كثيراً ما لفتَ انتباهي مدى التشابه بين لهجة أهل سورية، وسكان «رؤوس الجبال» في رأس الخيمة ومسندم، الواقعة الآن بين دولة الإمارات وسلطنة عُمان، هذه الجبال الرمادية العالية، القابعة في أقصى شمال شرق الخليج والوطن العربي. كان مُلفتاً أن لهجة القرى الجبلية التي كنتُ أتحدثُ بها في طفولتي لم تكن تشبه لهجات دول الخليج العربي إجمالاً، فحتى موسيقى التعبير والصياغة مختلفة عنها في دول الجوار، وكذلك الحديث في لحنه ومدّه، ابتداءً بالمفردات والجُمل وختاماً بالأرقام والحساب.. فهي تُماثل في معظمها لَكْنَة بلاد الشام وسورية.

 من المعلوم أن سورية الآرامية وقبل ميلاد المسيح عليه السلام بقرنين أو ثلاثة، أرادت التوسع في تجارتها إلى شواطئ الخليج، ففتحت طريق القوافل في الجزيرة العربية وعبرت خلاله الصحراء بلياليها المقمرة مدينة الحجر، أو كما نسميها مدائن صالح، ثم واصلت طريقها إلى حفيت مدينة العين التابعة لأبوظبي، مستأنفة رحلتها حتى الساحل الشرقي للخليج العربي، حيث الجبال المرتفعة المطلة على مضيق هرمز.

 هذه التجارة لم تكن عابرة «ترانزيت» بالمصطلح المعاصر، بل كانت محطة رئيسة وثابتة، نقلت أثناءها بضائع ساحل الخليج من تمور وفواكه مجففة وعقاقير وزيوت ولآلئ.. وكل المنتجات الوافدة إليها من توابل السند وبخور حضرموت وحرير الصين.. في المقابل جلب الآراميون السوريون بضائعهم من المشغولات الذهبية والمعدنية وخمور يونانية ومنسوجات.

 الوجود الآرامي على شواطئ الخليج واستقرارهم الاجتماعي ترك أثره السياسي أيضاً ما بين الطرفين، وليس أدل من الرسائل الحجرية باللغة الآرامية بين ملوك الأقاليم، التي كشفت عنها آثار الشارقة في مليحة هذا العام، أثبتت أن هذه اللغة كانت الأولى في المنطقة.. أنصحكم بالاطلاع عليها، لتروا كيف كان يكتنفها الاختصار والتهذيب والدعاء بمحبة.

 الآرامية التي أدخلتها سورية على شواطئ الخليج آنذاك عن طريق التجارة، تحدث بها الطرفان مع الوقت، لتشرق العلاقات التاريخية بينهما، فنهضت على الاحترام السياسي والاقتصادي والاجتماعي.. وهؤلاء الآراميون أو كما نقول العموريون الساميو الأصول، سكنوا دمشق وحولها، أسسوا سلالاتهم العديدة منها سلالة بابل، وتوسعوا تجارياً في شرق البحر المتوسط الذي سمّي في ما بعد بحر آمور، أثروا ولبسوا ملابس ملونة وقصيرة وأحذية وعبدوا آلهة متعددة، ولم ينكر التاريخ أرواحهم الشجاعة، حيث ورد في كتاب التوراة بأنهم عظماء، ووصِفوا بطول القامة.

 نعود للهجة رؤوس الجبال وأهلها الذين يتصفون بالشجاعة ويحفظون الأمانة دون مقابل، ولحروفهم التي لا ثاء فيها ولا عين أثناء النطق، وكمثال صغير، في كلمة أمي التي لا تنطق إطلاقاً بأماه أو أمايه أو يُمّا كبقية دول الخليج العربي، بل إميي بهمزة أسفل الألف مع المد، تماماً كأهل سورية.. و«موو» للتأكيد، كذلك الأرقام من «ويحِد، واتْنَين، وتَلُوتي، وسِتّيي، وتَمُونْيه». كما لا وجود لحرف الثاء المستبدلة بالسين، والذال بالدال.. ورغم الحديث بالعربية، بقيت النغمة الآمورية الشامية عالقة بها.

 يمر الزمن وتنتشر المسيحية في الخليج ومعها اللغة السريانية، يعقبها الإسلام ومعه اللغة العربية، ليذهب اللسان السوري الآرامي القديم بمفرداته عن سواحل الخليج بالتدريج حتى يختفي، ويبقى بألحانه وموسيقاه في لسان «الشحوح» سكان الجبال الوعرة الشاهقة دون غيرهم، بسبب انغلاق هذه القمم على نفسها طوال القرون الماضية.
  • فريق ماسة
  • 2016-05-27
  • 14948
  • من الأرشيف

ما سر التشابه بين اللهجة السورية ولهجة تلك المنطقة الإماراتية؟

كثيراً ما لفتَ انتباهي مدى التشابه بين لهجة أهل سورية، وسكان «رؤوس الجبال» في رأس الخيمة ومسندم، الواقعة الآن بين دولة الإمارات وسلطنة عُمان، هذه الجبال الرمادية العالية، القابعة في أقصى شمال شرق الخليج والوطن العربي. كان مُلفتاً أن لهجة القرى الجبلية التي كنتُ أتحدثُ بها في طفولتي لم تكن تشبه لهجات دول الخليج العربي إجمالاً، فحتى موسيقى التعبير والصياغة مختلفة عنها في دول الجوار، وكذلك الحديث في لحنه ومدّه، ابتداءً بالمفردات والجُمل وختاماً بالأرقام والحساب.. فهي تُماثل في معظمها لَكْنَة بلاد الشام وسورية.  من المعلوم أن سورية الآرامية وقبل ميلاد المسيح عليه السلام بقرنين أو ثلاثة، أرادت التوسع في تجارتها إلى شواطئ الخليج، ففتحت طريق القوافل في الجزيرة العربية وعبرت خلاله الصحراء بلياليها المقمرة مدينة الحجر، أو كما نسميها مدائن صالح، ثم واصلت طريقها إلى حفيت مدينة العين التابعة لأبوظبي، مستأنفة رحلتها حتى الساحل الشرقي للخليج العربي، حيث الجبال المرتفعة المطلة على مضيق هرمز.  هذه التجارة لم تكن عابرة «ترانزيت» بالمصطلح المعاصر، بل كانت محطة رئيسة وثابتة، نقلت أثناءها بضائع ساحل الخليج من تمور وفواكه مجففة وعقاقير وزيوت ولآلئ.. وكل المنتجات الوافدة إليها من توابل السند وبخور حضرموت وحرير الصين.. في المقابل جلب الآراميون السوريون بضائعهم من المشغولات الذهبية والمعدنية وخمور يونانية ومنسوجات.  الوجود الآرامي على شواطئ الخليج واستقرارهم الاجتماعي ترك أثره السياسي أيضاً ما بين الطرفين، وليس أدل من الرسائل الحجرية باللغة الآرامية بين ملوك الأقاليم، التي كشفت عنها آثار الشارقة في مليحة هذا العام، أثبتت أن هذه اللغة كانت الأولى في المنطقة.. أنصحكم بالاطلاع عليها، لتروا كيف كان يكتنفها الاختصار والتهذيب والدعاء بمحبة.  الآرامية التي أدخلتها سورية على شواطئ الخليج آنذاك عن طريق التجارة، تحدث بها الطرفان مع الوقت، لتشرق العلاقات التاريخية بينهما، فنهضت على الاحترام السياسي والاقتصادي والاجتماعي.. وهؤلاء الآراميون أو كما نقول العموريون الساميو الأصول، سكنوا دمشق وحولها، أسسوا سلالاتهم العديدة منها سلالة بابل، وتوسعوا تجارياً في شرق البحر المتوسط الذي سمّي في ما بعد بحر آمور، أثروا ولبسوا ملابس ملونة وقصيرة وأحذية وعبدوا آلهة متعددة، ولم ينكر التاريخ أرواحهم الشجاعة، حيث ورد في كتاب التوراة بأنهم عظماء، ووصِفوا بطول القامة.  نعود للهجة رؤوس الجبال وأهلها الذين يتصفون بالشجاعة ويحفظون الأمانة دون مقابل، ولحروفهم التي لا ثاء فيها ولا عين أثناء النطق، وكمثال صغير، في كلمة أمي التي لا تنطق إطلاقاً بأماه أو أمايه أو يُمّا كبقية دول الخليج العربي، بل إميي بهمزة أسفل الألف مع المد، تماماً كأهل سورية.. و«موو» للتأكيد، كذلك الأرقام من «ويحِد، واتْنَين، وتَلُوتي، وسِتّيي، وتَمُونْيه». كما لا وجود لحرف الثاء المستبدلة بالسين، والذال بالدال.. ورغم الحديث بالعربية، بقيت النغمة الآمورية الشامية عالقة بها.  يمر الزمن وتنتشر المسيحية في الخليج ومعها اللغة السريانية، يعقبها الإسلام ومعه اللغة العربية، ليذهب اللسان السوري الآرامي القديم بمفرداته عن سواحل الخليج بالتدريج حتى يختفي، ويبقى بألحانه وموسيقاه في لسان «الشحوح» سكان الجبال الوعرة الشاهقة دون غيرهم، بسبب انغلاق هذه القمم على نفسها طوال القرون الماضية.

المصدر : الإمارات اليوم /ريم الكمالي


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة