مع رحيل ثائر بمقام الزعيم الكوبي فيدل كاسترو، يطوي العالم صفحة مشرقة ومزيّنة بالكرامة والعزة. شاء القدر أن تُكلِّل تلك الصفحة بالمصالحة التاريخية بين هافانا وواشنطن وبزيارة أول رئيس أميركي الى الجزيرة المقاومة والصامدة منذ 58 عاماً قام بها باراك أوباما.

 

 لا شك في أن كاسترو مات قرير العين. هو صبر وصمد وقاوم وطوّر العلوم والثقافة في بلاده. صدّر عشرات آلاف الأطباء الى جارته فنزويلا وغيرها. استطاع أن يحقق مقولة أن الهزيمة ليست قدراً. لكن أميركا بقيت الهدف، فإعادة العلاقات معها أنعش آمال الكوبيين بانفراج اقتصادي وبنقل الشعب الكوبي من مرحلة التقشف الاقتصادي والتشدّد السياسي الى مرحلة أخرى، لا يعلم غير الله علامَ سوف تستقر.

 

كان كاسترو نصيراً للقضايا العربية المحقّة. وقف الى جانب مقاوماتنا. ساند الدول المتمردة على أميركا. استقبل آلاف الطلاب الفلسطينيين. خرّج آلاف الاختصاصيين العرب في مجالات الطب وغيره. لكن العرب الذين يفرح بعضهم اليوم بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ويناهضه البعض الآخر، لم يُحسِنوا الحفاظ على أي حليف حقيقي. كانت أفريقيا في عهد الزعيم العربي جمال عبد الناصر كلها تقريباً الى جانب قضاياهم، صار جلّها اليوم مسرحاً لاستخبارات إسرائيل ومهندسيها وتجار السلاح.

 

نجحت أميركا الى حد كبير في أن تُصبح قبلة العرب. مَن تحالف معها وانضوى تحت جناحها كان يعتقد أنها تحميه مهما فعل، ومَن عاداها كان ينتظر الفرصة الفضلى للتصالح معها. أما التحالفات الأخرى فقد كانت في معظم الأوقات جسراً صوب أميركا وليس بديلاً لها، إلا بعض الاستثناءات الطفيفة في أوج تمدد الاتحاد السوفياتي وأفكاره.

 

صمدت كوبا، رغم عقود الحصار والعقوبات. مثلها صمدت الثورة الإسلامية الإيرانية وطوّرت علومها وسلاحها واقتصادها. حسب تقرير طومسون رويترز، احتلت إيران المركز الأول عالمياً في معدل النمو في الإنتاج العلمي المنشور. أنفقت فقط في العام ٢٠١١، ٦،٣ مليار دولار على البحث العلمي. تطبع ٢٥٠ مليون نسخة كتاب. هي الأولى في إنتاج السيارات في الشرق الأوسط. طوّرت تكنولوجيا النانو والبرامج النووية والأقمار الصناعية وأحدث أنواع الأسلحة وغيرها. حققت اكتفاء ذاتياً من القمح بعد أن كانت تستورده. قلصت اعتمادها على النفط إلى أقل من ٣٠ في المئة.

 

لكن الانفراج الاقتصادي والسياسي الحقيقي بدأ فقط حين تصالحت إيران مع أميركا والغرب ووقعت الاتفاق النووي.

 

هنا لبّ القضية. فأميركا لا تزال حتى إشعار آخر القوى العظمى الأولى في العالم. ترنحت قليلاً أمام التقدم الاقتصادي الهائل للصين. قلقت من عودة روسيا القوية بقيادة فلاديمير بوتين ومن تجمع دول «البريكس»، لكنها لا تزال تقرر الجزء الأكبر من سياسات العالم. تفرض عقوبات حين تشاء. تسمُ هذا الطرف أو ذاك بالإرهاب لمّا تشاء. وهي مع حلفائها في الأطلسي المصدر الأول للأخبار ووكالات الأنباء في العالم.

 

ما فعلته كوبا وإيران هو تماماً عكس مع فعل النظام العربي. لم تنبطح الدولتان. لم تستجديا التفاوض مع أميركا. صبرتا كثيراً. صمدتا. ثم خرجت إيران من إطارها الضيق باتجاه المحيط لتفرض دوراً مركزياً أمنياً وسياسياً بدأ يثير قلق عدد من الدول العربية وإسرائيل وتركيا. فاوضت طهران أميركا من موقع القوة، خلافاً لما فعله العرب حين ذهبوا مطأطئي الرؤوس إلى مؤتمرات الصلح من دون مقابل مع إسرائيل من مدريد الى أوسلو فقمة بيروت.

 

في سوريا كان مثال آخر على نتائج التحدّي. سعت أميركا منذ البداية الى احتواء الرئيس بشار الأسد. أرسلت وزيرة خارجيتها مادلين اولبرايت للمشاركة في جنازة الرئيس حافظ الأسد. وحين جاء وزير الخارجية كولن باول الى دمشق بعد اجتياح العراق في العام ٢٠٠٣ كان يحمل عصياً كثيرة وجزرات قليلة وينصح بالانفتاح على إسرائيل ووقف دعم المقاومات اللبنانية والفلسطينية وقطع العلاقات مع إيران وطرد المنظمات الفلسطينية.

 

لم يكن الأسد راغباً في تحويل أميركا عدواً. هو أيضاً يريدها قريبة، لكنه أراد التعامل معها من موقع القوة. حين نصحته هيلاري كلينتون في العام 2010 بالابتعاد عن إيران بعد زيارة الرئيس محمود أحمدي نجاد الى دمشق، ردّ عليها ساخرًا: «إننا نلتقي اليوم لتوقيع اتفاقية ابتعاد بين سوريا وإيران، لكن بما أنّنا فهمنا الأمور خطأ، ربّما بسبب الترجمة أو محدودية الفهم، وقّعنا اتفاقية إلغاء التأشيرات، ولا نعرف أكان هذا يتوافق مع ذاك أم لا». من جانبه قال نجاد ساخراً أيضاً إنّ كلام كلينتون «مثل كلام أم العروس لكونه ليس في محله، وليس هناك من مسافة تفصل بين سوريا وإيران، ولم يطلب أحد من كلينتون أن تُبدي وجهة نظرها، فليغادرونا ويريحونا».

 

بين ٢٠١٠ و٢٠١١ أي بداية الحرب السورية المسافة قصيرة. صحيح أن الأسد فاوض إسرائيل عبر تركيا عام ٢٠٠٨ تجنباً للأسوأ لكنه، كما والده، لم يقبل أي تنازلات في الجولان.. كانت النتيجة أن سوريا دفعت غالياً جداً ثمن المواجهة، وكان جزء من هذا الثمن هو بسبب تحالفها مع إيران. لكن في نهاية المطاف لن يكون حلّ في سوريا الا من خلال تغيير في الموقف الأميركي عاجلاً أم آجلاً، ذلك أن إسقاط النظام بالقوة فشل، ولكن استعادة النظام لكل سورية بالقوة أيضاً وضد أميركا سيفشل، مهما كان الدور الروسي كبيراً. أميركا هي الهدف.

 

الى هذه النماذج الثلاثة، فإن غزة الصابرة فوق دمارها وجروحها والمحصّنة فقط بكرامة أهلها وعزيمتهم، تطرح كثيراً من علامات الاستفهام في المعادلة الأميركية. فإذا كان المدافعون عن حماس على المستوى الإقليمي، أي قطر وتركيا، دولتين حليفتين لأميركا وإحداهما جزء من الأطلسي، فلماذا يستمرّ ذبح هذه المدينة الفلسطينية المقاومة؟ هل لأنها خطرة فعلاً على إسرائيل؟ أم لأن ثمة روابط بينها وبين إيران حتى ولو أن هذه الروابط ترنّحت كثيراً منذ اعتماد حماس خيار الاخوان المسلمين في ما يُسمّى بالربيع العربي؟

 

هنا أيضاً يبدو أن الهدف أميركي بامتياز. ثمة رغبة بتعديل المشهد الفلسطيني كله. السعي حثيث حالياً للإتيان بقيادة تُلغي المقاومة المسلحة وتقبل بمصالحة تاريخية مع إسرائيل من دون مقابل. الواضح إذاً أن عدداً من الدول العربية الخائفة على أوضاعها الداخلية أو دورها الإقليمي تعتقد أن السير في اتجاه إسرائيل هو السبيل لاستعادة الرضا الأميركي.

 

لماذا نجحت كوبا وإيران في المصالحة مع أميركا من موقع الصمود والصبر والقوة، ولا يرى العرب سبيلاً للرضا الأميركي إلا بالانبطاح؟

 

ربما طرح كاسترو كثيراً هذا السؤال، لكنه مات قبل أن يجد جواباً.

  • فريق ماسة
  • 2016-11-27
  • 8424
  • من الأرشيف

من كاسترو إلى إيران فسورية وغزة.. الهدف أميركا

مع رحيل ثائر بمقام الزعيم الكوبي فيدل كاسترو، يطوي العالم صفحة مشرقة ومزيّنة بالكرامة والعزة. شاء القدر أن تُكلِّل تلك الصفحة بالمصالحة التاريخية بين هافانا وواشنطن وبزيارة أول رئيس أميركي الى الجزيرة المقاومة والصامدة منذ 58 عاماً قام بها باراك أوباما.    لا شك في أن كاسترو مات قرير العين. هو صبر وصمد وقاوم وطوّر العلوم والثقافة في بلاده. صدّر عشرات آلاف الأطباء الى جارته فنزويلا وغيرها. استطاع أن يحقق مقولة أن الهزيمة ليست قدراً. لكن أميركا بقيت الهدف، فإعادة العلاقات معها أنعش آمال الكوبيين بانفراج اقتصادي وبنقل الشعب الكوبي من مرحلة التقشف الاقتصادي والتشدّد السياسي الى مرحلة أخرى، لا يعلم غير الله علامَ سوف تستقر.   كان كاسترو نصيراً للقضايا العربية المحقّة. وقف الى جانب مقاوماتنا. ساند الدول المتمردة على أميركا. استقبل آلاف الطلاب الفلسطينيين. خرّج آلاف الاختصاصيين العرب في مجالات الطب وغيره. لكن العرب الذين يفرح بعضهم اليوم بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ويناهضه البعض الآخر، لم يُحسِنوا الحفاظ على أي حليف حقيقي. كانت أفريقيا في عهد الزعيم العربي جمال عبد الناصر كلها تقريباً الى جانب قضاياهم، صار جلّها اليوم مسرحاً لاستخبارات إسرائيل ومهندسيها وتجار السلاح.   نجحت أميركا الى حد كبير في أن تُصبح قبلة العرب. مَن تحالف معها وانضوى تحت جناحها كان يعتقد أنها تحميه مهما فعل، ومَن عاداها كان ينتظر الفرصة الفضلى للتصالح معها. أما التحالفات الأخرى فقد كانت في معظم الأوقات جسراً صوب أميركا وليس بديلاً لها، إلا بعض الاستثناءات الطفيفة في أوج تمدد الاتحاد السوفياتي وأفكاره.   صمدت كوبا، رغم عقود الحصار والعقوبات. مثلها صمدت الثورة الإسلامية الإيرانية وطوّرت علومها وسلاحها واقتصادها. حسب تقرير طومسون رويترز، احتلت إيران المركز الأول عالمياً في معدل النمو في الإنتاج العلمي المنشور. أنفقت فقط في العام ٢٠١١، ٦،٣ مليار دولار على البحث العلمي. تطبع ٢٥٠ مليون نسخة كتاب. هي الأولى في إنتاج السيارات في الشرق الأوسط. طوّرت تكنولوجيا النانو والبرامج النووية والأقمار الصناعية وأحدث أنواع الأسلحة وغيرها. حققت اكتفاء ذاتياً من القمح بعد أن كانت تستورده. قلصت اعتمادها على النفط إلى أقل من ٣٠ في المئة.   لكن الانفراج الاقتصادي والسياسي الحقيقي بدأ فقط حين تصالحت إيران مع أميركا والغرب ووقعت الاتفاق النووي.   هنا لبّ القضية. فأميركا لا تزال حتى إشعار آخر القوى العظمى الأولى في العالم. ترنحت قليلاً أمام التقدم الاقتصادي الهائل للصين. قلقت من عودة روسيا القوية بقيادة فلاديمير بوتين ومن تجمع دول «البريكس»، لكنها لا تزال تقرر الجزء الأكبر من سياسات العالم. تفرض عقوبات حين تشاء. تسمُ هذا الطرف أو ذاك بالإرهاب لمّا تشاء. وهي مع حلفائها في الأطلسي المصدر الأول للأخبار ووكالات الأنباء في العالم.   ما فعلته كوبا وإيران هو تماماً عكس مع فعل النظام العربي. لم تنبطح الدولتان. لم تستجديا التفاوض مع أميركا. صبرتا كثيراً. صمدتا. ثم خرجت إيران من إطارها الضيق باتجاه المحيط لتفرض دوراً مركزياً أمنياً وسياسياً بدأ يثير قلق عدد من الدول العربية وإسرائيل وتركيا. فاوضت طهران أميركا من موقع القوة، خلافاً لما فعله العرب حين ذهبوا مطأطئي الرؤوس إلى مؤتمرات الصلح من دون مقابل مع إسرائيل من مدريد الى أوسلو فقمة بيروت.   في سوريا كان مثال آخر على نتائج التحدّي. سعت أميركا منذ البداية الى احتواء الرئيس بشار الأسد. أرسلت وزيرة خارجيتها مادلين اولبرايت للمشاركة في جنازة الرئيس حافظ الأسد. وحين جاء وزير الخارجية كولن باول الى دمشق بعد اجتياح العراق في العام ٢٠٠٣ كان يحمل عصياً كثيرة وجزرات قليلة وينصح بالانفتاح على إسرائيل ووقف دعم المقاومات اللبنانية والفلسطينية وقطع العلاقات مع إيران وطرد المنظمات الفلسطينية.   لم يكن الأسد راغباً في تحويل أميركا عدواً. هو أيضاً يريدها قريبة، لكنه أراد التعامل معها من موقع القوة. حين نصحته هيلاري كلينتون في العام 2010 بالابتعاد عن إيران بعد زيارة الرئيس محمود أحمدي نجاد الى دمشق، ردّ عليها ساخرًا: «إننا نلتقي اليوم لتوقيع اتفاقية ابتعاد بين سوريا وإيران، لكن بما أنّنا فهمنا الأمور خطأ، ربّما بسبب الترجمة أو محدودية الفهم، وقّعنا اتفاقية إلغاء التأشيرات، ولا نعرف أكان هذا يتوافق مع ذاك أم لا». من جانبه قال نجاد ساخراً أيضاً إنّ كلام كلينتون «مثل كلام أم العروس لكونه ليس في محله، وليس هناك من مسافة تفصل بين سوريا وإيران، ولم يطلب أحد من كلينتون أن تُبدي وجهة نظرها، فليغادرونا ويريحونا».   بين ٢٠١٠ و٢٠١١ أي بداية الحرب السورية المسافة قصيرة. صحيح أن الأسد فاوض إسرائيل عبر تركيا عام ٢٠٠٨ تجنباً للأسوأ لكنه، كما والده، لم يقبل أي تنازلات في الجولان.. كانت النتيجة أن سوريا دفعت غالياً جداً ثمن المواجهة، وكان جزء من هذا الثمن هو بسبب تحالفها مع إيران. لكن في نهاية المطاف لن يكون حلّ في سوريا الا من خلال تغيير في الموقف الأميركي عاجلاً أم آجلاً، ذلك أن إسقاط النظام بالقوة فشل، ولكن استعادة النظام لكل سورية بالقوة أيضاً وضد أميركا سيفشل، مهما كان الدور الروسي كبيراً. أميركا هي الهدف.   الى هذه النماذج الثلاثة، فإن غزة الصابرة فوق دمارها وجروحها والمحصّنة فقط بكرامة أهلها وعزيمتهم، تطرح كثيراً من علامات الاستفهام في المعادلة الأميركية. فإذا كان المدافعون عن حماس على المستوى الإقليمي، أي قطر وتركيا، دولتين حليفتين لأميركا وإحداهما جزء من الأطلسي، فلماذا يستمرّ ذبح هذه المدينة الفلسطينية المقاومة؟ هل لأنها خطرة فعلاً على إسرائيل؟ أم لأن ثمة روابط بينها وبين إيران حتى ولو أن هذه الروابط ترنّحت كثيراً منذ اعتماد حماس خيار الاخوان المسلمين في ما يُسمّى بالربيع العربي؟   هنا أيضاً يبدو أن الهدف أميركي بامتياز. ثمة رغبة بتعديل المشهد الفلسطيني كله. السعي حثيث حالياً للإتيان بقيادة تُلغي المقاومة المسلحة وتقبل بمصالحة تاريخية مع إسرائيل من دون مقابل. الواضح إذاً أن عدداً من الدول العربية الخائفة على أوضاعها الداخلية أو دورها الإقليمي تعتقد أن السير في اتجاه إسرائيل هو السبيل لاستعادة الرضا الأميركي.   لماذا نجحت كوبا وإيران في المصالحة مع أميركا من موقع الصمود والصبر والقوة، ولا يرى العرب سبيلاً للرضا الأميركي إلا بالانبطاح؟   ربما طرح كاسترو كثيراً هذا السؤال، لكنه مات قبل أن يجد جواباً.

المصدر : سامي كليب/ السفير


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة