حين قررت موسكو الانخراط عسكرياً على نحو مباشر في سوريا، كان القرار ثمرة قمة بين فلاديمير بوتين وباراك أوباما. الشيء الوحيد الذي فاجأ الرئيس الأميركي آنذاك، كان توقيت إرسال الطائرات الروسية والذي أبقاه نظيره الروسي سراً. الآن يأتي القرار الروسي بسحب القوات من سوريا ابتداءً من اليوم، نتيجة اتفاق بين موسكو وواشنطن أولاً ثم تم إبلاغ الآخرين به وفق معلومات دقيقة وموثوقة.

ماذا في خلفيات القرار؟

& يأتي القرار في السياق الطبيعي لاتفاق بوتين وأوباما على رفع مستوى ضغط كل طرف على حلفائه لإنجاح مفاوضات جنيف. الرئيس الأميركي بحاجة لتحقيق إنجاز سياسي في سوريا قبل مغادرة البيت الأبيض، والرئيس الروسي يريد تخفيف الأعباء العسكرية ورفع العقوبات الأوروبية عنه والإفادة الى أقصى حد من فترة السماح الأميركي. كان هجوم أوباما عبر مقابلته مع «اتلانتيك» على السعودية وتركيا في هذا السياق. «جاء موقف بوتين الآن كثمن مقابل وكموقف مكمّل لموقف أوباما»، وفق مصدر في الأمم المتحدة.

& سحب بوتين بقراره هذا ورقة كان معارضوه الغربيون والخليجيون وفي المعارضة السورية يشددون عليها. كانوا يقولون إن دخول قواته هو الذي عرقل الحل وغيّر المعادلات. هو إذاً يريد تسهيل الحل السياسي وإحراج الخصوم.

& سحب أيضاً ورقة من أيدي حلفائه السوريين والإيرانيين. فهو يرى أن تشددهم في التفاوض ناجم عن تغيير المعادلة العسكرية. يبدو أن التقييم العسكري الروسي مختلف عن تقييم طهران. الأولى، ترى ضرورة استكمال الحسم، والثانية، تفضل الحصول على ثمار بالسياسة والمصالحات. هذا بالضبط ما دفع روسيا الى مفاجأة الحلفاء قبل الخصوم بالاتفاق مع الاميركيين على وقف العداوات. لكن المصادر الأممية ترى ان ما قام به بوتين قد يساعد لاحقاً في تقريب المواقف بين إيران والسعودية.

& يدرك بوتين أن رغبته بتسهيل الحل السياسي ستجذب إلى موسكو دول الخليج والمعارضة السورية وتسمح لأوباما بالاستمرار في تسليم مفاتيح الحل له. لكنه لا يريد خسارة الثقل الأكبر لموقعه في المنطقة عبر تحالفه مع الرئيس بشار الأسد وإيران. حصل أكثر من اتصال مع الأسد والقيادة السورية، وجرى الاتفاق على إصدار بيانين، أولهما من الكرملين وبعده مباشرة يصدر بيان عن الرئاسة السورية. لم تستسغ القيادتان الروسية والأميركية موقفي دمشق والمعارضة حيال مصير الأسد. روسيا تقول إن هذا الأمر متروك للشعب السوري وهي بالتالي ربما انزعجت من كلام الوزير وليد المعلم من أنه «لا يحق لدي ميستورا ولا لغيره الكلام عن انتخابات رئاسية لأن الأسد خط أحمر»(من هو هذا «الغير» المقصود). ويبدو أن واشنطن وجهت لوماً عنيفاً للمعارضة حين قال كبير مفاوضيها محمد علوش «إن المرحلة الانتقالية تبدأ برحيل الأسد أو بموته».

ماذا بعد خطوة بوتين؟

+ ليس صحيحاً ما ورد في البيان الروسي من أنه «تم تنفيذ أغلب مهمات وزارة الدفاع والقوات المسلحة» فالحرب لا تزال ضروساً والتهديد لا يزال كبيراً. بدا الأمر وكأنه «جزرة» من بوتين للمعارضة وداعميها، بأن القتال ضدها انتهى وأن ما بقي هو محاربة «داعش». هذا يعني رسم خطوط تماس سياسية بدلاً من خطوط التماس العسكرية. يرغب بوتين من خلال ذلك بفرض حضور المعارضة الأخرى والأكراد في مفاوضات جنيف لاحقاً، ولعله يقبل لاحقاً بمشاركة بعض المقربين من جبهة «النصرة».

+ ليس معروفاً حجم ما سيتم سحبه عسكرياً من قبل الروس. فالقاعدتان العسكريتان في طرطوس وحميميم باقيتان. والدفاع الجوي سيستمر في التحرك ضد «داعش». لكن هل سيندرج ذلك لاحقاً في إطار تحالف أوسع يضم روسيا وأميركا وأطرافاً إقليمية عدة بينها إيران والسعودية وتركيا وغيرها؟ هذا ممكن إذا ما حصل بوتين على ضمانات أميركية.

+ ماذا لو دخلت إسرائيل على الخط؟ هي الآن تشعر براحة أكبر. الدول العربية وضعت عدوها اللدود «حزب الله» على لائحة الإرهاب. علاقتها مع بوتين ممتازة. وهي قلقة من نقل أسلحة استراتيجية إلى الحزب. فهل تستغل القرار الروسي بالانسحاب من سوريا للمضي في قرار الحرب؟ هذا ممكن حتى لو أحرج أوباما.

+ هل إيران مرتاحة للقرار الروسي؟ الأكيد لا. فهي أولاً ستواجه ضغوطاً كبيرة للانسحاب من سوريا، وثانياً ستجد نفسها أمام احتمالين، إما الاستمرار في الحرب ما يعني وضعها مجدداً أمام مواجهة محتملة مع تركيا (برغم اتفاقهما مؤخراً) والسعودية (التي مهدت للأمر بمناورات حفر الباطن)، وإما الانكفاء والقبول بخطوط التماس السياسية التي تشي بالفدرالية وربما أكثر. فالقرار الروسي يفسح في المجال واسعاً أمام احتمال إقامة دولة كردية بموافقة أميركية. قد يكون هذا الأمر من بين أسباب الانسحاب الروسي.

لا شك أن بوتين فاجأ الجميع بقراره الذي يريد من خلاله تسهيل المفاوضات وكسب الخصوم، لكن لا شك أيضاً أن قراره يعيد فتح الملف السوري على الاحتمالات كافة. يبدو أنه في الوقت الراهن يعطي الأولوية للاتفاق مع أوباما حتى ولو غضب الحلفاء. لاحقاً قد يغير رأيه، خصوصاً إذا ما شعر بأن كل ما قام به لم يغير رأي خصومه وخصوم حلفائه. حين يصبح الحسم العسكري مبرراً حتى ولو أنه صار مستبعداً الآن.

  • فريق ماسة
  • 2016-03-14
  • 14367
  • من الأرشيف

أية خلفيات تقف وراء سحب القوات الروسية من سورية؟

حين قررت موسكو الانخراط عسكرياً على نحو مباشر في سوريا، كان القرار ثمرة قمة بين فلاديمير بوتين وباراك أوباما. الشيء الوحيد الذي فاجأ الرئيس الأميركي آنذاك، كان توقيت إرسال الطائرات الروسية والذي أبقاه نظيره الروسي سراً. الآن يأتي القرار الروسي بسحب القوات من سوريا ابتداءً من اليوم، نتيجة اتفاق بين موسكو وواشنطن أولاً ثم تم إبلاغ الآخرين به وفق معلومات دقيقة وموثوقة. ماذا في خلفيات القرار؟ & يأتي القرار في السياق الطبيعي لاتفاق بوتين وأوباما على رفع مستوى ضغط كل طرف على حلفائه لإنجاح مفاوضات جنيف. الرئيس الأميركي بحاجة لتحقيق إنجاز سياسي في سوريا قبل مغادرة البيت الأبيض، والرئيس الروسي يريد تخفيف الأعباء العسكرية ورفع العقوبات الأوروبية عنه والإفادة الى أقصى حد من فترة السماح الأميركي. كان هجوم أوباما عبر مقابلته مع «اتلانتيك» على السعودية وتركيا في هذا السياق. «جاء موقف بوتين الآن كثمن مقابل وكموقف مكمّل لموقف أوباما»، وفق مصدر في الأمم المتحدة. & سحب بوتين بقراره هذا ورقة كان معارضوه الغربيون والخليجيون وفي المعارضة السورية يشددون عليها. كانوا يقولون إن دخول قواته هو الذي عرقل الحل وغيّر المعادلات. هو إذاً يريد تسهيل الحل السياسي وإحراج الخصوم. & سحب أيضاً ورقة من أيدي حلفائه السوريين والإيرانيين. فهو يرى أن تشددهم في التفاوض ناجم عن تغيير المعادلة العسكرية. يبدو أن التقييم العسكري الروسي مختلف عن تقييم طهران. الأولى، ترى ضرورة استكمال الحسم، والثانية، تفضل الحصول على ثمار بالسياسة والمصالحات. هذا بالضبط ما دفع روسيا الى مفاجأة الحلفاء قبل الخصوم بالاتفاق مع الاميركيين على وقف العداوات. لكن المصادر الأممية ترى ان ما قام به بوتين قد يساعد لاحقاً في تقريب المواقف بين إيران والسعودية. & يدرك بوتين أن رغبته بتسهيل الحل السياسي ستجذب إلى موسكو دول الخليج والمعارضة السورية وتسمح لأوباما بالاستمرار في تسليم مفاتيح الحل له. لكنه لا يريد خسارة الثقل الأكبر لموقعه في المنطقة عبر تحالفه مع الرئيس بشار الأسد وإيران. حصل أكثر من اتصال مع الأسد والقيادة السورية، وجرى الاتفاق على إصدار بيانين، أولهما من الكرملين وبعده مباشرة يصدر بيان عن الرئاسة السورية. لم تستسغ القيادتان الروسية والأميركية موقفي دمشق والمعارضة حيال مصير الأسد. روسيا تقول إن هذا الأمر متروك للشعب السوري وهي بالتالي ربما انزعجت من كلام الوزير وليد المعلم من أنه «لا يحق لدي ميستورا ولا لغيره الكلام عن انتخابات رئاسية لأن الأسد خط أحمر»(من هو هذا «الغير» المقصود). ويبدو أن واشنطن وجهت لوماً عنيفاً للمعارضة حين قال كبير مفاوضيها محمد علوش «إن المرحلة الانتقالية تبدأ برحيل الأسد أو بموته». ماذا بعد خطوة بوتين؟ + ليس صحيحاً ما ورد في البيان الروسي من أنه «تم تنفيذ أغلب مهمات وزارة الدفاع والقوات المسلحة» فالحرب لا تزال ضروساً والتهديد لا يزال كبيراً. بدا الأمر وكأنه «جزرة» من بوتين للمعارضة وداعميها، بأن القتال ضدها انتهى وأن ما بقي هو محاربة «داعش». هذا يعني رسم خطوط تماس سياسية بدلاً من خطوط التماس العسكرية. يرغب بوتين من خلال ذلك بفرض حضور المعارضة الأخرى والأكراد في مفاوضات جنيف لاحقاً، ولعله يقبل لاحقاً بمشاركة بعض المقربين من جبهة «النصرة». + ليس معروفاً حجم ما سيتم سحبه عسكرياً من قبل الروس. فالقاعدتان العسكريتان في طرطوس وحميميم باقيتان. والدفاع الجوي سيستمر في التحرك ضد «داعش». لكن هل سيندرج ذلك لاحقاً في إطار تحالف أوسع يضم روسيا وأميركا وأطرافاً إقليمية عدة بينها إيران والسعودية وتركيا وغيرها؟ هذا ممكن إذا ما حصل بوتين على ضمانات أميركية. + ماذا لو دخلت إسرائيل على الخط؟ هي الآن تشعر براحة أكبر. الدول العربية وضعت عدوها اللدود «حزب الله» على لائحة الإرهاب. علاقتها مع بوتين ممتازة. وهي قلقة من نقل أسلحة استراتيجية إلى الحزب. فهل تستغل القرار الروسي بالانسحاب من سوريا للمضي في قرار الحرب؟ هذا ممكن حتى لو أحرج أوباما. + هل إيران مرتاحة للقرار الروسي؟ الأكيد لا. فهي أولاً ستواجه ضغوطاً كبيرة للانسحاب من سوريا، وثانياً ستجد نفسها أمام احتمالين، إما الاستمرار في الحرب ما يعني وضعها مجدداً أمام مواجهة محتملة مع تركيا (برغم اتفاقهما مؤخراً) والسعودية (التي مهدت للأمر بمناورات حفر الباطن)، وإما الانكفاء والقبول بخطوط التماس السياسية التي تشي بالفدرالية وربما أكثر. فالقرار الروسي يفسح في المجال واسعاً أمام احتمال إقامة دولة كردية بموافقة أميركية. قد يكون هذا الأمر من بين أسباب الانسحاب الروسي. لا شك أن بوتين فاجأ الجميع بقراره الذي يريد من خلاله تسهيل المفاوضات وكسب الخصوم، لكن لا شك أيضاً أن قراره يعيد فتح الملف السوري على الاحتمالات كافة. يبدو أنه في الوقت الراهن يعطي الأولوية للاتفاق مع أوباما حتى ولو غضب الحلفاء. لاحقاً قد يغير رأيه، خصوصاً إذا ما شعر بأن كل ما قام به لم يغير رأي خصومه وخصوم حلفائه. حين يصبح الحسم العسكري مبرراً حتى ولو أنه صار مستبعداً الآن.

المصدر : سامي كليب/ السفير


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة