في أول أجزاء رباعيته من دمشق اكتشف باتريك كوكبيرن أنه رغم حماية معظم إرث سوريا الثقافي من همجية تدمير داعش، فإن ثمة معامل فنية تستغل الحرب لتزوير هذا الإرث والمتاجرة به مع الغرب.

في المتحف الوطني بدمشق كتب قديمة عن السحر الأسود والشعوذة تدرج عدة لعنات وتعويذات سحرية لقهر العدو وتشتيت أمره، وإلى جانب هذه الكتب المهلهلة كتاب مقدس مصنوع من النحاس وكتب دينية من الفترة الصليبية، وفي مكان آخر من المتحف تمثال حجري لصقر يلفت الأنظار، حسب تقرير لصحيفة الإندبندنت البريطانية.

تبدو المجموعة كأنها قطع ثمينة مدهشة سلمت من الضياع والتلف عبر ماضي سوريا وبقيت عبر تاريخها، إلا أن المجموعة في الواقع ما هي سوى نماذج مزورة جرت مصادرتها من مهربين ضبطوا على حدود البلاد أثناء محاولتهم المغادرة للمتاجرة بالقطع مع زبائن وسماسرة أجانب.

قطع مصنوعة بعناية وخبرة في دمشق وحلب أو غيرهما في سوريا باتت تملأ سوقاً سوداء يؤمها زبائن ينخدعون ويصدقون بسهولة أن تحف سوريا التاريخية تتعرض للسرقات يومياً وسط فوضى الحرب السورية.

يقول د. مأمون عبدالكريم، المدير العام للآثار والمتاحف بدمشق: "بدأ الأمر كله عام 2015. كانت المناطق الأثرية عامي 2013 و2014 قد تعرضت لهجمات من الناهبين والسارقين، بيد أن هؤلاء لم يجدوا ضالتهم بالقدر المنشود، فتحولوا إلى صنع القطع المزورة".

في سوريا تقاليد حرفية موروثة، لكن بالإضافة إلى ذلك هناك العديد من علماء الآثار وجامعيها العاطلين عن العمل والمستعدين لتقديم خبراتهم ونصائحهم للمزورين، رغم أن د. عبدالكريم لا يأتي على ذكر ذلك. نتيجة التزوير هذه تكون غالباً مقنعة جداً وتغرّ من يراها لتصديق أنها حقيقية، وتأتي هذه القطع المزورة من مناطق واقعة تحت سيطرة الحكومة والمعارضة على السواء، حسب تقرير الصحيفة البريطانية .

مدفونة تحت الأرض

في محافظة إدلب الواقعة تحت سيطرة المعارضة متخصصون بتدليس وتزوير الفسيفساء الرومانية والإغريقية، حيث تدفن القطع المزورة وسط الأماكن الأثرية لتعزيز الظن بأصلها ومصداقيتها، فيقتنع الشاري من رؤيته للقطع في صور تظهرها وهي تستخرج وتنقب من الأرض.

يستغل المهربون نقطة مخاطر الحرب التي تمنع دخول الزبائن الشارين إلى سوريا مخافة المجازفة بدخول المعمعمة، فلا يتمكنون من معاينة القطع التي يشترونها وتبين أصلها وفصلها. يظن هؤلاء أن القطع الثمينة مقدمة لهم بأسعار تنافسية لأن داعش وغيره من التنظيمات الإسلامية التي تؤمن بحرمانية الأيقونات والتماثيل تقوم بإزالتها من المواقع الأثرية لسببين: الأول عقائدي أيديولوجي هو الحرمانية، والثاني مادي هو حشد الأموال وجمعها للدعم، مزاعم صحيحة لكن ليست بالحجم الذي يتخيله هؤلاء (فليست القطع الأثرية المزورة وحدها هي المعروضة للبيع، بل كذلك الوثائق الحديثة التي يشتريه الإعلام الأجنبي ظناً أن مصدرها داعش بيد أن منشأها وأهميتها إما محل ارتياب وإما مبالغ فيها).

بعض القطع المزورة يمكن افتضاح أمرها وكشفه عن طريق خبراء متخصصين، لكن بعضه الآخر مصنوع بحرفية عالية لا تنفع معها سوى التحاليل المخبرية في كشف أن تاريخ صناعتها حديث العهد.

أحياناً يقوم المزورون بخلط عناصر قديمة بحديثة كي تصعب عملية كشف التزوير. في المتحف الوطني بدمشق يتمعن يعقوب عبدالله، مدير المتحف، في إناء به عملات معدنية عباسية ورومانية وبيزنطية ثم يخرجها منها ويفرزها في مجموعتين ويتمتم: "أصلية، مزورة، أصلية، مزورة"، فيما يضع كلاً منها على حدة. بعض القطع من مثل كتب الشعوذة والسحر الأسود المصنوعة من جلد الثيران يتم مصادرتها من قبل الشرطة من دون معرفة طاقم المتحف بمصدرها.

80 % مزورة

يقول د. عبدالكريم إن 80% من الآثار المهربة من سوريا إلى لبنان مزورة مقارنة بقبل عامين حين كانت نسبتها 30% حسب تقديرات السلطات اللبنانية.

وأضاف د. عبدالكريم أن المهربين يعرفون أنهم إن ضبطوا متلبسين على يد الشرطة السورية فسيحصلون على أحكام مخففة لأن بوسعهم إثبات أنهم لم يكونوا يقومون بنهب التراث السوري رغم أن أسبابهم في ذلك مصالح شخصية بحتة.

يستفيد المهربون من كون سوريا مهد الحضارات تضم العديد من أولى المجتمعات الزراعية والمدن المأهولة في العالم.

بعض المواقع الأثرية شهير جداً كالجامع الأموي الكبير بدمشق ذي الفسيفساء التي ترجع إلى القرن الثامن للميلاد، ورسوماتها التي تصور الحياة اليومية في زمن الفتوحات الإسلامية، كذلك هناك مدينو دورا أوروبوس، المدينة الهيلينية التي يطلق عليها "بومبي البادية السورية" المشهورة برسوماتها الحائطية من أقدم المعابد اليهودية، والتي لحسن الحظ نقلت منذ أمد طويل إلى دمشق.

ولكن من سوء الحظ أن آلاف المواقع الهامة والأثرية تقع ضمن نطاق المناطق التي مزقتها الحرب مثل إيبلا في محافظة إدلب، والتي هي مدينة من العصر البرونزي يرجع تاريخها للألفية الثانية والثالثة قبل الميلاد، وكذلك تقع مدن أثرية أخرى كـ"ماري" من الألفية الثالثة قبل الميلاد تحت سيطرة داعش وهي عرضة للتدمير الممنهج والنهب والإهمال، فالصور تظهر حفراً وفجوات عميقة حفرها اللصوص كل بضعة أمتار.

لقد تسببت حروب كثيرة عبر تاريخ البشرية بضياع وفقدان العديد من التحف العريقة الفنية والآثار المعمارية والأثرية المتبقية من الحضارات البائدة؛ وعادة ما يرجع سبب دمارها إلى 3 عوامل: الخراب بسبب القتال، أو السرقات والنهب للكسب المادي، واعتراضات عقائدية أيديولوجية على أنواع معينة من الفن مثل تجسيد وتصوير الآلهة والرموز الدينية.

شهدت أوروبا كل هذه الأنواع من التخريب، أشهرها كانت الحروب الدينية بين القرنين الـ16 والـ17 وقصف المدن في الحرب العالمية الثانية.

أما حرب سوريا التي طالت 5 سنوات حتى الآن فقد جمعت كل هذه العوامل الـ3 على نحو متفرد في شراسته وتخريبه، فالحرب طالت كل زاوية من زوايا البلاد وهناك خروقات وانتهاكات مزمنة للقانون والأنظمة تفتح الباب أمام كل منتفع تسول له نفسه السلب والنهب، كذلك وقع أغلب شرق سوريا تحت حكم مجموعة دينية من شاكلة داعش تستهدف الآثار العريقة لأنها وثنية وتبيدها على نحو لم يشهد له التاريخ مثيلاً.

النتيجة كانت مروعة، فقد قصفت كل من حلب وحمص على مدار سنوات، ويحذر د. عبدالكريم من أنه "إذا استمرت حلب في كونها ساحة معركة عندها ستتحول إلى مثل وارسو عام 1944"، فقد احترق سوق المدينة الذي كان يضم أكثر من 700 من الدكاكين التقليدية، وأما الجامع الكبير فلحقت به أضرار جسيمة.

في كل من دمشق وحلب وحمص – أكبر 3 مدن سورية - مناطق وأحياء أشبه بالأشباح تقف فيها الأبنية محطمة وسط الأنقاض فيما الجدران والحيطان لا تزال واقفة رغم الثقوب التي ملأتها وتآكلتها من رش الرصاص ووابل الشظايا. أما تدمر فقد أقدم داعش على فعلة ذاع صيتها في الآفاق حينما فجر معبد بل ونهب مباني وحطم هياكل أخرى.

الصورة ليست قاتمة تماماً

قصة الدمار والعنف والتخريب هذه قد تقود البعض ليظن أن رحلة صيانة إرث سوريا والحفاظ على تراثها رحلة مأساوية مليئة بالمطبات والفشل أمام الجشع والتطرف، وهو أمرٌ واقع فعلاً لكن إلى حد ما، فهنالك أدلة تثبت أن الصورة الإعلامية النمطية التي تصور سوريا في منحدر دائم نحو غياهب الشر ليس صحيحة وأن انتصارات الباطل ليست إلى الأبد.

فالأخبار في سوريا ليست كلها تعيسة مزرية، وفيما يخص الآثار والتراث الماضي، فكفة الميزان ترجح أكثر لما يتم إنقاذه والحفاظ عليه، لا لما يضيع ويندثر.

يقول د. عبدالكريم الذي عين مديراً عاماً لمديرية الآثار والمتاحف عام 2013 والتي لا يتقاضى عليها أجراً ويرى فيها نفسه غير منحاز سياسياً إلى أي طرف: "علينا ألا نكون متشائمين".

ينحدر د. عبدالكريم من أصل أرمني كردي، فوالده من الناجين من المذابح الأرمنية عام 1915 وقد تبنته عائلة كردية، ولهذا يتفاخر د. عبدالكريم بتعددية سوريا الإثنية والعرقية وتنوعها الثقافي، ويود بذل كل ما بوسعه للحفاظ عليها. يتواصل هو وطواقم مديريته البالغ عددهم 2500 موظف (والذين يوجد بعضهم في مناطق تسيطر عليها المعارضة) مع السكان المحليين الذين يبدون تعاوناً لحماية الآثار الباقية في مناطق سكنهم.

ورغم كل فداحة التخريب والدمار إلا أن أياً من كبرى متاحف سوريا لم تفقد أياً من محتوياتهم لا عبر النهب ولا عبر التدمير، رغم أن البعض منها كان قاب قوسين أو أدنى من طامة كبرى. فالشاحنات المحملة بتحف متحف تدمر كانت قد غادرت متجهة إلى دمشق قبل 3 ساعات من استيلاء داعش على المدينة عام 2015. كذلك نقلت 24 ألف قطعة أثرية إلى بر الأمان في حلب و30 ألف أخرى نقلت جواً إلى دير الزور على ضفاف الفرات شرق البلاد، منها 24 ألف لوحاً بالكتابة المسمارية .

يقول د. عبدالكريم: "خفت من أن يستولي داعش على المدينة في أي لحظة، ولم أذق النوم ليالي طوالاً".

يضيف أيضاً أنه عندما أصبح عالم آثار كان يأمل أن يقضي بقية مشواره المهني في "استكشاف الكنوز، لكني خلال السنوات الـ3 الأخيرة قضيت كل وقتي بدلاً من ذلك في تخبئتها".

خزائن سرية

بمجرد وصول القطع الأثرية إلى دمشق توضع في خزائن سرية مع غيرها من مقتنيات المتحف الوطني الذي أغلق منذ زمن.

أما في غرفه التي خوت على عروشها اليوم يضم المتحف الوطني صناديق ذخائر الجيش القديمة المملوءة بتماثيل متكسرة من تدمر، بعضها هشّمه داعش وحطمتها حتى ما عاد ينفع معها صمغ ولا غراء، لكن ثمة قطع مكسرة نجت ويمكن بصعوبة إرجاعها كما كانت سوياً.

إن الدمار الذي لحق بآثار سوريا ليس دماراً شاملاً مثلما كان أكبر المخاوف تتوقع، ففي وجه آلة الدمار يقف علماء آثار سوريا وسكانها صفاً واحداً.

لقد أعدم خالد أسعد المدير السابق لآثار تدمر وآثارهما عن عمر يناهز 82 عاماً إعداماً علنياً على يد داعش في قلب المدينة شهر آب 2015 لأنه كان من كبار المثقفين ورفض البوح لداعش بالأماكن المخبأة فيها الكنوز، ولعله لم يكن هناك من شيء يبوح به أصلاً لأن كل الكنوز كانت قد نقلت إلى بر الأمان.

إن مجرد فكرة أن معظم القطع المهربة من سوريا الآن قطع مزورة هي دليل غير مباشر على أن المهربين ومن يدير عصاباتهم قد فشلوا في نهب التحف الأصلية التي لا تعوض مثلما كان عشمهم. إن ماضي سوريا مثل حاضرها، قد يكون أكثر تماسكاً مما قد يبدو.

  • فريق ماسة
  • 2016-09-08
  • 20457
  • من الأرشيف

الآثار السورية نقلت إلى دمشق وفي مخابئ سرية.. 80% مما يتم تهريبه مزور و هناك معامل خاصة بذلك

في أول أجزاء رباعيته من دمشق اكتشف باتريك كوكبيرن أنه رغم حماية معظم إرث سوريا الثقافي من همجية تدمير داعش، فإن ثمة معامل فنية تستغل الحرب لتزوير هذا الإرث والمتاجرة به مع الغرب. في المتحف الوطني بدمشق كتب قديمة عن السحر الأسود والشعوذة تدرج عدة لعنات وتعويذات سحرية لقهر العدو وتشتيت أمره، وإلى جانب هذه الكتب المهلهلة كتاب مقدس مصنوع من النحاس وكتب دينية من الفترة الصليبية، وفي مكان آخر من المتحف تمثال حجري لصقر يلفت الأنظار، حسب تقرير لصحيفة الإندبندنت البريطانية. تبدو المجموعة كأنها قطع ثمينة مدهشة سلمت من الضياع والتلف عبر ماضي سوريا وبقيت عبر تاريخها، إلا أن المجموعة في الواقع ما هي سوى نماذج مزورة جرت مصادرتها من مهربين ضبطوا على حدود البلاد أثناء محاولتهم المغادرة للمتاجرة بالقطع مع زبائن وسماسرة أجانب. قطع مصنوعة بعناية وخبرة في دمشق وحلب أو غيرهما في سوريا باتت تملأ سوقاً سوداء يؤمها زبائن ينخدعون ويصدقون بسهولة أن تحف سوريا التاريخية تتعرض للسرقات يومياً وسط فوضى الحرب السورية. يقول د. مأمون عبدالكريم، المدير العام للآثار والمتاحف بدمشق: "بدأ الأمر كله عام 2015. كانت المناطق الأثرية عامي 2013 و2014 قد تعرضت لهجمات من الناهبين والسارقين، بيد أن هؤلاء لم يجدوا ضالتهم بالقدر المنشود، فتحولوا إلى صنع القطع المزورة". في سوريا تقاليد حرفية موروثة، لكن بالإضافة إلى ذلك هناك العديد من علماء الآثار وجامعيها العاطلين عن العمل والمستعدين لتقديم خبراتهم ونصائحهم للمزورين، رغم أن د. عبدالكريم لا يأتي على ذكر ذلك. نتيجة التزوير هذه تكون غالباً مقنعة جداً وتغرّ من يراها لتصديق أنها حقيقية، وتأتي هذه القطع المزورة من مناطق واقعة تحت سيطرة الحكومة والمعارضة على السواء، حسب تقرير الصحيفة البريطانية . مدفونة تحت الأرض في محافظة إدلب الواقعة تحت سيطرة المعارضة متخصصون بتدليس وتزوير الفسيفساء الرومانية والإغريقية، حيث تدفن القطع المزورة وسط الأماكن الأثرية لتعزيز الظن بأصلها ومصداقيتها، فيقتنع الشاري من رؤيته للقطع في صور تظهرها وهي تستخرج وتنقب من الأرض. يستغل المهربون نقطة مخاطر الحرب التي تمنع دخول الزبائن الشارين إلى سوريا مخافة المجازفة بدخول المعمعمة، فلا يتمكنون من معاينة القطع التي يشترونها وتبين أصلها وفصلها. يظن هؤلاء أن القطع الثمينة مقدمة لهم بأسعار تنافسية لأن داعش وغيره من التنظيمات الإسلامية التي تؤمن بحرمانية الأيقونات والتماثيل تقوم بإزالتها من المواقع الأثرية لسببين: الأول عقائدي أيديولوجي هو الحرمانية، والثاني مادي هو حشد الأموال وجمعها للدعم، مزاعم صحيحة لكن ليست بالحجم الذي يتخيله هؤلاء (فليست القطع الأثرية المزورة وحدها هي المعروضة للبيع، بل كذلك الوثائق الحديثة التي يشتريه الإعلام الأجنبي ظناً أن مصدرها داعش بيد أن منشأها وأهميتها إما محل ارتياب وإما مبالغ فيها). بعض القطع المزورة يمكن افتضاح أمرها وكشفه عن طريق خبراء متخصصين، لكن بعضه الآخر مصنوع بحرفية عالية لا تنفع معها سوى التحاليل المخبرية في كشف أن تاريخ صناعتها حديث العهد. أحياناً يقوم المزورون بخلط عناصر قديمة بحديثة كي تصعب عملية كشف التزوير. في المتحف الوطني بدمشق يتمعن يعقوب عبدالله، مدير المتحف، في إناء به عملات معدنية عباسية ورومانية وبيزنطية ثم يخرجها منها ويفرزها في مجموعتين ويتمتم: "أصلية، مزورة، أصلية، مزورة"، فيما يضع كلاً منها على حدة. بعض القطع من مثل كتب الشعوذة والسحر الأسود المصنوعة من جلد الثيران يتم مصادرتها من قبل الشرطة من دون معرفة طاقم المتحف بمصدرها. 80 % مزورة يقول د. عبدالكريم إن 80% من الآثار المهربة من سوريا إلى لبنان مزورة مقارنة بقبل عامين حين كانت نسبتها 30% حسب تقديرات السلطات اللبنانية. وأضاف د. عبدالكريم أن المهربين يعرفون أنهم إن ضبطوا متلبسين على يد الشرطة السورية فسيحصلون على أحكام مخففة لأن بوسعهم إثبات أنهم لم يكونوا يقومون بنهب التراث السوري رغم أن أسبابهم في ذلك مصالح شخصية بحتة. يستفيد المهربون من كون سوريا مهد الحضارات تضم العديد من أولى المجتمعات الزراعية والمدن المأهولة في العالم. بعض المواقع الأثرية شهير جداً كالجامع الأموي الكبير بدمشق ذي الفسيفساء التي ترجع إلى القرن الثامن للميلاد، ورسوماتها التي تصور الحياة اليومية في زمن الفتوحات الإسلامية، كذلك هناك مدينو دورا أوروبوس، المدينة الهيلينية التي يطلق عليها "بومبي البادية السورية" المشهورة برسوماتها الحائطية من أقدم المعابد اليهودية، والتي لحسن الحظ نقلت منذ أمد طويل إلى دمشق. ولكن من سوء الحظ أن آلاف المواقع الهامة والأثرية تقع ضمن نطاق المناطق التي مزقتها الحرب مثل إيبلا في محافظة إدلب، والتي هي مدينة من العصر البرونزي يرجع تاريخها للألفية الثانية والثالثة قبل الميلاد، وكذلك تقع مدن أثرية أخرى كـ"ماري" من الألفية الثالثة قبل الميلاد تحت سيطرة داعش وهي عرضة للتدمير الممنهج والنهب والإهمال، فالصور تظهر حفراً وفجوات عميقة حفرها اللصوص كل بضعة أمتار. لقد تسببت حروب كثيرة عبر تاريخ البشرية بضياع وفقدان العديد من التحف العريقة الفنية والآثار المعمارية والأثرية المتبقية من الحضارات البائدة؛ وعادة ما يرجع سبب دمارها إلى 3 عوامل: الخراب بسبب القتال، أو السرقات والنهب للكسب المادي، واعتراضات عقائدية أيديولوجية على أنواع معينة من الفن مثل تجسيد وتصوير الآلهة والرموز الدينية. شهدت أوروبا كل هذه الأنواع من التخريب، أشهرها كانت الحروب الدينية بين القرنين الـ16 والـ17 وقصف المدن في الحرب العالمية الثانية. أما حرب سوريا التي طالت 5 سنوات حتى الآن فقد جمعت كل هذه العوامل الـ3 على نحو متفرد في شراسته وتخريبه، فالحرب طالت كل زاوية من زوايا البلاد وهناك خروقات وانتهاكات مزمنة للقانون والأنظمة تفتح الباب أمام كل منتفع تسول له نفسه السلب والنهب، كذلك وقع أغلب شرق سوريا تحت حكم مجموعة دينية من شاكلة داعش تستهدف الآثار العريقة لأنها وثنية وتبيدها على نحو لم يشهد له التاريخ مثيلاً. النتيجة كانت مروعة، فقد قصفت كل من حلب وحمص على مدار سنوات، ويحذر د. عبدالكريم من أنه "إذا استمرت حلب في كونها ساحة معركة عندها ستتحول إلى مثل وارسو عام 1944"، فقد احترق سوق المدينة الذي كان يضم أكثر من 700 من الدكاكين التقليدية، وأما الجامع الكبير فلحقت به أضرار جسيمة. في كل من دمشق وحلب وحمص – أكبر 3 مدن سورية - مناطق وأحياء أشبه بالأشباح تقف فيها الأبنية محطمة وسط الأنقاض فيما الجدران والحيطان لا تزال واقفة رغم الثقوب التي ملأتها وتآكلتها من رش الرصاص ووابل الشظايا. أما تدمر فقد أقدم داعش على فعلة ذاع صيتها في الآفاق حينما فجر معبد بل ونهب مباني وحطم هياكل أخرى. الصورة ليست قاتمة تماماً قصة الدمار والعنف والتخريب هذه قد تقود البعض ليظن أن رحلة صيانة إرث سوريا والحفاظ على تراثها رحلة مأساوية مليئة بالمطبات والفشل أمام الجشع والتطرف، وهو أمرٌ واقع فعلاً لكن إلى حد ما، فهنالك أدلة تثبت أن الصورة الإعلامية النمطية التي تصور سوريا في منحدر دائم نحو غياهب الشر ليس صحيحة وأن انتصارات الباطل ليست إلى الأبد. فالأخبار في سوريا ليست كلها تعيسة مزرية، وفيما يخص الآثار والتراث الماضي، فكفة الميزان ترجح أكثر لما يتم إنقاذه والحفاظ عليه، لا لما يضيع ويندثر. يقول د. عبدالكريم الذي عين مديراً عاماً لمديرية الآثار والمتاحف عام 2013 والتي لا يتقاضى عليها أجراً ويرى فيها نفسه غير منحاز سياسياً إلى أي طرف: "علينا ألا نكون متشائمين". ينحدر د. عبدالكريم من أصل أرمني كردي، فوالده من الناجين من المذابح الأرمنية عام 1915 وقد تبنته عائلة كردية، ولهذا يتفاخر د. عبدالكريم بتعددية سوريا الإثنية والعرقية وتنوعها الثقافي، ويود بذل كل ما بوسعه للحفاظ عليها. يتواصل هو وطواقم مديريته البالغ عددهم 2500 موظف (والذين يوجد بعضهم في مناطق تسيطر عليها المعارضة) مع السكان المحليين الذين يبدون تعاوناً لحماية الآثار الباقية في مناطق سكنهم. ورغم كل فداحة التخريب والدمار إلا أن أياً من كبرى متاحف سوريا لم تفقد أياً من محتوياتهم لا عبر النهب ولا عبر التدمير، رغم أن البعض منها كان قاب قوسين أو أدنى من طامة كبرى. فالشاحنات المحملة بتحف متحف تدمر كانت قد غادرت متجهة إلى دمشق قبل 3 ساعات من استيلاء داعش على المدينة عام 2015. كذلك نقلت 24 ألف قطعة أثرية إلى بر الأمان في حلب و30 ألف أخرى نقلت جواً إلى دير الزور على ضفاف الفرات شرق البلاد، منها 24 ألف لوحاً بالكتابة المسمارية . يقول د. عبدالكريم: "خفت من أن يستولي داعش على المدينة في أي لحظة، ولم أذق النوم ليالي طوالاً". يضيف أيضاً أنه عندما أصبح عالم آثار كان يأمل أن يقضي بقية مشواره المهني في "استكشاف الكنوز، لكني خلال السنوات الـ3 الأخيرة قضيت كل وقتي بدلاً من ذلك في تخبئتها". خزائن سرية بمجرد وصول القطع الأثرية إلى دمشق توضع في خزائن سرية مع غيرها من مقتنيات المتحف الوطني الذي أغلق منذ زمن. أما في غرفه التي خوت على عروشها اليوم يضم المتحف الوطني صناديق ذخائر الجيش القديمة المملوءة بتماثيل متكسرة من تدمر، بعضها هشّمه داعش وحطمتها حتى ما عاد ينفع معها صمغ ولا غراء، لكن ثمة قطع مكسرة نجت ويمكن بصعوبة إرجاعها كما كانت سوياً. إن الدمار الذي لحق بآثار سوريا ليس دماراً شاملاً مثلما كان أكبر المخاوف تتوقع، ففي وجه آلة الدمار يقف علماء آثار سوريا وسكانها صفاً واحداً. لقد أعدم خالد أسعد المدير السابق لآثار تدمر وآثارهما عن عمر يناهز 82 عاماً إعداماً علنياً على يد داعش في قلب المدينة شهر آب 2015 لأنه كان من كبار المثقفين ورفض البوح لداعش بالأماكن المخبأة فيها الكنوز، ولعله لم يكن هناك من شيء يبوح به أصلاً لأن كل الكنوز كانت قد نقلت إلى بر الأمان. إن مجرد فكرة أن معظم القطع المهربة من سوريا الآن قطع مزورة هي دليل غير مباشر على أن المهربين ومن يدير عصاباتهم قد فشلوا في نهب التحف الأصلية التي لا تعوض مثلما كان عشمهم. إن ماضي سوريا مثل حاضرها، قد يكون أكثر تماسكاً مما قد يبدو.

المصدر : الماسة السورية


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة