دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
بعد تهديدات الرئيس الأميركي دونالد ترامب لكوريا الشمالية على مدى الأشهر الفائتة، وبعد أن استشعر الكوريون الخطر بهم قرّر زعيما الكوريتين التنازل لبعضهما، وليس لمن يتربص بهما أو بأي منهما،
وبسهولة مدهشة اجتمع الزعيمان في مبنى «قصر السلام» الواقع في منطقة بانمنغوم الحدودية بين الكوريتين ليبدأا مسيرة عمل تهدف إلى إرساء التقارب بين النظاميين المتناقضين عقائدياً، وسياسياً، وبين الشعبين الشقيقين اللذين كانا شعباً واحداً قبل الاحتلال الأميركي في الحرب العالمية الثانية، هذا التقارب قد يقود بعد حين إلى إعادة توحيد كوريا وإنهاء ما فرضه الاستعمار الأميركي على هذا الشعب من فرقة، وانقسام لا يصبّ في خدمة مصالحه. وفي إشارة رمزية ولكنها مهمة اقترح الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون في هذا الاجتماع أن يقدّم توقيت الساعة بواقع نصف ساعة للتوافق مع التوقيت في كوريا الجنوبية في إطار حملة دبلوماسية مكثفة من أجل إحلال السلام في شبه الجزيرة الكورية حيث قال أون في المحادثات: «أشعر بأسى عميق لرؤية ساعتين معلقتين بتوقيتين مختلفين في بيت السلام واحدة لسيئول، والأخرى لبيونغ يانغ»، وعاد توقيت كوريا الشمالية ليتطابق مع توقيت كوريا الجنوبية بدءاً من 5 أيار الجاري. لا أحد طبعاً على اطلاع على كل ما جرى من محادثات بين الزعيمين لكن لغة الجسد للزعيمين مع زوجاتهما تنبئ بتوافق وتصميم على استكمال هذا الدرب السلمي وتفويت الفرصة على الأعداء، والتنازل للإخوة، والأشقاء لتجنيب البلاد ما يتمّ التخطيط له لدى الطامعين المستهدفين لنهب الثروة الكورية. وفي لحظة هدوء وتفكير سليم يكتشف المرء بسهولة أنّ هذا هو المسار الطبيعي والمنطقيّ بين الأشقاء وأن هذا هو الردّ الحاسم والمناسب لكلّ استعراضات حرامي واشنطن «ترامب»، وتهديداته، ووعيده بالويل والثبور لمن لا يدفع له الجزية ويشتري أسلحته المتهالكة. إذ وبحركة ذكية رابحة على كلّ الصعد أفقدته الكوريتان كلّ ما كان يبني عليه ويتبجح به، ويرسم خططه من أجل استهداف شعب مسالم يريد العيش بأمان وبغض النظر عن الأطراف التي ساعدت الكوريتين للتوصل إلى هنا، وبغض النظر عن القول إن هذا التحرك جاء نتيجة النصائح الصينية وأن نزع فتيل الخلاف يصبّ بمصلحة الصين والقطب الدولي الجديد، فمن الحكمة أن تصغي الحكومات للأصدقاء الذين يريدون بها خيراً، وأن تجنّب شعوبها كلّ ما يخططه لهم الأعداء وتجنّب الخراب وتبديد الثروات على شراء أسلحة الدمار. ولا شك أن المتابع للأحداث كان يجد في تهديد ترامب للرئيس الكوري الشمالي تهديداً مشابهاً لتهديده العرب، وتضخيمه للبعبع الشمالي يشبه إلى حدّ بعيد ابتزازه دول الخليج بالبعبع الإيراني وخطره المزعوم كما أن ابتزازه لكوريا الجنوبية لشراء الأسلحة بمليارات الدولارات مشابه لابتزازه لحكام الخليج مع الفارق بين العقل الكوري وبين التهور الخليجي الذي أوقعهم في فخ غربي محكم لا خلاص لهم منه إلاّ باستنزافهم تماماً. وربما بعد أن جنى «ترامب» المليارات بسهولة مدهشة من حكام الخليج ونجح في ابتزازهم قرّر أن يعيد التجربة مع الكوريتين إلا أن زعيمي الكوريتين برهنا أنهما مختلفان جذرياً عن حكام الخليج الذين دفعوا ويدفعون مئات المليارات للولايات المتحدة كي ينالوا الرضا، ويستمروا في الحكم مصدقين أن حماية أميركا لهم هي الضمانة متخليّن عن التضامن العربي الذي حمى العرب بعد استقلال بلدانهم لولا الشقاق الخليجي واصطفافهم مع الأعداء ضد أشقائهم العرب. والسؤال الذي نطرحه هنا هو ما الذي يمنع حكام الخليج من أن يفكروا بطريقة تشبه ما لجأ إليه حكام الكوريتين، أي أن يلجأا إلى الأخ والصديق لتحقيق القوة، والمنعة بدلاً من الخضوع لابتزاز وتهديد الأعداء، والخصوم؟!!
لا شك أن مئات المليارات التي دفعها حكام الخليج للولايات المتحدة والترليونات التي سيدفعونها قريباً كانت كفيلة بأن تحقق لهم زعامة في العالم العربي، إن استخدموها لتنمية البلدان العربية، وتعزيز مصادر قوتها، وتمنحهم من أسباب القوة ما لا تستطيع الولايات المتحدة تحقيقه لهم. لو أنهم أنفقوا جزءاً من هذا المال على التنمية، والتعليم في العالم العربي لوجدوا كلّ أسباب الدعم، والقوة التي تؤهلهم لنيل احترام خصومهم لهم بدلاً من تلقي الإهانات العلنية، والابتزاز مرة تلو أخرى. مع أن التاريخ العربي حافل بالأمثلة التي تبرهن على أن الانصياع للعدو مرة يجرّ بعد ذلك إلى المزيد من الانصياع والخنوع، وأن كلّ الاتفاقات التي أبرمت مع العدو بقيت حبراً على ورق لأنّ مبرميها من العرب لم يتملكوا أسباب القوة التي تضمن تنفيذها. ومع أن العرب لديهم ما يسمى بالجامعة العربية، فهي لم تتمكن، بسبب الشقاق الخليجي المتواصل، من جمع قوة العرب وتحقيق موقف موحد لهم يضمن لهم اتفاقاً مشرّفاً، ويحقق لهم موقع قوّة في أعين الخصوم والأعداء. ورغم كلّ الاجتماعات واللجان العربية على مستويات ثنائية، أو متعددة فإن العمل العربي المشترك يبقى في أوهن صيغة بسبب ارتهان حكام الخليج لأعداء العرب.
لا بل لقد انتقل الخليجيون في السنوات الأخيرة إلى تمويل وتسليح إرهابيين ليفتكوا بالبلدان العربية الواحد بعد الآخر لمصلحة مخطط إسرائيلي يهدف إلى هيمنة إسرائيل على نفط ومقدرات العرب غير مدركين أنهم يحفرون قبورهم بأيديهم، وأن طمع الأميركيين، والإسرائيليين بهم وابتزازهم لهم قد تضاعف عشرات المرات بعد أن أضعفوا دول القوة العربية العراق، وسورية، ومصر، وليبيا، والسودان، واليمن. سواء أدركوا ذلك أم لم يدركوا فإن حروبهم الإرهابية على أشقائهم العرب قد زلزلزت مكانتهم في أعين الطامعين وجعلت ثرواتهم لقمة سائغة للأعداء، والمحتلين، والمستعمرين لأنّ أعداء سورية هم أعداء كل العرب. ولا شك أن استباحة العدو الصهيوني للدم الفلسطيني كل جمعة، وكل يوم هو استباحة لدم كل العرب وهو نتيجة هذا الانهيار في المنظومة العربية الناجمة عن فشل دول الخليج في العمل العربي المشترك في إدارة أمورهم بحكمة، ودراية، وعمق. وها هو وزير أمن الكيان الصهيوني أفيغدور ليبرمان يردّ على إدانة محمود عباس للمحرقة بالقول إنّ «اعتذاراته ليست مقبولة». لو فكّر الخليجيون بالطريقة التي فكّر بها زعيما الكوريتين لاضطر ليبرمان أن يقدّم اعتذاره عن استهداف العرب كل جمعة، وكل يوم منذ قدومهم من أرجاء الأرض ليحتلوا فلسطين. متى سينفق الخليجيون وقتاً ومالاً على وضع الخطط الذكية، واستخدام الفكر العميق الذي يحبط أعداءهم ويزيد من عناصر قوتهم؟ ومتى سيواكبون المتغيرات العالمية التي تقدّم النماذج الذكية في الحكم والعلاقات، ومواجهة الأعداء. أما محاربة الأشقاء والخضوع لابتزاز الأعداء فهي الحماقة عينها ولن تزيدهم إلا هواناً وضعفاً وذلاّ. بالفعل صدق من قال: ما أكثر العبر وما أقلّ الاعتبار.
المصدر :
د.بثينة شعبان
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة