعدة أميركية هي وهْم لم ولن يتحقق منه شيء من الباب الأميركي، وانه على حدّ قوله «في خلاف مع الأميركيين في كلّ شيء يتعلق بالمنطقة الآمنة»، وقد عزز هذا الأمر ما صدر عن «قسد» تعليقاً على الدوريات المشتركة تلك حيث أكدت الإدارة الذاتية لهذه المنظمة الانفصالية الكردية «أنّ الدوريات تؤمّن لها الأمن والاستقرار، وانّ مسارها محدّد ومقيّد، وانّ مهمّتها لا تتناقض مع مهمة الأكراد، وأخيراً انّ توقيتها محدود وقصير تعود بعده إلى الأراضي التركية، ثم ولمزيد من الاستفزاز لأردوغان قامت بـ «شكر «الشركاء» في التحالف الدولي والجيش الأميركي لما «بذلوه من جهود للتوصل إلى تفاهمات تؤمّن الاستقرار والسلام» للإدارة الذاتية» شرقي الفرات».

 

وعليه نقول انّ طموح أردوغان بإنشاء منطقة آمنة هو طموح عدواني غير مشروع، وغير قابل للتحقق والنجاح، لأنه يصطدم بثلاثة أنواع من العقبات والصعوبات والعوائق يمكن ذكرها كالتالي:

 

أولاً: الرفض السوري القاطع وعزم سورية على التصدي لإسقاط المشروع بكلّ السبل والوسائل المتاحة، وهي مواقف عبّرت عنها سورية بوضوح كلي سواء يوم أبرم الاتفاق التركي الأميركي كما يوم بدأت الدوريات المشتركة حيث اختصر الموقف السوري بعبارة: «انّ سورية تؤكد أنّ هذه الخطوة تمثل عدواناً موصوفاً بكلّ معنى الكلمة وتهدف إلى تعقيد وإطالة أمد الأزمة في سورية بعد الإنجازات التي حققها الجيش العربي السوري» وتعهّدت الحكومة السورية بإسقاط هذا المشروع كما أسقطت ما سبقه من مشاريع عدوانية.

 

ثانياً: المراوغة والتقلب الأميركي وعدم الجدية في التنفيذ كما وعدم اهتمام القوى الأوروبية بالمطالب التركية. تأكد وبشكل قاطع أنّ أردوغان لم يستطع الاستحصال على دعم أميركي وأوروبي جدّي لإنشاء «المنطقة الآمنة لتركيا». وانّ هؤلاء باتوا يدركون بأنّ مشاريعهم العدوانية في سورية آيلة إلى السقوط بسبب الرفض والمقاومة السورية لها. وانّ تهديد أردوغان باللاجئين وبالإرهابيين وبأنه قد يفتح أبوابه ليتدفق هؤلاء إلى أوروبا إنْ لم تساعده في إنشاء المنطقة الآمنة وتمويل إقامة السوريين في تركيا، ان كلّ هذا التهويل والتهديد التركي لم يغيّر في واقع الرفض الغربي الواضح والامتناع عن الدعم المالي او الميداني له في مشروعه ذاك.

 

ثالثاً: الصعوبات العملانية والميدانية التي تواجه الجيش التركي بسبب رفض الأكراد والسكان المحليين لمشروع منطقة السيطرة التركية على أرض سورية. اذ لا يقتصر الرفض السوري للمشروع التركي على الحكومة السورية فحسب بل انه رفض يبديه المواطنون السوريون في المنطقة ذات الصلة وهم مستعدون للقيام بأعمال مقاومة وطنية لمنع التركي من الاستقرار في مناطقهم. وكذلك سيقوم قسد وبتفاهم خفي مع أميركا بعمليات ضدّ الجيش التركي في حال دخوله الى عمق الأراضي السورية بمسافة تتعدّى الـ 5 كلم وقد تصل الى 45 كلم كما يعلن أردوغان.

 

لكلّ ما تقدّم نستطيع القول إنّ السعي التركي لإقامة منطقة آمنة لتركيا على الأراضي السورية محكوم بالفشل الأكيد، وانّ منطقة شرقي الفرات كما منطقة الشمال السوري على الحدود مع تركيا لن تقتطع من سورية تحت أيّ مسمّى، وانّ التذاكي التركي والقول بانّ الجيش التركي سيخرج كلياً من سورية بعد الحلّ السياسي لن يغيّر من حقيقة ثابتة هي انّ أيّ وجود أجنبي على الأرض السورية بدون موافقة حكومتها الشرعية ومهما كان حجمه وكانت مدّته إنما هو احتلال يستوجب المقاومة لإزالته أياً كان القائم به.

  • فريق ماسة
  • 2019-09-09
  • 15362
  • من الأرشيف

المنطقة الآمنة: خيبة لتركيا ومشروع فشل إضافي

بعد طويل تجاذب وتنافر وكرّ وفر وقعت أميركا وتركيا منذ أسابيع قليلة اتفاقاً يتناول انشاء «منطقة آمنة» في الشمال السوري أحاطه الطرفان بغموض وضبابية لترك المجال مفتوحاً لمناورتهما ولتفسيره بما يتناسب ومصالح كلّ منهما واستراتيجيته في سورية.   وقد اعتبر البعض انّ هذا الاتفاق شكل «انتصاراً» لتركيا واستجابة أميركية لمطلب تركي مزمن عمره عدة سنوات عجزت تركيا عن تحقيقه بمفردها يوم طرحته، عجزاً فرضته اعتبارات شتى منها الى جانب الصعوبات العسكرية والقانونية من الجانب السوري، رفض أميركا للمنطقة الآمنة التي تديرها وتسيطر عليها تركيا لأنها تشكل مسّاً بمصالح الأكراد الذين تتخذهم أميركا أداة لتنفيذ خطتها في سورية في شكلها الأخير وهي الخطة القائمة اليوم على قائمتين: الأولى منع العودة إلى سورية الموحدة ذات الموقع الاستراتيجي المعروف، والثانية إطالة أمد الصراع ومنع سورية من استثمار الانتصارات الميدانية التي سجلتها مع حلفائها ضدّ الإرهاب ومن يدعمه على أراضيها.     لكن ظروفاً مستجدة فرضت مناورة أميركية وإظهار تساهل أميركي في الموضوع، من هذه الظروف محاولات اقتراب تركيا من روسيا، ومنها أيضاً عمليات الجيش السوري الناجحة في الأرياف الثلاثة حماة وحلب وإدلب، هذه الاعتبارات فرضت على أميركا الدخول في هذا الاتفاق دخولاً على الطريقة الانكلوسكسونية في صياغة القرارات والاتفاقات، وهي الطريقة التي تعتمد فيها المواقف والنصوص حمّالة الأوجه والتي يتعدّد فيها التأويل والتفسير الى حدّ التناقض، وقبلت تركيا السلوك الأميركي معتقدة بأنّ التنفيذ سيمكّنها من إجلاء الغموض ويحقق لها ما تريد.   وقع الطرفان الأميركي والتركي اتفاقاً يتناول أرضاً سورية وتناسياً أو تجاهلاً بأنّ الاتفاق المتضمّن عملاً على أرض الغير هو بحدّ ذاته عمل غير مشروع، ينتهك قواعد القانون الدولي العام ويشكل عدواناً على سيادة ووحدة أراضي واستقلال دولة مستقلة مؤسسة للأمم المتحدة، وكان طبيعياً ان ترفض الحكومة السورية هذا الاتفاق جملة وتفصيلاً وتبلغ الأمم المتحدة برفضها هذا وتطالبها بتحمّل مسؤولياتها لمنع تنفيذه. طبعاً الأمم المتحدة لم تستجب كعادتها للمطلب السوري بسبب السيطرة الغربية بقيادة أميركية على أجهزة هذه المنظمة.   اما «قسد» قوات سورية الديمقراطية التي تدّعي تمثيل الأكراد، فقد تقبّلت الأمر على مضض، خاصة بعد ان تلقت ضمانات من أميركا تتضمّن ضمان وجودها ومصالحها والتعهّد بأن لا تمسّ المنطقة الآمنة التركية المشروع الانفصالي الكردي، بل تساهم في حمايته وتعزيزه وتخفيف الأعباء التي يتطلبها.   وبعد التوقيع انتظر الجميع البدء بوضع الاتفاق موضع التنفيذ، وبالفعل أعلن عن إنشاء غرفة عمليات تركية أميركية تعنى بإنشاء وإدارة المنطقة الآمنة تلك وهي منطقة سيطرة لتركيا وآمنة لها ولمشروعها الخاص في سورية ، ثم أعلن عن بدء تسيير الدوريات المشتركة من الجانبيين إيذاناً ببدء التنفيذ الميداني المباشر، وهنا كانت النتائج المخزية لأردوغان وخيبة كبرى له، خيبة تلقاها كالصاعقة تسقط على رأسه حين أدرك بأنّ الأميركيين خدعوه وأنّ المنطقة الآمنة التي ظنّ أنه انتصر في إنشائها بموافقة لا بل بمساعدة أميركية هي وهْم لم ولن يتحقق منه شيء من الباب الأميركي، وانه على حدّ قوله «في خلاف مع الأميركيين في كلّ شيء يتعلق بالمنطقة الآمنة»، وقد عزز هذا الأمر ما صدر عن «قسد» تعليقاً على الدوريات المشتركة تلك حيث أكدت الإدارة الذاتية لهذه المنظمة الانفصالية الكردية «أنّ الدوريات تؤمّن لها الأمن والاستقرار، وانّ مسارها محدّد ومقيّد، وانّ مهمّتها لا تتناقض مع مهمة الأكراد، وأخيراً انّ توقيتها محدود وقصير تعود بعده إلى الأراضي التركية، ثم ولمزيد من الاستفزاز لأردوغان قامت بـ «شكر «الشركاء» في التحالف الدولي والجيش الأميركي لما «بذلوه من جهود للتوصل إلى تفاهمات تؤمّن الاستقرار والسلام» للإدارة الذاتية» شرقي الفرات».   وعليه نقول انّ طموح أردوغان بإنشاء منطقة آمنة هو طموح عدواني غير مشروع، وغير قابل للتحقق والنجاح، لأنه يصطدم بثلاثة أنواع من العقبات والصعوبات والعوائق يمكن ذكرها كالتالي:   أولاً: الرفض السوري القاطع وعزم سورية على التصدي لإسقاط المشروع بكلّ السبل والوسائل المتاحة، وهي مواقف عبّرت عنها سورية بوضوح كلي سواء يوم أبرم الاتفاق التركي الأميركي كما يوم بدأت الدوريات المشتركة حيث اختصر الموقف السوري بعبارة: «انّ سورية تؤكد أنّ هذه الخطوة تمثل عدواناً موصوفاً بكلّ معنى الكلمة وتهدف إلى تعقيد وإطالة أمد الأزمة في سورية بعد الإنجازات التي حققها الجيش العربي السوري» وتعهّدت الحكومة السورية بإسقاط هذا المشروع كما أسقطت ما سبقه من مشاريع عدوانية.   ثانياً: المراوغة والتقلب الأميركي وعدم الجدية في التنفيذ كما وعدم اهتمام القوى الأوروبية بالمطالب التركية. تأكد وبشكل قاطع أنّ أردوغان لم يستطع الاستحصال على دعم أميركي وأوروبي جدّي لإنشاء «المنطقة الآمنة لتركيا». وانّ هؤلاء باتوا يدركون بأنّ مشاريعهم العدوانية في سورية آيلة إلى السقوط بسبب الرفض والمقاومة السورية لها. وانّ تهديد أردوغان باللاجئين وبالإرهابيين وبأنه قد يفتح أبوابه ليتدفق هؤلاء إلى أوروبا إنْ لم تساعده في إنشاء المنطقة الآمنة وتمويل إقامة السوريين في تركيا، ان كلّ هذا التهويل والتهديد التركي لم يغيّر في واقع الرفض الغربي الواضح والامتناع عن الدعم المالي او الميداني له في مشروعه ذاك.   ثالثاً: الصعوبات العملانية والميدانية التي تواجه الجيش التركي بسبب رفض الأكراد والسكان المحليين لمشروع منطقة السيطرة التركية على أرض سورية. اذ لا يقتصر الرفض السوري للمشروع التركي على الحكومة السورية فحسب بل انه رفض يبديه المواطنون السوريون في المنطقة ذات الصلة وهم مستعدون للقيام بأعمال مقاومة وطنية لمنع التركي من الاستقرار في مناطقهم. وكذلك سيقوم قسد وبتفاهم خفي مع أميركا بعمليات ضدّ الجيش التركي في حال دخوله الى عمق الأراضي السورية بمسافة تتعدّى الـ 5 كلم وقد تصل الى 45 كلم كما يعلن أردوغان.   لكلّ ما تقدّم نستطيع القول إنّ السعي التركي لإقامة منطقة آمنة لتركيا على الأراضي السورية محكوم بالفشل الأكيد، وانّ منطقة شرقي الفرات كما منطقة الشمال السوري على الحدود مع تركيا لن تقتطع من سورية تحت أيّ مسمّى، وانّ التذاكي التركي والقول بانّ الجيش التركي سيخرج كلياً من سورية بعد الحلّ السياسي لن يغيّر من حقيقة ثابتة هي انّ أيّ وجود أجنبي على الأرض السورية بدون موافقة حكومتها الشرعية ومهما كان حجمه وكانت مدّته إنما هو احتلال يستوجب المقاومة لإزالته أياً كان القائم به.

المصدر : العميد د. أمين محمد حطيط


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة