في رواية "الأخوة الأعداء" للكاتب اليوناني نيكوس كازانتزاكي يقول أحد أبطال الرواية، "يوجعني قتلك يا أخي، لكن اعذرني أحدنا يجب أن يموت .. وأُفَضِّل أن يكون أنت". المسألة بين السعودية وقطر ليست حرباً كالتي في الرواية، وإنما هي مواجهة أو توتّر مديد وعميق، بين طرفين لم يصلا بعد إلى قناعة مماثلة لأبطال الرواية المذكورة، لا في توتّرهما البيني ولا في عدائهما لسوريا، "نحن نصارع من أجل شيء لا يمكن بلوغه".

ترى قطر أنها أولى بالوهابية من السعودية

ليس من السهل أن يقتنع "آل سعود" بأن قطر دولة لها كيان وهوية ووجود، لأنهم يعتبرونها جزءاً طبيعياً من المملكة أو استطالة جغرافية وبشرية جرى قطعها وتصييرها كياناً منفصلاً بمساعدة بريطانيا، ويجب – من منظورهم هذا - تصحيح الأمور، عندما تحين الفرصة.

مقابل ذلك تجد لدى "آل ثاني" المدارك نفسها ولكن بشكل معكوس، إذ إن السعودية هي اسم طارئ على الجزيرة العربية، وقد خلع "آل سعود" إسمهم على منطقة متعدّدة القبائل والعشائر، وكانت قبل ذلك إمارات ودولاً وتم "توحيدها" بقوة السيف، خلافاً لطبيعتها وتاريخها، وبمساعدة من بريطانيا ولاحقاً الولايات المتحدة، وكون الرياض عاصمة "مملكة كبيرة" لا يعني أنها هي المركز، والدوحة وباقي عواصم ومدن الخليج أطراف وهوامش.

كما ترى قطر أن السعودية هي "عمق استراتيجي" لها، وأن الوهّابية التي تعتمد عليها الرياض جاءت من قبيلة "تميم"، أي أن قطر أو "آل ثاني" أولى بها من السعودية، وإذا كانت قطر صغيرة المساحة وقليلة السكان، إلا أنها أقوى وأكثر مقبولية في العالم، وأن الركيزة الأساسية لنشأة السعودية واستمرارها هي الدعم البريطاني - الأميركي، ولولا ذلك لما كان ثمة سعودية.

لا تقادُم مع استبطان من هذا النوع، مع عُقَدٍ مُؤسِّسَة، ومُستمرة، ولا خلاص للبلدَيْن ممّا هما فيه، وعندما تتأسّس المدارك على ذهنية ثأرية، يصبح التغيير أو الزحزحة أبعد منالاً، ويصبح النكوص هو الاحتمال أو المآل الأكثر ترجيحاً. ومع ذهنية كهذه، تتعزّز المواجهة بامتلاك أحد الأطراف أو كليهما أيّ قدر من القوة، وهو ما حصل لدى السعودية بعد زيارة ترامب الأخيرة إلى الرياض وصفقة الـ 400 مليار دولار. هنا الاتّهام بالصغر والضآلة، يقابله اتهام بالهشاشة والترهُّل والعجز، ولا يخفى ما لذلك من دلالات فرويدية معروفة.

والواقع أن كلاَ منهما – وهذا على طريقة الفقهاء - "مُحقُّ في ما يُثبِت، غيرَ مُحقٍّ في ما ينفي"، أي مُحقّ في ما يُثبِتُ على الآخر، من تقديرات واتهامات، غير محق في ما ينفي عن نفسه، مما يقوله الآخر فيه. وما تقوله السعودية عن أن قطر تدعم الإرهاب وتقيم تحالفاً مع إسرائيل صحيح، والعكس صحيح أيضاً، ويبدو أن الخلاف هو على "الإمساك" بورقة التنظيمات التكفيرية والعلاقة مع إسرائيل واستخدامها في السياسة الإقليمية والدولية، وإذ يمكن لقطر أن تستخدمها ضدّ السعودية، داخل السعودية نفسها، حيث للإخوان مثلاً تأييد وتأثير متزايد، إلا أن السعودية لا تستطيع استخدامها ضدّ قطر، داخل قطر نفسها، إذ تبدو قطر في مثل هذه الأمور كما لو أنها دولة " لا داخل لها".

والآن، ما هو التأثير المحتمل للخلاف بين السعودية وقطر على المشهد السوري، وهما من أول وأكثر البلدان تورّطاً في الأزمة السورية، وقد أنفقا مليارات الدولارات في حرب هدفها إسقاط نظام الرئيس بشّار الأسد والسيطرة على سوريا، ليس من أجل الشعب كما يتردّد في خطابهما السياسي والإعلامي، وإنما من أجل احتواء حلف المقاومة وتفكيك مفاعليه السورية واللبنانية، وكسر "هلاله" الممتد من طهران إلى جنوب لبنان فغزّة بفلسطين المحتلة، والإيفاء بمتطلّبات الحماية الأميركية لهما، ومتطلّبات تحالفهما مع إسرائيل.

الأزمة السورية ليست من الموضوعات المباشرة للخلاف بين الدوحة والرياض، بل لعلّها كانت خلال عدّة سنوات من عوامل التوافق بينهما، صحيح أن إسقاط نظام الرئيس الأسد هو هدف يجمعهما، إلا أنهما يختلفان في الخطوة اللاحقة، وخاصة في ظّل التحالف بين الدوحة وأنقرة. ويمكن الحديث عن تأثير الخلاف بينهما على المشهد السوري في النقاط الرئيسة التالية:

-       الخلاف بين الطرفين يشغلهما بعض الشيء عن سوريا، وخاصة في أدواتهما الإعلامية والدبلوماسية، ولو أن من المرجّح عدم ذهابهما بعيداً في خلافهما، وخاصةً أن الولايات المتحدة تمثّل راعياً مشتركاً لهما، ولا تزال الأولوية هي حشد جميع الطاقات من أجل المعركة في سوريا.

-       قد تصبح السعودية أكثر تأثيراً من قطر في المشهد السوري، نظراً لتقارب الأولى مع إدارة ترامب بعد عطاء الـ 400 مليار دولار التي حصل عليها خلال زيارته إلى الرياض (20 أيار/مايو الماضي). غير أن تركيا سوف تكون حاضرة لموازنة الموقف، ولو بفعاليّة أقل نسبياً.

-       برزت ملامح تقارُب بين قطر وإيران، في ظلّ زيادة التوتّر بين إيران والسعودية، بعد قمم الرياض التي أعلنت تحالفاً أميركياً عربياً إسلامياً ضدّ إيران. والتقارُب المذكور هو من الأمور التي تعزّز نسبياً قدرة إيران في الملف السوري، نظراً لحاجة قطر للتقارُب مع إيران ومُراعاة أولوياتها في سوريا.

 

-       ينعكس التوتّر بين السعودية وقطر توتّراً واقتتالاً بين المجموعات المسلّحة الموالية لهما، ما يمثل فرصة جيّدة لإشغالها وإجهادها، وهذا أمر مفيد للجيش السوري وحلفائه في حربهم ضدّ الإرهاب.

تلقّى السوريون الخلاف بين الشقيقين اللدودين، السعودية وقطر، بشيء من الارتياح، وظهرت تعليقات طريفة حول شكوى كل منهما من أنه يتعرّض لـ "حملة تضليل إعلامي"! ولو أن قطر والسعودية بالنسبة للسوريين مثل "ساحرات مكبث" في نَصٍّ شهيرٍ  لـ وليم شكسبير، طرفان يختلفان في ما بينهما أحياناً، ويعاضدان بعضهما بعضاً، ويبذلان كل ما هو ممكن في السعي لإغواء مناهضي سوريا وحلفائها، وخاصةً الولايات المتحدة، على المزيد من التورّط في الحرب الدائرة فيها منذ عدّة سنوات.

والواقع التوتّر بين السعودية وقطر يتّصل بهواجس أكثر عمقاً، وأبعد تأثيراً، تجعل البلدين عند "نقطة الصفر" مع أية خضّة سياسية أو إعلامية، ولكن من دون الوصول إلى القطيعة بينهما، وإذا كان من الصعب أن تغيّر الرياض والدوحة من أولوياتهما تجاه دمشق، أو أن يتوصّلا إلى قناعة أبطال كازانزاكي من أن هدفهما فيها "لا يمكن بلوغه"، فإن من المرجّح أن تبقى علاقاتهما بين-بين، لا إمساك بمعروف ولا تسريح بإحسان!

 

  • فريق ماسة
  • 2017-06-02
  • 13020
  • من الأرشيف

الأخوة الأعداء: كيف يؤثّر الخلاف السعودي القطري على المشهد السوري؟

 في رواية "الأخوة الأعداء" للكاتب اليوناني نيكوس كازانتزاكي يقول أحد أبطال الرواية، "يوجعني قتلك يا أخي، لكن اعذرني أحدنا يجب أن يموت .. وأُفَضِّل أن يكون أنت". المسألة بين السعودية وقطر ليست حرباً كالتي في الرواية، وإنما هي مواجهة أو توتّر مديد وعميق، بين طرفين لم يصلا بعد إلى قناعة مماثلة لأبطال الرواية المذكورة، لا في توتّرهما البيني ولا في عدائهما لسوريا، "نحن نصارع من أجل شيء لا يمكن بلوغه". ترى قطر أنها أولى بالوهابية من السعودية ليس من السهل أن يقتنع "آل سعود" بأن قطر دولة لها كيان وهوية ووجود، لأنهم يعتبرونها جزءاً طبيعياً من المملكة أو استطالة جغرافية وبشرية جرى قطعها وتصييرها كياناً منفصلاً بمساعدة بريطانيا، ويجب – من منظورهم هذا - تصحيح الأمور، عندما تحين الفرصة. مقابل ذلك تجد لدى "آل ثاني" المدارك نفسها ولكن بشكل معكوس، إذ إن السعودية هي اسم طارئ على الجزيرة العربية، وقد خلع "آل سعود" إسمهم على منطقة متعدّدة القبائل والعشائر، وكانت قبل ذلك إمارات ودولاً وتم "توحيدها" بقوة السيف، خلافاً لطبيعتها وتاريخها، وبمساعدة من بريطانيا ولاحقاً الولايات المتحدة، وكون الرياض عاصمة "مملكة كبيرة" لا يعني أنها هي المركز، والدوحة وباقي عواصم ومدن الخليج أطراف وهوامش. كما ترى قطر أن السعودية هي "عمق استراتيجي" لها، وأن الوهّابية التي تعتمد عليها الرياض جاءت من قبيلة "تميم"، أي أن قطر أو "آل ثاني" أولى بها من السعودية، وإذا كانت قطر صغيرة المساحة وقليلة السكان، إلا أنها أقوى وأكثر مقبولية في العالم، وأن الركيزة الأساسية لنشأة السعودية واستمرارها هي الدعم البريطاني - الأميركي، ولولا ذلك لما كان ثمة سعودية. لا تقادُم مع استبطان من هذا النوع، مع عُقَدٍ مُؤسِّسَة، ومُستمرة، ولا خلاص للبلدَيْن ممّا هما فيه، وعندما تتأسّس المدارك على ذهنية ثأرية، يصبح التغيير أو الزحزحة أبعد منالاً، ويصبح النكوص هو الاحتمال أو المآل الأكثر ترجيحاً. ومع ذهنية كهذه، تتعزّز المواجهة بامتلاك أحد الأطراف أو كليهما أيّ قدر من القوة، وهو ما حصل لدى السعودية بعد زيارة ترامب الأخيرة إلى الرياض وصفقة الـ 400 مليار دولار. هنا الاتّهام بالصغر والضآلة، يقابله اتهام بالهشاشة والترهُّل والعجز، ولا يخفى ما لذلك من دلالات فرويدية معروفة. والواقع أن كلاَ منهما – وهذا على طريقة الفقهاء - "مُحقُّ في ما يُثبِت، غيرَ مُحقٍّ في ما ينفي"، أي مُحقّ في ما يُثبِتُ على الآخر، من تقديرات واتهامات، غير محق في ما ينفي عن نفسه، مما يقوله الآخر فيه. وما تقوله السعودية عن أن قطر تدعم الإرهاب وتقيم تحالفاً مع إسرائيل صحيح، والعكس صحيح أيضاً، ويبدو أن الخلاف هو على "الإمساك" بورقة التنظيمات التكفيرية والعلاقة مع إسرائيل واستخدامها في السياسة الإقليمية والدولية، وإذ يمكن لقطر أن تستخدمها ضدّ السعودية، داخل السعودية نفسها، حيث للإخوان مثلاً تأييد وتأثير متزايد، إلا أن السعودية لا تستطيع استخدامها ضدّ قطر، داخل قطر نفسها، إذ تبدو قطر في مثل هذه الأمور كما لو أنها دولة " لا داخل لها". والآن، ما هو التأثير المحتمل للخلاف بين السعودية وقطر على المشهد السوري، وهما من أول وأكثر البلدان تورّطاً في الأزمة السورية، وقد أنفقا مليارات الدولارات في حرب هدفها إسقاط نظام الرئيس بشّار الأسد والسيطرة على سوريا، ليس من أجل الشعب كما يتردّد في خطابهما السياسي والإعلامي، وإنما من أجل احتواء حلف المقاومة وتفكيك مفاعليه السورية واللبنانية، وكسر "هلاله" الممتد من طهران إلى جنوب لبنان فغزّة بفلسطين المحتلة، والإيفاء بمتطلّبات الحماية الأميركية لهما، ومتطلّبات تحالفهما مع إسرائيل. الأزمة السورية ليست من الموضوعات المباشرة للخلاف بين الدوحة والرياض، بل لعلّها كانت خلال عدّة سنوات من عوامل التوافق بينهما، صحيح أن إسقاط نظام الرئيس الأسد هو هدف يجمعهما، إلا أنهما يختلفان في الخطوة اللاحقة، وخاصة في ظّل التحالف بين الدوحة وأنقرة. ويمكن الحديث عن تأثير الخلاف بينهما على المشهد السوري في النقاط الرئيسة التالية: -       الخلاف بين الطرفين يشغلهما بعض الشيء عن سوريا، وخاصة في أدواتهما الإعلامية والدبلوماسية، ولو أن من المرجّح عدم ذهابهما بعيداً في خلافهما، وخاصةً أن الولايات المتحدة تمثّل راعياً مشتركاً لهما، ولا تزال الأولوية هي حشد جميع الطاقات من أجل المعركة في سوريا. -       قد تصبح السعودية أكثر تأثيراً من قطر في المشهد السوري، نظراً لتقارب الأولى مع إدارة ترامب بعد عطاء الـ 400 مليار دولار التي حصل عليها خلال زيارته إلى الرياض (20 أيار/مايو الماضي). غير أن تركيا سوف تكون حاضرة لموازنة الموقف، ولو بفعاليّة أقل نسبياً. -       برزت ملامح تقارُب بين قطر وإيران، في ظلّ زيادة التوتّر بين إيران والسعودية، بعد قمم الرياض التي أعلنت تحالفاً أميركياً عربياً إسلامياً ضدّ إيران. والتقارُب المذكور هو من الأمور التي تعزّز نسبياً قدرة إيران في الملف السوري، نظراً لحاجة قطر للتقارُب مع إيران ومُراعاة أولوياتها في سوريا.   -       ينعكس التوتّر بين السعودية وقطر توتّراً واقتتالاً بين المجموعات المسلّحة الموالية لهما، ما يمثل فرصة جيّدة لإشغالها وإجهادها، وهذا أمر مفيد للجيش السوري وحلفائه في حربهم ضدّ الإرهاب. تلقّى السوريون الخلاف بين الشقيقين اللدودين، السعودية وقطر، بشيء من الارتياح، وظهرت تعليقات طريفة حول شكوى كل منهما من أنه يتعرّض لـ "حملة تضليل إعلامي"! ولو أن قطر والسعودية بالنسبة للسوريين مثل "ساحرات مكبث" في نَصٍّ شهيرٍ  لـ وليم شكسبير، طرفان يختلفان في ما بينهما أحياناً، ويعاضدان بعضهما بعضاً، ويبذلان كل ما هو ممكن في السعي لإغواء مناهضي سوريا وحلفائها، وخاصةً الولايات المتحدة، على المزيد من التورّط في الحرب الدائرة فيها منذ عدّة سنوات. والواقع التوتّر بين السعودية وقطر يتّصل بهواجس أكثر عمقاً، وأبعد تأثيراً، تجعل البلدين عند "نقطة الصفر" مع أية خضّة سياسية أو إعلامية، ولكن من دون الوصول إلى القطيعة بينهما، وإذا كان من الصعب أن تغيّر الرياض والدوحة من أولوياتهما تجاه دمشق، أو أن يتوصّلا إلى قناعة أبطال كازانزاكي من أن هدفهما فيها "لا يمكن بلوغه"، فإن من المرجّح أن تبقى علاقاتهما بين-بين، لا إمساك بمعروف ولا تسريح بإحسان!  

المصدر : عقيل سعيد محفوض


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة