ان حجم الاهانات التي وجهها الرئيس الأميركي دونالد ترامب للسعودية قبل وبعد انتخابه كانت كفيلة باندلاع حرب ضروس بين عدوين. لكن المفارقة أن العدو هذه المرة هو نفسه خشبة الخلاص من الكبوات الكثيرة، فكيف لا يتمادى في وقاحته؟

 

مع ذلك فان ما فعله ترامب قبل قتل الصحافي جمال خاشقجي شيء، وما سيفعله بعد اليوم شيء آخر ذلك ان السعودية تجد نفسها بين ليلة وضحاها مضطرة أكثر من أي وقت مضى لمصادقة جلاّدها، وهو لن يتوان في مضاعفة الاهانات ورفع مستوى الطلبات بلغة الأوامر.

 

بالمقابل، يبدو محور المقاومة الذي لم يُبد رسميا أي شماتة بكيفية قتل خاشقجي ( خلافا لجزء من المثقفين والإعلاميين المحسوبين عليه)، مُرتاحا أكثر من أي وقت مضى لما آلت اليه حال السعودية في أعقاب سنوات من قيادتها مع قطر جامعة الدول العربية دون مواجهة أي معارضة فعلية في الداخل باستثناء بعض المواقف الشجاعة التي عبّر عنها وزير الخارجية اللبناني د. عدنان منصور ووزيرا خارجية الجزائر والعراق خصوصا حيال سوريا.

لا شك أن هذا الخطأ الغريب والمريب بقتل خاشقجي داخل قنصلية بلاده وبطريقة وحشية (وفق معلومات دقيقة ستُكشف قريبا)، قدّم هدية قيّمة لأطراف عديدة أولها محور المقاومة بما فيه إيران وشريكته روسيا، وثانيها تركيا وثالثها قطر.

 

ليس مهما كيف ستنتهي رواية خاشقجي، فمهما قيل، لن يُقنع العالم بعد اليوم ببراءة الأمير محمد بن سلمان، الأمر الذي سيحوّله من رجُلٍ جذب جزءا كبيرا من جيل الشباب في بلاده بفضل إصلاحات دينية وفنية واجتماعية عديدة، الى عبء حتى على أهم حلفائه، الأمر الذي سيدفعه الى مزيد من التشدد والقسوة في الداخل السعودي خشية بروز منافسين له يحظون بدعم خارجي، مما يزيد عدد خصومه في الداخل الذين لم ولن يسنوا اذلاله لهم في فندق الريتز .

كما أن الأمير محمد سيجد نفسه كذلك أمام آلة جهنمية خطيرة من اللوبي الصهيوني في اميركا لدفعه دفعا الى الانفتاح على إسرائيل على أساس أنها خشبة الخلاص من مأزقه الحالي. لعل هذا بالضبط ما كان في ذهن بعض الأجهزة الأجنبية التي شجعت على فخ قتل خاشقجي، ذلك أن شكوكا كثيرة تحوم حول دور مزعوم لصهر ترامب جاريد كوشنر المجبول جبلا على الصهيونية. وهنا أيضا سينزلق الى فخ خطير لو قبل النصيحة.

 

ليست السعودية أول دولة عربية تقتل وتغتال وتسحل صحافيين، فسجلُّنا العربي للأسف حافل بالأمثلة، و"من كان منكم بلا خطيئة فليرجمها بحجر" كما قال السيد المسيح. لكن قتل خاشقجي الذي جاء في ذروة ثورة وسائل التواصل الاجتماعي وبهذا الشكل الوحشي والوقح، أعقب فشلا ذريعا في السياسة الخارجية للسعودية مقابل نجاحات غير منتظرة لمحور المقاومة، وهذه بعض الأمثلة :

 

• في سوريا تشارف الحرب على الانتهاء بقيادة الرئيس بشار الأسد مكرّسة نموذجا فريدا من الحروب العالمية يفيد بأن ليس كل ما تقرره أميركا وإسرائيل وحلفاؤهما ينجح، وليست الهزيمة قدرا محتوما. على العكس تماما، فان الدول التي تعرف كيف تدافع عن نفسها وتعرف مع من تنسج علاقات استراتيجية، تستطيع صد أعتى الرياح. وها هي سوريا الحضارة والتاريخ والدور تقوم من تحت الركام، رافعة رأسها بكرامة، وهازمة اعتى وأشرس وأسوا حرب عالمية وإقليمية على أرضها. ولأنها كذلك فان السعودية وقطر خسرتا الرهان في سوريا مقابل ربحه من قبل روسيا وايران وحب الله خلف الرئيس الأسد وجيشه.

• وفي العراق، كرّست الانتخابات الأخيرة وما انتجته من رئيس ورئيس للوزراء معادلة جديدة رسّخت التحالف مع ايران بعد محاولة زعزعة الدور الايراني عبر ما حصل في البصرة. هنا أيضا ربحت ايران وخسرت السعودية.

• وفي اليمن، لا شك أن حلفاء محور المقاومة يشعرون اليوم وأكثر من أي وقت مضى براحة استثنائية، حيث أن عيون العالم ستُفتح أكثر بعد قتل خاشقجي على المآسي الانسانية الهائلة التي يتعرض لها الشعب اليمني الأصيل. وربما ما عاد أمام السعودية سوى النزول عن الشجرة بعملية سياسية يكون فيها للحوثيين دور كبير في السلطة.

• وفي لبنان، يبدو حلفاء السعودية وأكثر من أي وقت مضى في موقع حرج جدا وقد يضطرون للقبول اليوم بما رفضوه طويلا حيال تشكيل الحكومة وغيرها. ولولا الحكمة الاستثنائية التي يُمارسها الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله لربما تصرّف مع حليفه رئيس الجمهورية العماد ميشال عون بطريقة أخرى واسرع.

 

الواقع أن قتل خاشقجي جاء في لحظة إقليمية مفصلية، كنّا فيها على أبواب تشكيل " ناتو" عربي (وكأنما الناتو الغربي غمرنا بحبه وياسمينه طيلة العقود الماضية)، وكنّا فيها على أعتاب المضي سريعا في صفقة القرن، وكنّا فيها نشهد قيام مشاريع مشتركة في المنطقة الواقعة بين الأردن والسعودية ومصر وإسرائيل (خصوصا مشروع نيوم الشهير) ، وكنّا فيها نرى تقاطر قادة افريقيا المحاذين للبحر الأحمر ( رؤوساء اثيوبيا واريتريا وجيبوتي والسودان) الى الرياض لتوقيع اتفاقيات تخدم كثيرا مشروع السعودية بتطويق ايران.

 

لا ندري الآم ستؤول أحوال السعودية، وهل يستمر الضغط عليها لتحسين السلوك فقط ولمزيد من الابتزاز المالي أم يصل الأمر الى حد محاولة استبدال محمد بن سلمان برجل آخر رغم صعوبة وخطورة الأمر داخليا. فقد صار لولي العهد من الأعداء في الداخل والخارج ما يجعل وصوله الى العرش صعبا (لكن ليس مستحيلا) وبقاءه ضعيفا جدا بحيث لو زار دولة أجنبية ستكون التظاهرات المناهضة له بانتظاره.

الأكيد ان ما حصل يُعلّمنا دروسا مهمة في هذا التاريخ الحديث، ومفاد الدرس الأول هو أن روسيا أكثر وفاء وصلابة مع حلفائها من الولايات المتحدة، وأن الدول التي عرفت كيف تطور قدراتها الذاتية وحققت اكتفاء ذاتيا وضاعفت مرات عديدة علومها كإيران هي الدول التي تفرض احترامها أو قوتها على الآخرين، وان الدول التي رفضت الخنوع للأميركي ربحت الرهان ولو بعد تضحيات كبيرة كسوريا.

لو كنت مكان السعودية، لطلبت عقد قمة عربية إيرانية تركية تفتح صفحة جديدة في المنطقة، ولاستقبلت بالترحاب الرئيس بوتين، ولسارعت للتصالح مع سوريا ولأنهيت حرب اليمن، ولأعلنت اليوم قبل غد أن إسرائيل عدو لا صلح معه طالما أنه يغتصب أرض فلسطين ويمارس كل صنوف التمييز العنصري ويقتل شعبها الأعزل. أما اذا دفع بعض المستشارين الأمير محمد الى فخ فتح علاقة مع إسرائيل لإنقاذ عرشه وصد الرياح الغربية عنه، فان هذا قد يصيبه في المقتل.

لا شك أن أميركا تفكّر بكل هذا، وتعرف أن اهتزاز السعودية سيؤثر على دورها ويُفقدها حليفا كبيرا، لذلك فاننا أمام أسابيع حاسمة سنرى فيها ترامب مُجاهدا لإنقاذ السعودية، فلو نجح في إعادة تعويم محمد بن سلمان يكون الأمر جيدا له، وان لم ينجح، فهو لن يتردد في التضحية به لأجل رجل آخر، ذلك أن المصالح في عرفه أهم من المباديء، وان هاجسه الحالي وهاجس ادارته هو منع محور المقاومة من توظيف خطأ السعودية القاتل لصالحه.

  • فريق ماسة
  • 2018-10-22
  • 13295
  • من الأرشيف

هدية الخاشقجي لمحور المقاومة... ماذا عن اسرائيل ؟

ان حجم الاهانات التي وجهها الرئيس الأميركي دونالد ترامب للسعودية قبل وبعد انتخابه كانت كفيلة باندلاع حرب ضروس بين عدوين. لكن المفارقة أن العدو هذه المرة هو نفسه خشبة الخلاص من الكبوات الكثيرة، فكيف لا يتمادى في وقاحته؟   مع ذلك فان ما فعله ترامب قبل قتل الصحافي جمال خاشقجي شيء، وما سيفعله بعد اليوم شيء آخر ذلك ان السعودية تجد نفسها بين ليلة وضحاها مضطرة أكثر من أي وقت مضى لمصادقة جلاّدها، وهو لن يتوان في مضاعفة الاهانات ورفع مستوى الطلبات بلغة الأوامر.   بالمقابل، يبدو محور المقاومة الذي لم يُبد رسميا أي شماتة بكيفية قتل خاشقجي ( خلافا لجزء من المثقفين والإعلاميين المحسوبين عليه)، مُرتاحا أكثر من أي وقت مضى لما آلت اليه حال السعودية في أعقاب سنوات من قيادتها مع قطر جامعة الدول العربية دون مواجهة أي معارضة فعلية في الداخل باستثناء بعض المواقف الشجاعة التي عبّر عنها وزير الخارجية اللبناني د. عدنان منصور ووزيرا خارجية الجزائر والعراق خصوصا حيال سوريا. لا شك أن هذا الخطأ الغريب والمريب بقتل خاشقجي داخل قنصلية بلاده وبطريقة وحشية (وفق معلومات دقيقة ستُكشف قريبا)، قدّم هدية قيّمة لأطراف عديدة أولها محور المقاومة بما فيه إيران وشريكته روسيا، وثانيها تركيا وثالثها قطر.   ليس مهما كيف ستنتهي رواية خاشقجي، فمهما قيل، لن يُقنع العالم بعد اليوم ببراءة الأمير محمد بن سلمان، الأمر الذي سيحوّله من رجُلٍ جذب جزءا كبيرا من جيل الشباب في بلاده بفضل إصلاحات دينية وفنية واجتماعية عديدة، الى عبء حتى على أهم حلفائه، الأمر الذي سيدفعه الى مزيد من التشدد والقسوة في الداخل السعودي خشية بروز منافسين له يحظون بدعم خارجي، مما يزيد عدد خصومه في الداخل الذين لم ولن يسنوا اذلاله لهم في فندق الريتز . كما أن الأمير محمد سيجد نفسه كذلك أمام آلة جهنمية خطيرة من اللوبي الصهيوني في اميركا لدفعه دفعا الى الانفتاح على إسرائيل على أساس أنها خشبة الخلاص من مأزقه الحالي. لعل هذا بالضبط ما كان في ذهن بعض الأجهزة الأجنبية التي شجعت على فخ قتل خاشقجي، ذلك أن شكوكا كثيرة تحوم حول دور مزعوم لصهر ترامب جاريد كوشنر المجبول جبلا على الصهيونية. وهنا أيضا سينزلق الى فخ خطير لو قبل النصيحة.   ليست السعودية أول دولة عربية تقتل وتغتال وتسحل صحافيين، فسجلُّنا العربي للأسف حافل بالأمثلة، و"من كان منكم بلا خطيئة فليرجمها بحجر" كما قال السيد المسيح. لكن قتل خاشقجي الذي جاء في ذروة ثورة وسائل التواصل الاجتماعي وبهذا الشكل الوحشي والوقح، أعقب فشلا ذريعا في السياسة الخارجية للسعودية مقابل نجاحات غير منتظرة لمحور المقاومة، وهذه بعض الأمثلة :   • في سوريا تشارف الحرب على الانتهاء بقيادة الرئيس بشار الأسد مكرّسة نموذجا فريدا من الحروب العالمية يفيد بأن ليس كل ما تقرره أميركا وإسرائيل وحلفاؤهما ينجح، وليست الهزيمة قدرا محتوما. على العكس تماما، فان الدول التي تعرف كيف تدافع عن نفسها وتعرف مع من تنسج علاقات استراتيجية، تستطيع صد أعتى الرياح. وها هي سوريا الحضارة والتاريخ والدور تقوم من تحت الركام، رافعة رأسها بكرامة، وهازمة اعتى وأشرس وأسوا حرب عالمية وإقليمية على أرضها. ولأنها كذلك فان السعودية وقطر خسرتا الرهان في سوريا مقابل ربحه من قبل روسيا وايران وحب الله خلف الرئيس الأسد وجيشه. • وفي العراق، كرّست الانتخابات الأخيرة وما انتجته من رئيس ورئيس للوزراء معادلة جديدة رسّخت التحالف مع ايران بعد محاولة زعزعة الدور الايراني عبر ما حصل في البصرة. هنا أيضا ربحت ايران وخسرت السعودية. • وفي اليمن، لا شك أن حلفاء محور المقاومة يشعرون اليوم وأكثر من أي وقت مضى براحة استثنائية، حيث أن عيون العالم ستُفتح أكثر بعد قتل خاشقجي على المآسي الانسانية الهائلة التي يتعرض لها الشعب اليمني الأصيل. وربما ما عاد أمام السعودية سوى النزول عن الشجرة بعملية سياسية يكون فيها للحوثيين دور كبير في السلطة. • وفي لبنان، يبدو حلفاء السعودية وأكثر من أي وقت مضى في موقع حرج جدا وقد يضطرون للقبول اليوم بما رفضوه طويلا حيال تشكيل الحكومة وغيرها. ولولا الحكمة الاستثنائية التي يُمارسها الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله لربما تصرّف مع حليفه رئيس الجمهورية العماد ميشال عون بطريقة أخرى واسرع.   الواقع أن قتل خاشقجي جاء في لحظة إقليمية مفصلية، كنّا فيها على أبواب تشكيل " ناتو" عربي (وكأنما الناتو الغربي غمرنا بحبه وياسمينه طيلة العقود الماضية)، وكنّا فيها على أعتاب المضي سريعا في صفقة القرن، وكنّا فيها نشهد قيام مشاريع مشتركة في المنطقة الواقعة بين الأردن والسعودية ومصر وإسرائيل (خصوصا مشروع نيوم الشهير) ، وكنّا فيها نرى تقاطر قادة افريقيا المحاذين للبحر الأحمر ( رؤوساء اثيوبيا واريتريا وجيبوتي والسودان) الى الرياض لتوقيع اتفاقيات تخدم كثيرا مشروع السعودية بتطويق ايران.   لا ندري الآم ستؤول أحوال السعودية، وهل يستمر الضغط عليها لتحسين السلوك فقط ولمزيد من الابتزاز المالي أم يصل الأمر الى حد محاولة استبدال محمد بن سلمان برجل آخر رغم صعوبة وخطورة الأمر داخليا. فقد صار لولي العهد من الأعداء في الداخل والخارج ما يجعل وصوله الى العرش صعبا (لكن ليس مستحيلا) وبقاءه ضعيفا جدا بحيث لو زار دولة أجنبية ستكون التظاهرات المناهضة له بانتظاره. الأكيد ان ما حصل يُعلّمنا دروسا مهمة في هذا التاريخ الحديث، ومفاد الدرس الأول هو أن روسيا أكثر وفاء وصلابة مع حلفائها من الولايات المتحدة، وأن الدول التي عرفت كيف تطور قدراتها الذاتية وحققت اكتفاء ذاتيا وضاعفت مرات عديدة علومها كإيران هي الدول التي تفرض احترامها أو قوتها على الآخرين، وان الدول التي رفضت الخنوع للأميركي ربحت الرهان ولو بعد تضحيات كبيرة كسوريا. لو كنت مكان السعودية، لطلبت عقد قمة عربية إيرانية تركية تفتح صفحة جديدة في المنطقة، ولاستقبلت بالترحاب الرئيس بوتين، ولسارعت للتصالح مع سوريا ولأنهيت حرب اليمن، ولأعلنت اليوم قبل غد أن إسرائيل عدو لا صلح معه طالما أنه يغتصب أرض فلسطين ويمارس كل صنوف التمييز العنصري ويقتل شعبها الأعزل. أما اذا دفع بعض المستشارين الأمير محمد الى فخ فتح علاقة مع إسرائيل لإنقاذ عرشه وصد الرياح الغربية عنه، فان هذا قد يصيبه في المقتل. لا شك أن أميركا تفكّر بكل هذا، وتعرف أن اهتزاز السعودية سيؤثر على دورها ويُفقدها حليفا كبيرا، لذلك فاننا أمام أسابيع حاسمة سنرى فيها ترامب مُجاهدا لإنقاذ السعودية، فلو نجح في إعادة تعويم محمد بن سلمان يكون الأمر جيدا له، وان لم ينجح، فهو لن يتردد في التضحية به لأجل رجل آخر، ذلك أن المصالح في عرفه أهم من المباديء، وان هاجسه الحالي وهاجس ادارته هو منع محور المقاومة من توظيف خطأ السعودية القاتل لصالحه.

المصدر : سامي كليب


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة