قارورة العطر التي تفتحها ولاتنبعث منها رائحة العطر جديرة بأن تعامل كزجاجة في مخبر طبي .. أو كحوجلة للاختبار الكيماوي .. وزجاجة النبيذ التي لاتسكب سائلا متوهجا يضيء كالضوء أو يتضوع بنكهة اليانسون ولاتشتعل في جوانحك لافرق بينها وبين زجاجة ملئت بماء البحر .. فهل يسكر ماء البحر المالح لو شربته كله؟؟ .. وليست كل دواة فيها حبر تخط المجد .. فما يقوله الحبر هو ما يجعل الحبر نارا ومجدا وذهبا مسالا .. أو يجعله ماء آسنا داكنا .. فبورك المعنى الذي يعطي الحبر قيمة الماس المسال .. وبئس الكلام الذي يحيل الحبر الى لعاب الهواء

فواحرّ قلباه .. وأنا أمر بحالة من الغثيان والمرض كلما تأملت بلاد المتنبي .. فأكاد أتقيأ الف مرة في اليوم من السقم .. وأنا أستمع الى أخبار الساسة في العراق .. ففي هذا البلد أنا لاأستمع الى نشرة في السياسة بل الى نشرة في نشوء المذاهب والأعراق وربما الى نشرة في تطور الأنواع لدارون .. فما نسمع عنه في العراق هو أنواع للحياة السياسية البدائية ماقبل القبلية التي تتطور كما تتطور الثدييات والزواحف ..

في بلاد آشور وبانيبال والثور المجنح لاأجنحة ولا أبطال مجنحون ولا سرجون .. بل لاأرى الا الأقزام السبعين .. فنحن في هذه الايام نسمع شيئا عن البيوت السياسية العراقية.. وهي سبعون بيتا .. ونشم رائحة العباءات القديمة ورائحة الرمال .. ولكنها ليست بيوتا للسياسة بل بيوت للأقزام .. فمن يسمع أخبار العراق لايصادف العراق ولايراه ولايصدمه رذاذ ماء الفرات او دجلة بل يسمع بالبيت السني والبيت الشيعي والبيت الكردي .. وبيت سامراء وبيت كربلاء وبيت الأنبار .. وحتى البيت الشيعي صارت فيه غرف شرقية وغربية وقبلية ..وفي البيت السني هناك ماتحت الانتماءات .. فهناك من ينتمي للقبو او من ينتمي للحمامات أو المطبخ او السقيفة او غرفة النوم .. و يتطاول الأقزام ويقفون على رؤوس أصابعهم ليقنعونا أنهم عمالقة في بيوت الأقزام ..

وكما العراق صار بيتا للأقزام بعد ان كان بيتا وقلعة للعمالقة .. فاننا ننظر غربا الى لبنان بلاد الحئيئة التي ليس فيها اي حقيقة .. سوى أنها بلاد لأقزام السياسة .. لكل طائفة أقزامها .. وكل قزم يتطاول ويتنافخ ويملأ صدره بالهواء دفاعا عن طائفته كما يدافع الفحل عن أناثه ضد الفحول الأخرى .. فالكتل السياسية مكونة من كتل طائفية لكل طائفة فحلها .. وهي مسكوبة من عصير القرون الغابرة في كؤوس مصنوعة من قيء زعماء الطوائف ولغتهم وأشعارهم القبيحة .. وحده حسن نصرالله يبدو في جزيرة أقزام لبنان مثل عملاق كبير على جزيرة الاقزام .. لايتسع له كرسي ولاطاولة حوار ولابيت .. فكيف يجالس العملاق أقزام لبنان السبعة .. وكيف يجلس الراعي مع الفحول والديوك؟ ..

وكلما تأملت التجربة السياسية في هذين البلدين .. أجد لزاما علي أن أعيد النظر بفكرة الديمقراطية التي قتلنا أنفسنا من أجلها جيلا بعد جيل .. وعلينا أن نضع هذين النموذجين المشرقيين للدراسة والفحص والتأمل وعلى منضدة التشريح والتجربة لاستخلاص الدروس والعبر .. فنحن كنا نمتدح نموذج لبنان وحريته وديمقراطيته وشارع الحمراء فيه وكتبنا الشعر والقصائد في بيروت لأنها باريس العرب .. ولكن باريس العرب ليست كباريس الفرنجة حتى وان استعملت نفس الروج وحمرة الشفاه والكحل والثياب المقطعة ولثغت بالفرنسية .. لأننا لانسمع في باريس الفرنسية أن هناك كتلة مسيحية بروتستنانية وكتلة كاثوليكية وكتلة انغليكانية تحت قبة البرلمان .. ولانسمع بكتلة يهودية ولا بوذية .. وليس هناك بيوت للمسيحيين الكهنوت ولا للمسيحيين الارثوذوكس .. السياسة في بلاد الغال تفهم الديمقراطية على ان فيها قواعد وقيودا أكثر بكثير من القيود في الديكتاتوريات .. وأهم قيودها أنها تربط الفحول في الزرائب ولاتسمح لهم ان يكونوا رعاة للناس في البرلمان ..

المجتمعات التي يجب علينا ان ننطلق اليها منذ اليوم يجب ان تنطلق مبنية على فضيحة الديمقراطية التي مارسناها مرتين بنموذج لبنان وبنموذج العراق .. وهما نموذجان غربيان مسكوبان بالقوالب ومن تصميم أساتذة الديمقراطية الغربية على مقاسنا .. فلبنان هو انتاج فرنسا .. والعراق هو من انتاج أميريكا وانكلترة .. والنموذجان مقرفان ومقززان ويستفزان الرغبة في التقيؤ والسكن في الحمّام ..

والسؤال الذي سنطرحه هو ان كانت مجتمعاتنا عصية على الديمقراطية ولذلك فانها انجبت أقزام العراق ولبنان كنتيجة طبيهية لهذا اللقاء بين عدوين (نحن والديمقراطية) واننا ظلمنا أنفسنا اذ اعتنقنا هذا الدين الجديد الذي لايناسبنا ويشبه السم في الحلق .. أم أننا ظلمنا الديمقراطية التي هي شيء مفصل على مقاس العقل الغربي وارغمناها على ان تنزل كثوب ضيق على جسد مترهل بالاورام والشحوم القديمة التي لاتذوب ؟؟..

تبدو الديمقراطية هي عمليا خدعة كبيرة وقع فيها العقل الغربي قبل الشرقي .. وان تجلياتها في الشرق هي الحقيقة والنتيجة الظاهرة التي لاتخدع أحدا .. فالديمقراطية كمفهوم طبق بحذافيره في الشرق العربي حيث يحق لكل من يشاء ان يشكل حزبا على مقاسه لأن جذر الديمقراطية هو الحرية .. ولذلك أحس كل انسان في ديمقراطيات الشرق الجديدة انه قادر على ان يفصل حزبا على لونه وطائفته .. ومقاس رجله وخصره ومزاج زوجاته الأربع .. وهذا في الواقع لايطبق في الغرب .. فقواعد العمل السياسي في الغرب صارمة أكثر من القواعد في الديكتاتوريات .. ويصح ان نقول انها ديمقراطية ديكتاتورية .. وهذا مايضبط ايقاع السياسة فلا تتذبذب وتبقى في اتجاه واحد يخدم القوة العميقة التي تحدد قوانين اللعبة الديمقراطية وتغيرها كلما اقتضت مصلحتها ذلك .. ومافعلته القوى العميقة الغربية في تصديرها للديمقراطية كمفهوم هي انها صدرتها مثل النفط الخام دون تكرير وتصفية وتنقية .. فحصدنا ديمقراطيات لبنان الذي حول لبنان الى كونفيدراليات طوائف مستقلة وكل طائفة تتبع سفارة .. وحصدنا ديمقراطية العراق التي صدرت لنا أول بيوت سياسية طائفية وعرقية مشبوهة كبيوت الرذيلة ..

في هاتين الديمقراطيتين العربيتين اكتشفنا أن العقل العربي ليس مضادا للديمقراطية لكن الديمقراطية بنموذجها الغربي تشكل له فرصة للخروج عن طوره والجنون وظهور أعراض الموت عليه .. وبدل ان تربطه بالمستقبل فانها تربطه في الحال بالماضي القديم .. فهو لايزال يعيش في الماضي ويرفض ان يسير خطوة واحدة الى الامام دون أن يكون معه نبي من الأنبياء أو صحابي أو حواري ..

الديمقراطية هي وصفة مثالية لتسميم هذه المجتمعات وقتلها ببطء بالسم والزرنيخ .. وكل من يجد ان في هذا الكلام دفاعا عن الديكتاتوريات فانني أجد أنه يستحق ان ترمى عليه عباءة الخيانة أو السذاجة أو البلاهة .. فليست هناك علاقة بين الديمقراطية والحرية الا اذا كانت الحرية بذاتها حرة من سلاسل التخلف والزمن وغبار العبودية .. لأن الأفراد الأحرار ليسوا أحرارا اذا كانوا عبيدا لأوثان أو رموز .. ومثالنا على ذلك هو الحرية التي أعطيت للشرقيين الذين صنعوا رموزا تأسرهم وتستعبدهم .. وكانت النتيجة أن مرحلة مابعد الأنبياء هي المرحلة التي تقود عقلهم برمزياتها وشخصياتها .. ففي الحالة الاسلامية صار مابعد النبي هي مانسميه الاسلام وأن مرحلة النبي هي ماتسمى مرحلة ماقبل الاسلام .. لأن الاسلام هو اما شيعي واما سني .. وكلاهما نشأ بعد النبي .. أحدهما حول آل النبي والآخر حول أصحاب النبي .. الشخصيات التي تلت النبي هي التي تشكل الاحزاب السياسية والمزاج السياسي حتى اليوم .. ولذلك وجدنا ان اهانات النبي في الغرب واهانة المسجد الاقصى والقدس لم تحرك المشاعر السياسية الدينية الا من باب رفع العتب .. لكن ماحركها هو الاحساس باهانة الحسين أو السيدة عائشة .. فأصيبت الطوائف بالهستيريا والجنون .. وهو ماأدركته العقول المخابراتية الغربية التي وجدت ان الغضب من أجل اهانة النبي والمسجد الأقصى هادئ نسبيا .. ولكن الغضب من اهانة رموز مابعد النبي هو صاعق التفجير لان هذه العقول ترى الاسلام هو في مرحلة مابعد النبي .. وهذا ينطبق على القوى المسيحية الشرقية ففي لبنان كان هناك من يقبل باليهود – الذين قتلوا السيد المسيح وفق الرواية الانجيلية – على انهم حلفاء لأن حماية ارث مار مارون أهم من حماية المسيح وقيامته ومهده في عقول هؤلاء الذين تلخصت المسيحية لديهم بمار مارون أو الحواريين اكثر من السيد المسيح .. وصار الولاء للأستاذ والمعلم أثل شأنا من الولاء للتلامذة وتلامذة تلامذة التلامذة .. وهذا مايفسر ميل قوى مسيحية مثل الجعاجعة اللبنانيين لحماية مطالب اسرائيل ضد حزب الله وسورية وايران والقتال معها ببسالة في كل المعارك .. والتي التقت مع قوى مسلمة تجد ان عليها حماية الارث السني عبر حماية رمزية الصحابة .. لأنهما تنتميان الى نفس الفكر والجذر حيث الولاء لما بعد عيسى ومحمد .. فالتقت أيضا مع الاسرائيليين رغم ان التناقض الاسلامي اليهودي يجب ان يكون في الذروة ..

لذلك اسكبوا مافي هذه القوارير الديمقراطية من سوائل راكدة ودماء محفوظة منذ ألفي سنة وروائح تخرش الخياشيم .. واملؤوها بدم الورد ودم العطر .. فهل لمستم قبل اليوم دم الورد أو دم العطر؟؟ .. ودعكم من حديث الديمقراطية .. واسكبوا مافي زجاجات النبيذ لأن فيها ماء المستنقعات .. واملؤوها بدم العنب .. وحطموا دوى الحبر الذي تكتب به بيوت الطوائف .. واكتبوا بعد اليوم بدم الذهب .. ودم الماس .. كل خطاباتكم .. ورددوا معي: تبا للأقزام وأقزام الأقزام .. وطوبى للعمالقة الذين يدافعون عن بلاد يحكمها الأقزام ..

  • فريق ماسة
  • 2018-09-06
  • 13901
  • من الأرشيف

أقزام لبنان السبعة .. وأقزام العراق السبعون .. ديمقراطيات الأنبياء

قارورة العطر التي تفتحها ولاتنبعث منها رائحة العطر جديرة بأن تعامل كزجاجة في مخبر طبي .. أو كحوجلة للاختبار الكيماوي .. وزجاجة النبيذ التي لاتسكب سائلا متوهجا يضيء كالضوء أو يتضوع بنكهة اليانسون ولاتشتعل في جوانحك لافرق بينها وبين زجاجة ملئت بماء البحر .. فهل يسكر ماء البحر المالح لو شربته كله؟؟ .. وليست كل دواة فيها حبر تخط المجد .. فما يقوله الحبر هو ما يجعل الحبر نارا ومجدا وذهبا مسالا .. أو يجعله ماء آسنا داكنا .. فبورك المعنى الذي يعطي الحبر قيمة الماس المسال .. وبئس الكلام الذي يحيل الحبر الى لعاب الهواء فواحرّ قلباه .. وأنا أمر بحالة من الغثيان والمرض كلما تأملت بلاد المتنبي .. فأكاد أتقيأ الف مرة في اليوم من السقم .. وأنا أستمع الى أخبار الساسة في العراق .. ففي هذا البلد أنا لاأستمع الى نشرة في السياسة بل الى نشرة في نشوء المذاهب والأعراق وربما الى نشرة في تطور الأنواع لدارون .. فما نسمع عنه في العراق هو أنواع للحياة السياسية البدائية ماقبل القبلية التي تتطور كما تتطور الثدييات والزواحف .. في بلاد آشور وبانيبال والثور المجنح لاأجنحة ولا أبطال مجنحون ولا سرجون .. بل لاأرى الا الأقزام السبعين .. فنحن في هذه الايام نسمع شيئا عن البيوت السياسية العراقية.. وهي سبعون بيتا .. ونشم رائحة العباءات القديمة ورائحة الرمال .. ولكنها ليست بيوتا للسياسة بل بيوت للأقزام .. فمن يسمع أخبار العراق لايصادف العراق ولايراه ولايصدمه رذاذ ماء الفرات او دجلة بل يسمع بالبيت السني والبيت الشيعي والبيت الكردي .. وبيت سامراء وبيت كربلاء وبيت الأنبار .. وحتى البيت الشيعي صارت فيه غرف شرقية وغربية وقبلية ..وفي البيت السني هناك ماتحت الانتماءات .. فهناك من ينتمي للقبو او من ينتمي للحمامات أو المطبخ او السقيفة او غرفة النوم .. و يتطاول الأقزام ويقفون على رؤوس أصابعهم ليقنعونا أنهم عمالقة في بيوت الأقزام .. وكما العراق صار بيتا للأقزام بعد ان كان بيتا وقلعة للعمالقة .. فاننا ننظر غربا الى لبنان بلاد الحئيئة التي ليس فيها اي حقيقة .. سوى أنها بلاد لأقزام السياسة .. لكل طائفة أقزامها .. وكل قزم يتطاول ويتنافخ ويملأ صدره بالهواء دفاعا عن طائفته كما يدافع الفحل عن أناثه ضد الفحول الأخرى .. فالكتل السياسية مكونة من كتل طائفية لكل طائفة فحلها .. وهي مسكوبة من عصير القرون الغابرة في كؤوس مصنوعة من قيء زعماء الطوائف ولغتهم وأشعارهم القبيحة .. وحده حسن نصرالله يبدو في جزيرة أقزام لبنان مثل عملاق كبير على جزيرة الاقزام .. لايتسع له كرسي ولاطاولة حوار ولابيت .. فكيف يجالس العملاق أقزام لبنان السبعة .. وكيف يجلس الراعي مع الفحول والديوك؟ .. وكلما تأملت التجربة السياسية في هذين البلدين .. أجد لزاما علي أن أعيد النظر بفكرة الديمقراطية التي قتلنا أنفسنا من أجلها جيلا بعد جيل .. وعلينا أن نضع هذين النموذجين المشرقيين للدراسة والفحص والتأمل وعلى منضدة التشريح والتجربة لاستخلاص الدروس والعبر .. فنحن كنا نمتدح نموذج لبنان وحريته وديمقراطيته وشارع الحمراء فيه وكتبنا الشعر والقصائد في بيروت لأنها باريس العرب .. ولكن باريس العرب ليست كباريس الفرنجة حتى وان استعملت نفس الروج وحمرة الشفاه والكحل والثياب المقطعة ولثغت بالفرنسية .. لأننا لانسمع في باريس الفرنسية أن هناك كتلة مسيحية بروتستنانية وكتلة كاثوليكية وكتلة انغليكانية تحت قبة البرلمان .. ولانسمع بكتلة يهودية ولا بوذية .. وليس هناك بيوت للمسيحيين الكهنوت ولا للمسيحيين الارثوذوكس .. السياسة في بلاد الغال تفهم الديمقراطية على ان فيها قواعد وقيودا أكثر بكثير من القيود في الديكتاتوريات .. وأهم قيودها أنها تربط الفحول في الزرائب ولاتسمح لهم ان يكونوا رعاة للناس في البرلمان .. المجتمعات التي يجب علينا ان ننطلق اليها منذ اليوم يجب ان تنطلق مبنية على فضيحة الديمقراطية التي مارسناها مرتين بنموذج لبنان وبنموذج العراق .. وهما نموذجان غربيان مسكوبان بالقوالب ومن تصميم أساتذة الديمقراطية الغربية على مقاسنا .. فلبنان هو انتاج فرنسا .. والعراق هو من انتاج أميريكا وانكلترة .. والنموذجان مقرفان ومقززان ويستفزان الرغبة في التقيؤ والسكن في الحمّام .. والسؤال الذي سنطرحه هو ان كانت مجتمعاتنا عصية على الديمقراطية ولذلك فانها انجبت أقزام العراق ولبنان كنتيجة طبيهية لهذا اللقاء بين عدوين (نحن والديمقراطية) واننا ظلمنا أنفسنا اذ اعتنقنا هذا الدين الجديد الذي لايناسبنا ويشبه السم في الحلق .. أم أننا ظلمنا الديمقراطية التي هي شيء مفصل على مقاس العقل الغربي وارغمناها على ان تنزل كثوب ضيق على جسد مترهل بالاورام والشحوم القديمة التي لاتذوب ؟؟.. تبدو الديمقراطية هي عمليا خدعة كبيرة وقع فيها العقل الغربي قبل الشرقي .. وان تجلياتها في الشرق هي الحقيقة والنتيجة الظاهرة التي لاتخدع أحدا .. فالديمقراطية كمفهوم طبق بحذافيره في الشرق العربي حيث يحق لكل من يشاء ان يشكل حزبا على مقاسه لأن جذر الديمقراطية هو الحرية .. ولذلك أحس كل انسان في ديمقراطيات الشرق الجديدة انه قادر على ان يفصل حزبا على لونه وطائفته .. ومقاس رجله وخصره ومزاج زوجاته الأربع .. وهذا في الواقع لايطبق في الغرب .. فقواعد العمل السياسي في الغرب صارمة أكثر من القواعد في الديكتاتوريات .. ويصح ان نقول انها ديمقراطية ديكتاتورية .. وهذا مايضبط ايقاع السياسة فلا تتذبذب وتبقى في اتجاه واحد يخدم القوة العميقة التي تحدد قوانين اللعبة الديمقراطية وتغيرها كلما اقتضت مصلحتها ذلك .. ومافعلته القوى العميقة الغربية في تصديرها للديمقراطية كمفهوم هي انها صدرتها مثل النفط الخام دون تكرير وتصفية وتنقية .. فحصدنا ديمقراطيات لبنان الذي حول لبنان الى كونفيدراليات طوائف مستقلة وكل طائفة تتبع سفارة .. وحصدنا ديمقراطية العراق التي صدرت لنا أول بيوت سياسية طائفية وعرقية مشبوهة كبيوت الرذيلة .. في هاتين الديمقراطيتين العربيتين اكتشفنا أن العقل العربي ليس مضادا للديمقراطية لكن الديمقراطية بنموذجها الغربي تشكل له فرصة للخروج عن طوره والجنون وظهور أعراض الموت عليه .. وبدل ان تربطه بالمستقبل فانها تربطه في الحال بالماضي القديم .. فهو لايزال يعيش في الماضي ويرفض ان يسير خطوة واحدة الى الامام دون أن يكون معه نبي من الأنبياء أو صحابي أو حواري .. الديمقراطية هي وصفة مثالية لتسميم هذه المجتمعات وقتلها ببطء بالسم والزرنيخ .. وكل من يجد ان في هذا الكلام دفاعا عن الديكتاتوريات فانني أجد أنه يستحق ان ترمى عليه عباءة الخيانة أو السذاجة أو البلاهة .. فليست هناك علاقة بين الديمقراطية والحرية الا اذا كانت الحرية بذاتها حرة من سلاسل التخلف والزمن وغبار العبودية .. لأن الأفراد الأحرار ليسوا أحرارا اذا كانوا عبيدا لأوثان أو رموز .. ومثالنا على ذلك هو الحرية التي أعطيت للشرقيين الذين صنعوا رموزا تأسرهم وتستعبدهم .. وكانت النتيجة أن مرحلة مابعد الأنبياء هي المرحلة التي تقود عقلهم برمزياتها وشخصياتها .. ففي الحالة الاسلامية صار مابعد النبي هي مانسميه الاسلام وأن مرحلة النبي هي ماتسمى مرحلة ماقبل الاسلام .. لأن الاسلام هو اما شيعي واما سني .. وكلاهما نشأ بعد النبي .. أحدهما حول آل النبي والآخر حول أصحاب النبي .. الشخصيات التي تلت النبي هي التي تشكل الاحزاب السياسية والمزاج السياسي حتى اليوم .. ولذلك وجدنا ان اهانات النبي في الغرب واهانة المسجد الاقصى والقدس لم تحرك المشاعر السياسية الدينية الا من باب رفع العتب .. لكن ماحركها هو الاحساس باهانة الحسين أو السيدة عائشة .. فأصيبت الطوائف بالهستيريا والجنون .. وهو ماأدركته العقول المخابراتية الغربية التي وجدت ان الغضب من أجل اهانة النبي والمسجد الأقصى هادئ نسبيا .. ولكن الغضب من اهانة رموز مابعد النبي هو صاعق التفجير لان هذه العقول ترى الاسلام هو في مرحلة مابعد النبي .. وهذا ينطبق على القوى المسيحية الشرقية ففي لبنان كان هناك من يقبل باليهود – الذين قتلوا السيد المسيح وفق الرواية الانجيلية – على انهم حلفاء لأن حماية ارث مار مارون أهم من حماية المسيح وقيامته ومهده في عقول هؤلاء الذين تلخصت المسيحية لديهم بمار مارون أو الحواريين اكثر من السيد المسيح .. وصار الولاء للأستاذ والمعلم أثل شأنا من الولاء للتلامذة وتلامذة تلامذة التلامذة .. وهذا مايفسر ميل قوى مسيحية مثل الجعاجعة اللبنانيين لحماية مطالب اسرائيل ضد حزب الله وسورية وايران والقتال معها ببسالة في كل المعارك .. والتي التقت مع قوى مسلمة تجد ان عليها حماية الارث السني عبر حماية رمزية الصحابة .. لأنهما تنتميان الى نفس الفكر والجذر حيث الولاء لما بعد عيسى ومحمد .. فالتقت أيضا مع الاسرائيليين رغم ان التناقض الاسلامي اليهودي يجب ان يكون في الذروة .. لذلك اسكبوا مافي هذه القوارير الديمقراطية من سوائل راكدة ودماء محفوظة منذ ألفي سنة وروائح تخرش الخياشيم .. واملؤوها بدم الورد ودم العطر .. فهل لمستم قبل اليوم دم الورد أو دم العطر؟؟ .. ودعكم من حديث الديمقراطية .. واسكبوا مافي زجاجات النبيذ لأن فيها ماء المستنقعات .. واملؤوها بدم العنب .. وحطموا دوى الحبر الذي تكتب به بيوت الطوائف .. واكتبوا بعد اليوم بدم الذهب .. ودم الماس .. كل خطاباتكم .. ورددوا معي: تبا للأقزام وأقزام الأقزام .. وطوبى للعمالقة الذين يدافعون عن بلاد يحكمها الأقزام ..

المصدر : نارام سرجون


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة