مقابلات الشيخ حمد بن جاسم آل ثاني، رئيس وزراء، وزير خارجية قطر السابق، تثير الاهتمام، وتجذب الكثير من المشاهدين والقراء، سواء كانوا من المواطنين العاديين، أو من كبار المسؤولين، لأن الرجل يتحدث ببساطة وجراءة وعفوية، ويكشف في كل مرة عن العديد من المعلومات والوقائع، على غير عادة المسؤولين العرب.

في مقابلته الأخيرة التي خص بها تلفزيون دولة قطر الرسمي، (وليس قناة "الجزيرة" التي قال أنه كان أحد مؤسسيها ويندم على ذلك)، خاض الشيخ بن جاسم في مواضيع عديدة، لشرح موقف بلاده، من أبرزها الموضوع السوري، في محاولة لتبرئة قطر من بعض جوانب خلافها مع السعودية (الشقيقة الكبرى)، وعتابها على انقلابها على الموقف القطري، بعد تنسيق وتحالف تامين بين الجانبين، ولكن هذا العتاب لم يجد آذانا صاغية، كما أن التطورات المتلاحقة في سورية هذه الأيام، تأتي في غير مصلحة الطرفين، والدوحة على وجه الخصوص.

الشيخ حمد بن جاسم كشف أنه التقى العاهل السعودي الراحل الملك عبد الله بن عبد العزيز في الرياض، وأبلغه بوجود خطة قطرية بالتنسيق مع القوات الأمريكية وتركيا بالتدخل في سورية في بداية الأزمة، وأن الملك عبد الله بارك هذه الخطوة وأعطاه الضوء الأخضر، وقال "نحن معكم، أنتم سيروا في هذا الموضوع ونحن ننسق، ولكن فلتبقوا أنتم مستلمين الموضوع"، ثم "تهاوشنا" على الفريسة "فضاعت منا".

والأهم من ذلك أن الشيخ بن جاسم اعترف أن الجميع تورط في سورية، إلى درجة دعم جبهة النصرة، وبتنسيق كامل مع القوات الأمريكية (وكالة المخابرات المركزية)، التي كانت تشرف على توزيع كل شيء (المال والسلاح)، وعندما أصبحت النصرة غير مقبولة (جرى وضعها على قائمة الإرهاب) توقف الدعم لها.

لا نعرف رد السلطات السعودية على هذه المعلومات، مثلما لا نعرف ما إذا كانت وغيرها مما ورد في المقابلة، قد خفف من حدة الخلاف مع قطر، وقرب بين البلدين، ولكن ما نعرفه أن هذا الكشف نزل بردا وسلاما على قلب الحكومة السورية ومؤيديها الذين دعموها طوال السنوات الماضية، وما يؤكد وجهة نظرها التي تبنتها منذ بداية الأزمة، وتؤكد أن هناك مؤامرة خارجية بزعامة الولايات المتحدة لتغيير النظام في دمشق خدمة لمشروع التفتيت والتقسيم.

سورية كانت "فريسة" فعلا، تقاتل على "جلدها" الصياديون من أكثر من ستين دولة، انضموا تحت منظومة "أصدقاء سورية" بزعامة أمريكا، وكان دور السعودية وقطر محصورا في التمويل والتسليح، أما دول عربية أخرى فلم يزد عن دور "المحلل"، أو شاهد الزور.

"التهاوش" لم يكن سبب فرار "الفريسة" من الشباك السعودية القطرية، وإن كان، فإنه سبب هامشي، وليعذرنا الأشقاء السوريين على تكرار استخدام توصيف "الفريسة" غير المحبب، فناقل الكفر ليس بكافر، أما الأسباب الأساسية فهي صمود النظام، وعدم انهيار مؤسساته، أبرزها المؤسستان الأمنية والعسكرية، ووجود حاضنة شعبية، كبرت أو صغرت، كانت تلتف حولهما وقيادتهما في دمشق، حتى في أصعب الأوقات وأكثرها حراجة، وفي ظل ضخ إعلامي استخدمت فيه إمبراطوريات ومؤسسات عظمى تملك ميزانيات بالمليارات، وتغييب كامل للإعلام السوري (جرى حظره وحذفه من الأقمار الصناعية العربية، وعرب سات تحديدا بقرار من الجامعة العربية، ووزراء إعلامها)، رغم أن هناك مآخذ كثيرة على هذا الإعلام وحرفيته.

الشيخ حمد بن جاسم أعاد الكثيرين إلى الوراء سبع سنوات، وبالتحديد عندما ذهب إلى دمشق حاملا عرضا بـ 15 مليار دولار كدفعة أولى مشروطة بابتعاد سورية عن إيران، وانضمامها إلى "محور الاعتدال" العربي، ومن سخريات القدر أن المملكة العربية السعودية التي أطاحت بدولة قطر من مقعد القيادة في الملف السوري، وأرجعتها إلى المقاعد الخلفية، مثلما اشتكى الشيخ بن جاسم في مقابلة أخرى أكثر تشويقا مع صحيفة "الفايننشال تايمز"، باتت أقرب إلى روسيا، وبالتالي سورية بطريقة غير مباشرة، وباتت تقبل ببقاء الرئيس بشار الأسد في الحكم، وتتطلع إلى حل سلمي للأزمة، أما دولة قطر فتواجه حصارا من أبرز أسبابه قربها وعلاقاتها الوثيقة مع إيران.

كثيرون أخطأوا في حق سورية، وكثيرون يتهيأون لارتكاب خطايا أكبر تجاه المنطقة بالتحالف مع أمريكا و"إسرائيل"، ضد محور المقاومة، وإذا كانوا قد نجوا بأقل الخسائر من الأخطاء الأولى، وفي حق سورية وليبيا والعراق خصوصا، ولو مؤقتا، فلا نعتقد أن الحال سيكون نفسه في المرة الثانية.

سوريا تتعافى هذه الأيام وبشكل متسارع، وتتقاطر البعثات الدبلوماسية على عاصمتها، وكذلك وفود رجال الأعمال الذين يبحثون عن المال والاستثمار في ظل قرب معركة إعادة الإعمار، ويكفي الإشارة إلى أن السيد سعد الحريري، رئيس وزراء لبنان، ورجل السعودية فيه، والذي كان من أبرز المعارضين للقيادة السورية، ولم يبق كلمة مشينة وإلا وجهها لها ورئيسها، السيد الحريري وقع اليوم مرسوما بتعيين سفير لبنان جديد في دمشق، وها هو وفد برلماني أردني كبير يستعد لشد الرحال إلى العاصمة السورية، بعد آخر تونسي، و"المسبحة كرت"، مثلما يقول المثل الشامي.

العلاقة التحالفية "الاستراتيجية" بين قطر وإيران، وبين قطر وتركيا، وإن كانت الأخيرة بدرجة أقل، هي من أسباب توتر العلاقات بين السعودية ومحورها ودولة قطر، إلى جانب أسباب أخرى، وأمام قطر خياران، إما أن تقطع هذه العلاقة كليا وتنضم إلى السرب السعودي، ولكن في المقاعد الخلفية، أو أن تستمر الأزمة وتتصاعد وتخترق خطوطا قانية الاحمرار.

تفسيرات وتوضيحات و"مرونات" الشيخ بن جاسم تظل محدودة التأثير في نفس الجار السعودي، ومن الصعب أن تستميل قلبه "المتحجر"، لأنها تتحدث عن الماضي، ولا تقترب من مطالب المستقبل، وسواء كانت مقبولة أو مرفوضة، ومن يحكم السعودية اليوم غير الذي كان يحكمها طوال السنوات الخمسين الماضية، ولا بد أن الشيخ بن جاسم، الذي نعترف له بالذكاء، يدرك هذه الحقيقة جيدا.

  • فريق ماسة
  • 2017-10-28
  • 12089
  • من الأرشيف

«الفريسة» السورية التي «تهاوشت» على صيدها السعودية وقطر

مقابلات الشيخ حمد بن جاسم آل ثاني، رئيس وزراء، وزير خارجية قطر السابق، تثير الاهتمام، وتجذب الكثير من المشاهدين والقراء، سواء كانوا من المواطنين العاديين، أو من كبار المسؤولين، لأن الرجل يتحدث ببساطة وجراءة وعفوية، ويكشف في كل مرة عن العديد من المعلومات والوقائع، على غير عادة المسؤولين العرب. في مقابلته الأخيرة التي خص بها تلفزيون دولة قطر الرسمي، (وليس قناة "الجزيرة" التي قال أنه كان أحد مؤسسيها ويندم على ذلك)، خاض الشيخ بن جاسم في مواضيع عديدة، لشرح موقف بلاده، من أبرزها الموضوع السوري، في محاولة لتبرئة قطر من بعض جوانب خلافها مع السعودية (الشقيقة الكبرى)، وعتابها على انقلابها على الموقف القطري، بعد تنسيق وتحالف تامين بين الجانبين، ولكن هذا العتاب لم يجد آذانا صاغية، كما أن التطورات المتلاحقة في سورية هذه الأيام، تأتي في غير مصلحة الطرفين، والدوحة على وجه الخصوص. الشيخ حمد بن جاسم كشف أنه التقى العاهل السعودي الراحل الملك عبد الله بن عبد العزيز في الرياض، وأبلغه بوجود خطة قطرية بالتنسيق مع القوات الأمريكية وتركيا بالتدخل في سورية في بداية الأزمة، وأن الملك عبد الله بارك هذه الخطوة وأعطاه الضوء الأخضر، وقال "نحن معكم، أنتم سيروا في هذا الموضوع ونحن ننسق، ولكن فلتبقوا أنتم مستلمين الموضوع"، ثم "تهاوشنا" على الفريسة "فضاعت منا". والأهم من ذلك أن الشيخ بن جاسم اعترف أن الجميع تورط في سورية، إلى درجة دعم جبهة النصرة، وبتنسيق كامل مع القوات الأمريكية (وكالة المخابرات المركزية)، التي كانت تشرف على توزيع كل شيء (المال والسلاح)، وعندما أصبحت النصرة غير مقبولة (جرى وضعها على قائمة الإرهاب) توقف الدعم لها. لا نعرف رد السلطات السعودية على هذه المعلومات، مثلما لا نعرف ما إذا كانت وغيرها مما ورد في المقابلة، قد خفف من حدة الخلاف مع قطر، وقرب بين البلدين، ولكن ما نعرفه أن هذا الكشف نزل بردا وسلاما على قلب الحكومة السورية ومؤيديها الذين دعموها طوال السنوات الماضية، وما يؤكد وجهة نظرها التي تبنتها منذ بداية الأزمة، وتؤكد أن هناك مؤامرة خارجية بزعامة الولايات المتحدة لتغيير النظام في دمشق خدمة لمشروع التفتيت والتقسيم. سورية كانت "فريسة" فعلا، تقاتل على "جلدها" الصياديون من أكثر من ستين دولة، انضموا تحت منظومة "أصدقاء سورية" بزعامة أمريكا، وكان دور السعودية وقطر محصورا في التمويل والتسليح، أما دول عربية أخرى فلم يزد عن دور "المحلل"، أو شاهد الزور. "التهاوش" لم يكن سبب فرار "الفريسة" من الشباك السعودية القطرية، وإن كان، فإنه سبب هامشي، وليعذرنا الأشقاء السوريين على تكرار استخدام توصيف "الفريسة" غير المحبب، فناقل الكفر ليس بكافر، أما الأسباب الأساسية فهي صمود النظام، وعدم انهيار مؤسساته، أبرزها المؤسستان الأمنية والعسكرية، ووجود حاضنة شعبية، كبرت أو صغرت، كانت تلتف حولهما وقيادتهما في دمشق، حتى في أصعب الأوقات وأكثرها حراجة، وفي ظل ضخ إعلامي استخدمت فيه إمبراطوريات ومؤسسات عظمى تملك ميزانيات بالمليارات، وتغييب كامل للإعلام السوري (جرى حظره وحذفه من الأقمار الصناعية العربية، وعرب سات تحديدا بقرار من الجامعة العربية، ووزراء إعلامها)، رغم أن هناك مآخذ كثيرة على هذا الإعلام وحرفيته. الشيخ حمد بن جاسم أعاد الكثيرين إلى الوراء سبع سنوات، وبالتحديد عندما ذهب إلى دمشق حاملا عرضا بـ 15 مليار دولار كدفعة أولى مشروطة بابتعاد سورية عن إيران، وانضمامها إلى "محور الاعتدال" العربي، ومن سخريات القدر أن المملكة العربية السعودية التي أطاحت بدولة قطر من مقعد القيادة في الملف السوري، وأرجعتها إلى المقاعد الخلفية، مثلما اشتكى الشيخ بن جاسم في مقابلة أخرى أكثر تشويقا مع صحيفة "الفايننشال تايمز"، باتت أقرب إلى روسيا، وبالتالي سورية بطريقة غير مباشرة، وباتت تقبل ببقاء الرئيس بشار الأسد في الحكم، وتتطلع إلى حل سلمي للأزمة، أما دولة قطر فتواجه حصارا من أبرز أسبابه قربها وعلاقاتها الوثيقة مع إيران. كثيرون أخطأوا في حق سورية، وكثيرون يتهيأون لارتكاب خطايا أكبر تجاه المنطقة بالتحالف مع أمريكا و"إسرائيل"، ضد محور المقاومة، وإذا كانوا قد نجوا بأقل الخسائر من الأخطاء الأولى، وفي حق سورية وليبيا والعراق خصوصا، ولو مؤقتا، فلا نعتقد أن الحال سيكون نفسه في المرة الثانية. سوريا تتعافى هذه الأيام وبشكل متسارع، وتتقاطر البعثات الدبلوماسية على عاصمتها، وكذلك وفود رجال الأعمال الذين يبحثون عن المال والاستثمار في ظل قرب معركة إعادة الإعمار، ويكفي الإشارة إلى أن السيد سعد الحريري، رئيس وزراء لبنان، ورجل السعودية فيه، والذي كان من أبرز المعارضين للقيادة السورية، ولم يبق كلمة مشينة وإلا وجهها لها ورئيسها، السيد الحريري وقع اليوم مرسوما بتعيين سفير لبنان جديد في دمشق، وها هو وفد برلماني أردني كبير يستعد لشد الرحال إلى العاصمة السورية، بعد آخر تونسي، و"المسبحة كرت"، مثلما يقول المثل الشامي. العلاقة التحالفية "الاستراتيجية" بين قطر وإيران، وبين قطر وتركيا، وإن كانت الأخيرة بدرجة أقل، هي من أسباب توتر العلاقات بين السعودية ومحورها ودولة قطر، إلى جانب أسباب أخرى، وأمام قطر خياران، إما أن تقطع هذه العلاقة كليا وتنضم إلى السرب السعودي، ولكن في المقاعد الخلفية، أو أن تستمر الأزمة وتتصاعد وتخترق خطوطا قانية الاحمرار. تفسيرات وتوضيحات و"مرونات" الشيخ بن جاسم تظل محدودة التأثير في نفس الجار السعودي، ومن الصعب أن تستميل قلبه "المتحجر"، لأنها تتحدث عن الماضي، ولا تقترب من مطالب المستقبل، وسواء كانت مقبولة أو مرفوضة، ومن يحكم السعودية اليوم غير الذي كان يحكمها طوال السنوات الخمسين الماضية، ولا بد أن الشيخ بن جاسم، الذي نعترف له بالذكاء، يدرك هذه الحقيقة جيدا.

المصدر : رأي اليوم / عبد الباري عطوان


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة