دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
يتّجه مسار التطورات في الشمال السوري نحو مزيد من تشابك المصالح وتقلّب التحالفات على نحوٍ يشرع الأبواب على مروحة واسعة من الاحتمالات.
نقطة تأزيم جديدة انفجرت في مدينة منبج بعد فترة وجيزة من انتهاء «استعصاء الباب» في دلالة واضحة على أن سياسة التفاهمات المؤقتة ورسم خطوط تماس هشّة لا تكفي لسحب فتيل الصراع بين مختلف الأطراف.
وسط هذه الأجواء الساخنة تبدو تركيا المأزومة داخلياً وخارجياً كأنّها تنزلق نحو خيارات جنونية، فالمغامرة في هدم التوازنات الدقيقة في منبج، واكبها تسخين على الحدود العراقية السورية، في ظل أجواء داخلية شديدة التوتر مع قرب موعد الاستفتاء على الدستور الجديد.
منبج سباق على السيطرة
وفي خطوةٍ مفاجئة، أعلن «مجلس منبج العسكري» وهو أحد مكونات «قوات سورية الديمقراطية» (قسد)، يوم الأربعاء، عن تسليم عشرات القرى في غرب منبج إلى وحدات الجيش السوري بموجب تفاهم مع روسيا. وهو ما أيدته موسكو لاحقاً ببيان صدر عن هيئة الأركان الروسية.
ويعكس هذا الإعلان مدى قابلية التحالفات في الشمال السوري للتقلب وفق الضرورات الميدانية البحتة. لكنه يكشف أيضاً عن حجم الاحتقان الحاصل في المنطقة ومدى قابليته للانفجار في أي لحظة، خاصةً أن بعض الأطراف بدأت تشعر أن مصالحها الإستراتيجية أصبحت في خطر محدق.
ويشير الإعلان عن اتفاق تسليم القرى إلى أن «مجلس منبج العسكري» بدأ يستشعر جدية التهديدات التركية القاضية باحتلال مدينة منبج. كما يشير وهو الأهم إلى تراجع ثقته بالضمانات الأميركية التي طالما شكلت مصدر طمأنينة له بعدم وجود خطر حقيقي على هيمنته على المدينة الإستراتيجية. ولا تنتفي هذه الحقيقة حتى لو كان الاتفاق على تسليم القرى قد حاز على ضوء أخضر أميركي، لأن ذلك يعني أن واشنطن غير مستعدة للتصعيد ضد تركيا من أجل حماية حلفائها بدليل أنها فضلت تسليم القرى للجيش السوري على أن تتولى هي مواجهة الهجوم التركي في حال حصوله.
في المقابل، فإن هذا الاتفاق يشكّل صفعة مزدوجة للجيش التركي ومن ورائه سياسة الرئيس رجب طيب أردوغان، لأنه من جهة خلق خطاً عازلاً بين قواته وبين قوات «قسد» ما يعني أن أي تقدم باتجاه منبج سيعني الاصطدام مع الجيش السوري ومع روسيا أيضاً باعتبار الاتفاق جرى بواسطتها. ومآل ذلك أنه لم يبق أمام تركيا أي طريق تسلكه نحو الرقة للمشاركة في معركتها، لأن الجيش السوري قطع في وقت سابق الطريق الممتد جنوب الباب. ومن جهة ثانية كشف الاتفاق أن كلاً من موسكو وواشنطن غير مستعدتين لمسايرة المصالح التركية إلا في حدود ضيقة جداً.
لكن ليس هذا وحسبما أثار الجنون التركي، بل أمر آخر من شأنه أن يفرغ احتلالها لمدينة الباب من أي مضمون إستراتيجي. فأنقرة غير متيقنة من طبيعة الاتفاق الذي جرى، وتولدت لديها مخاوف كبيرة من إمكانية حصول «قسد» على ممر ضمن مناطق سيطرة الجيش السوري في جنوب الباب نحو عفرين وهو ما يعني عملياً إخفاق هدف تركيا المعلن من وراء احتلال الباب المتمثل بمنع وصل هاتين المنطقتين.
وقد أكد لـ«الوطن» مصدر من «قوات سورية الديمقراطية» أن الأخيرة طرحت على الجيش السوري اقتراحاً يقضي بفتح مثل هذا الممر، مقابل فتح ممر للجيش السوري باتجاه الحسكة ودير الزور من مناطق سيطرة «قسد» وذلك في المحادثات التي تجري بينهما برعاية روسية.
وأشار المصدر إلى أن المباحثات لا تزال مستمرة بهذا الشأن معرباً عن اعتقاده أن الاتفاق سيحصل قريباً وذلك قياساً على الاتفاق حول الطريق من عفرين إلى الشيخ مقصود في حلب. ولفت إلى أن طريق منبج- عفرين شهد بالفعل، أول من أمس، مرور أول قافلة عسكرية روسية مصحوبة بعناصر من «قوات سورية الديمقراطية» من عفرين إلى منبج، وذك في خطوة قد تشكل رسالة قوية للطرف التركي.
وشدد المصدر على أن الهجوم الذي يقوم به الجيش التركي منذ يومين يهدف بشكل أساسي إلى منع تنفيذ الاتفاق بأي ثمن لأن ذلك سيؤدي إلى قلب المعادلة الميدانية في المنطقة برمتّها. وقال المصدر الذي كان يتحدث إلى الوطن أن الجيش التركي سيحاول السيطرة على بلدة العريمة التي من المفترض حسب الاتفاق أن تكون نقطة تجمع قوات الجيش السوري التي ستنتشر في القرى موضوع الاتفاق.
ومنذ الإعلان عن الاتفاق صدرت العديد من المواقف التركية الرافضة له والمهددة باستمرار عملية غزو منبج، بل أن صحيفة «يني شفق» المقربة من «حزب العدالة والتنمية» الحاكم سربت ما قالت إنه «خطة اقتحام المدينة».
ويُعتقد أن أنقرة من خلال هذه التصريحات والتسريبات تحاول استباق زيارة الرئيس أردوغان إلى موسكو الأسبوع القادم في رهان منها على أن تصعيد ضغوطها سيقنع الرئيس الروسي بعقد تفاهم حيال منبج شبيه بتفاهم مدينة الباب الذي تضمن رسم خطوط تماس بين الجيشين السوري والتركي. غير أن جميع المعطيات تؤكد أن المعادلة في منبج مختلفة عما جرى في الباب لاسيما أن أنقرة لا تملك ورقة للمساومة عليها كما جرى سابقاً في أحياء حلب الشرقية.
سنجار… اللعبة التركية المزدوجة
من جهة أخرى، وفي دلالة واضحة على حجم المأزق الذي تمر به السياسة التركية واضطرارها إلى رمي أوراقها دفعة واحدة، كان من اللافت أن تتزامن تطورات منبج مع تطورات أخرى شهدتها المنطقة الحدودية بين سورية والعراق ولاسيما في منطقتي سنجار العراقية والهول السورية.
ففي سنجار، حصلت اشتباكات، صباح الخميس، بين قوات تابعة لحكومة إقليم كردستان العراق بقيادة مسعود برزاني، وقوات من حزب العمال الكردستاني أو وحدات حماية سنجار وهي بمعظمها من عناصر إيزيدية تدربت في معسكرات «العمال الكردستاني». لكن اللافت أن الاشتباك حصل بعد انتشار ما تسمى «قوات بشمركة روج آفا» بالقرب من الحدود السورية العراقية.
و«بشمركة روج آفا» هي وحدات مدعومة من تركيا تابعة لـ«المجلس الوطني الكردي» وتلقت تدريباتها في معسكرات «كردستان العراق» وهي مناهضة للجناح الكردي الذي تمثله «قوات سورية الديمقراطية». وكانت هذه القوات قد أعلنت في السابق عن «نيتها الدخول إلى سورية وأن ذلك لا يتطلب إذناً من أي جهة» في إشارة إلى «قسد».
وفي منطقة الهول السورية، تسربت أنباء عن دخول أول دفعة من «بشمركة روج آفا» إلى المنطقة. حيث ذكر موقع «صوت الشرقية» وهو مقرب من «جيش أحرار الشرقية» الذي يقاتل ضد «قسد» أن مجموعة «الفيلق الأول» من البشمركة بقيادة منصور البرزاني دخلت إلى الهول أمس الأول. ولكن لم يتسنى لـ«الوطن» التأكد من صحة هذه المعلومات.
بكافة الأحوال، وبصرف النظر عن سبب اشتعال الاشتباكات في سنجار بين جهة موالية لتركيا وأخرى مناهضة لها، لا يمكن تجاهل الارتباط بين ما يحصل في منبج وما يحصل على الحدود السورية العراقية.
وقالت لـ«الوطن» نيروز كوباني الإعلامية في «مكتب وحدات المرأة» أن « ما يجري في سنجار هو آخر أوراق تركيا لمحاولة إيقاف معركة الرقة». لأن تركيا تهدف من وراء إشعال جبهة سنجار والذي جاء بعد أيام من زيارة مسعود برزاني لأنقرة، إلى تشتيت جهود «قوات سورية الديمقراطية» وإشغالها بجبهة خلفية على الحدود».
وأشارت كوباني إلى أن تركيا تخشى أن يؤدي تحرير تلعفر في العراق من تنظيم «داعش» إلى فتح معبر جديد بين سورية والعراق يكون بديلاً عن معبر ربيعة الذي يرفض إقليم كردستان فتحه.
هذه الإشارة من شأنها أن تسلط الضوء على الأبعاد الإقليمية للصراع الذي يمكن أن يتصاعد في سنجار خلال المرحلة المقبلة، كما يكشف عن تداخل الملفات وتشابكها في الأجندة التركية. فأنقرة لا تهدف فقط إلى تأخير معركة الرقة وحسب، بل هي تريد منع أي اتصال جغرافي بين الجناح الكردي المناهض لها على ضفتي الحدود العراقية السورية، وهو أحد أسباب تشبثها بمعسكر بعشيقة الذي يهدف إلى منع هذا الاتصال. كما أن أنقرة تهدف إلى ركوب «الموجة الترامبية» والإيحاء لواشنطن أنها تعمل على تقليص النفوذ الإيراني وذلك من خلال قطع الطريق البري بين طهران والبحر الأبيض المتوسط.
وتأكيداً لذلك، قال لـ«الوطن» الصحفي العراقي منتظر العمر، وهو ناشط معروف في العراق ومتابع حثيث للتطورات الميدانية على الحدود السورية العراقية، أن «ما يحدث في سنجار تقع وراءه أهداف أخرى حيث تسعى دول إقليمية إلى تحريك القوى الصغيرة في المنطقة لتحقيق مصالحها» وأوضح ذلك بالقول: «سنجار الحدودية بين العراق وسورية تقع على خط الاتصال الإيراني مع سورية وكذلك توجد في هذه المناطق «غرب الموصل» قوات تابعة للحشد الشعبي التي تقوم بعمليات تحرير مدينة تلعفر التي حذرت تركيا من تحريرها على يد قوات الحشد في وقت سابق، فتقوم تركيا بالعمل على وضع قوات صد موالية لها بوجه الحشد الذي يعلن دائماً أنه سيقوم بملاحقة تنظيم داعش إلى الأراضي السورية».
هذا التصعيد التركي، ينمّ عن حالة التخبط التي تعيش الحكومة التركية في ظلها والتي يمكن أن تدفعها لتبني خيارات انتحارية، خصوصاً مع اقتراب موعد الاستفتاء على الدستور الجديد، والذي يبدو حسب استطلاعات الرأي الأولية أنه لا يحظى بالتأييد الشعبي الذي يتمناه أردوغان.
وقال لـ«الوطن» صحفي تركي معارض لأردوغان، رفض الكشف عن اسمه بسبب خشيته من موجة الاعتقالات التي تطال الصحفيين في تركيا، أن «الأجواء في تركيا توحي بمناخ الحرب سواء داخلياً وخارجياً» وذكر لإثبات كلامه أن «رئيس بلدية أنقرة الموالي لأردوغان يتحدث في مجالسه الخاصة عن تسليح الموالين من أجل إفشال أي مؤامرة جديدة» يقصد بذلك إخفاق الاستفتاء على الدستور وعدم حصوله على الأغلبية المطلوبة.
وختم بالقول «نفهم من ذلك أن المستقبل الذي تنتظره تركيا: دموي».
المصدر :
عبد اللـه علي
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة