أعادت المساومات بين تركيا والاتحاد الأوروبّي بشأن ملفّ اللاجئين السوريّين إلى الذاكرة بداية ظهور هذه المشكلة.

 

يعرف القاصي والداني أنَّه بعد اندلاع الأزمة السوريّة في مثل هذه الأيام من العام 2011، لم يمرّ وقت طويل حتّى كانت تركيا تهيّئ البنية التحتيّة لإقامة معسكرات استيعاب للاجئين لم يكونوا قد غادروا بعد بيوتهم وأملاكهم، حتّى إلى الداخل السوري.

 

ودارت عجلة الدعاية التركيّة محرّضةً الجيش السوري على الانشقاق عن الدولة من جهة، ومن جهة ثانية على استعداد تركيا إيواء أيّ لاجئ يهرب من الحرب.

هكذا، كانت تركيا تستدرج فتح ملفّ اللاجئين لتوظيفه سياسيًّا ضدّ الرئيس السوري بشار الأسد. واندفعت جهود قوى متعدّدة معادية للنظام في سوريا، في حملة «إنسانيّة» دفاعاً عن اللاجئين وعن الطفولة.

ومن بين هذه المحاولات، زيارات قامت بها الممثلّة الأميركيّة أنجيلينا جولي إلى معسكرات اللاجئين في إقليم الإسكندرون، وظهور وزير الخارجية حينها أحمد داود أوغلو هناك وهو يحمل أطفالاً لاجئين.

كانت حسابات تركيا عن اللاجئين أنَّ أعدادهم ستكون محدودة.

وحدَّد داود أوغلو بخمسين ألفاً عدد اللاجئين الذين يمكن استيعابهم في بلاده، ثمّ رفع الرقم الى مئة ألف.

وهذه الحسابات «المتواضعة»، كانت مرتبطة بحسابات مشابهة خاطئة، وهي أنَّ الأسد سينتهي خلال ثلاثة أسابيع أو ثلاثة أشهر، وفي أسوأ التقديرات خلال ستة أشهر.

اليوم، ومع دخول الحرب سنتها السادسة، وصل عدد اللاجئين السوريين في تركيا إلى ثلاثة ملايين، من بينهم 250 ألفاً فقط في المعسكرات، فيما لا يزال الأسد في السلطة وسط قبول، شبه كامل، بحتميّة أن يكون جزءاً من أيّ حلّ في سوريا، وأن يكون الشعب السوري، وليس أنقرة وحلفاؤها، هو الذي يقرّر مصيره، وفق تصريحات لا لبس فيها، آخرها للمبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا.

منذ البداية، كانت رغبة تركيا العارمة في استخدام كلّ الأوراق للإطاحة بالأسد، تارةً من خلال انقلاب عسكري يقوده الجيش السوري نفسه، وتارة أخرى بعمليّة عسكريّة غربيّة ـ عربيّة تشارك فيها أنقرة بعد قضيّة الأسلحة الكيميائيّة.

ومن أبرز مطالب أنقرة منذ بدء الأزمة السوريّة، كان إقامة منطقة عازلة في شمال سوريا وعلى امتداد الحدود مع تركيا، لتكون قاعدة لنفوذ تركي يمكن الانطلاق منه لإسقاط النظام.

فكرة المنطقة العازلة، لم تبارح عقل أردوغان ولا داود أوغلو. لكن كما كانت حسابات اللاجئين وإسقاط الأسد خاطئة، فإنَّ فكرة المنطقة العازلة تقلّصت من 900 كيلومتر هي طول الحدود التركية مع سوريا، إلى 90 كيلومتراً هي المنطقة من جرابلس إلى أعزاز.

مع ذلك استمرَّت فكرة المنطقة العازلة حيّة في بال أردوغان - داود أوغلو.

واحدة من أهمّ النقاط التي يريد الأتراك من الاتحاد الأوروبّي الموافقة عليها، هي إقامة مناطق آمنة وإنسانيّة في الداخل السوري، يمكن تجميع اللاجئين فيها. الأوروبيّون يعرفون جيداً استحالة ذلك. فالأمر لا يتعلّق بهم فقط، بل أيضاً بالولايات المتحدة. لكن قبل هؤلاء جميعاً، فالمسألة مرتبطة بموافقة محور روسيا ـ ايران ـ سوريا. وبعد التدخّل العسكري الروسي، وخصوصاً بعد إسقاط تركيا للمقاتلة الروسيّة، لم تعد الفكرة ممكنة التطبيق نهائيًّا من دون موافقة موسكو، وهي لن توافق بل تنتظر الأتراك «على الكوع».

مثال على هذه الاستحالة، إعلان أنقرة قبل أيّام أنَّ تنظيم «داعش» أطلق ثمانية صواريخ على منطقة كيليس في تركيا، أسفرت عن مقتل شخصين.

وذكرت الأنباء أنَّ تركيا ردَّت بقصف مدفعي على مواقع «داعش».

وهنا تساءل المراقبون لماذا لم تردّ تركيا بقصف جوي على مواقع التنظيم. والجواب أنَّ المجال الجوّي السوري أصبح محرَّماً على الطائرات التركيّة.

وهنا نفتح قوسين ونذكّر بالتسجيل الصوتي الذي كان قد تسرَّب قبل عامين من وزارة الخارجيّة التركيّة لاجتماع سرّي شارك فيه وزير الخارجية داود أوغلو ورئيس الاستخبارات حاقان فيدان، ويذكر خلاله فيدان أنَّ اختلاق تبرير تدخل عسكري تركي في سوريا، سيكون سهلاً، وهو في دخول عملاء لتركيا إلى داخل سوريا ومن هناك يطلقون ثمانية صواريخ على تركيا.

التسجيل لم ينفه الأتراك والمفارقة أنَّ عدد الصواريخ التي قيل إنَّ «داعش» أطلقها مؤخراً، هو نفسه عدد الصواريخ التي وردت في ذلك الاجتماع السرّي!

لكن اليوم غير الأمس، ولم يبقَ لتركيا من أوراق تحاول أن تفاوض عليها لتحقيق إنجاز ما سوى أن تبتزّ الأوروبيّين لإقامة منطقة عازلة في سوريا.

وفي حال فشل ذلك، ستطلق فكرة جديدة وهي إنشاء مدينة داخل سوريا يتجمّع فيها اللاجئون، وتقوم تركيا ببنائها وتأمين مستلزماتها كافة. بل إنَّ أردوغان يقول إنَّه تباحث في الأمر مع الرئيس الأميركي باراك اوباما الذي لم يرفض الفكرة بعد، واتّفقا على استكمال النقاش.

بهذه الفكرة، تمعن تركيا في استباحة السيادة السوريّة والتعامل مع الأراضي السوريّة كما لو أنَّها مستملكة تركيّة، فتطرح أفكاراً خاصّة بالداخل السوري من دون احترام سيادة سوريا ولا التباحث بشأنها مع أصحاب الشأن، أي الدولة السوريّة نفسها أولاً وحلفاء سوريا ثانياً. تنشئ «الجيش السوري الحرّ» و «مجلس اسطنبول» للمعارضة، وتعلن الأسد رئيساً غير شرعي، ولم يتبقّ عليها سوى أن تعلن تغيير العاصمة السورية من دمشق إلى غازي عينتاب!

إقامة منطقة عازلة في سوريا، تكون الورقة الأخيرة لنفوذ تركيا بعدما تلاشت أوراقها الأخرى، وهي التي كانت وراء اختلاق مشكلة اللاجئين مع أوروبا.

اللاجئون السوريون موجودون في تركيا منذ العام 2011، ومرَّت خمس سنوات على وجودهم. وفجأة في مطلع الخريف الماضي، تطلق تركيا قوارب الموت التي تحمل اللاجئين السوريين عبر بحر إيجه إلى اليونان ومنها إلى البلقان وسائر أوروبا. قوارب تعرف الحكومة التركيّة مَن يطلقها ومَن يموّلها. وليس من سبب إنساني لاختلاق هذه المشكلة، واللاجئون في تركيا منذ وقت طويل.

مباحثات بروكسل التي جمعت رئيس حكومة تركيا مع زعماء الاتحاد الأوروبي، تكشف هذه الحقيقة التي لا تمتّ بصلة إلى أيّ بعد إنسانيّ.

نجح أردوغان في نهاية تشرين الأول الماضي، في أن يأتي بالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل إلى اسطنبول، فتعلن الأخيرة عن تقديم مساعدات بثلاثة مليارات يورو إلى أنقرة لوقف مشكلة تدفّق اللاجئين إلى أوروبا. كان افتعال المشكلة ضرورة لحزب «العدالة والتنمية» عشية الانتخابات النيابية التي حصلت في الأول من تشرين الثاني الماضي، من أجل وقف الحملة الأوروبيّة على أردوغان بشأن قمع الأكراد والحريات، وإظهار أنَّ تركيا ليست معزولة.

وبعدما تكرّرت موجات الهجرة القاتلة مع اقتراب رأس السنة، كانت الحكومة التركيّة تكرّر مطلب إقامة منطقة عازلة في سوريا لحلّ المشكلة. لكن هنا كانت قد طرأت تطوّرات جديدة زادت من محاولة تركيا استغلال ملفّ اللاجئين في العلاقة مع أوروبا، وفي مقدمة هذه التطوّرات إسقاط تركيا للطائرة الروسية، وما أعقبها من عقوبات روسيّة اقتصاديّة موجعة أثّرت على الاقتصاد التركي، وزادت من عزلة تركيا الإقليميّة والدوليّة.

سعت تركيا للخروج من مأزقها الذي وجدت نفسها فيه. فكان إطلاق الموجة الثانية من اللاجئين إلى أوروبا. وهبّت أوروبا مذعورة من هذه اللعبة التركيّة الابتزازيّة. وكانت بالتالي قمّة بروكسل في مطلع الأسبوع الحالي.

المطالب التركيّة التي قدّمها داود أوغلو، كانت تتوزّع بين ما يخصّ ملفّ اللاجئين، لكن بعضها الآخر لا علاقة له البتّة بهذا الملف، بل يحاول أن يحقّق مكاسب تعوّم الحكومة التركيّة اقتصاديًّا وشعبيًّا ومعنويًّا، وتغطّي على القمع المتمادي للحرّيّات، ولا سيما مؤخراً ضدّ صحيفة «زمان» وجماعة فتح الله غولين.

 

طرحت تركيا المطالب التالية:

1ـ دفع أوروبا ثلاثة مليارات دولار إضافيّة حتى العام 2018 لتلبية حاجات اللاجئين في سوريا.

2ـ إعادة اللاجئين من اليونان إلى تركيا مقابل أن ترسل تركيا إلى أوروبا لاجئاً واحداً من الموجودين في المعسكرات التركية مقابل كل لاجئ تعيده من اليونان.

3ـ إقامة ممرّات أو مناطق إنسانيّة في سوريا لحصر اللاجئين فيها.

4ـ استئناف مفاوضات العضويّة مع الاتّحاد الأوروبيّ.

5ـ إلغاء تأشيرة الدخول على المواطنين الأتراك لدخول منطقة شينغن.

من الواضح أنَّ تركيا تسعى إلى أهداف تتعدّى مشكلة اللاجئين.

تسعى أولاً للحصول على المال لتعويض خسائرها الاقتصاديّة في الفترة الأخيرة بعد العقوبات الروسيّة.

وتسعى لتحريك هدفها المزمن في سوريا لإنشاء مناطق عازلة. ومن ثمّ تحقيق أهداف سياسيّة مثل الدخول الحرّ للمواطنين الأتراك إلى أوروبا كما إلى استئناف مفاوضات العضويّة.

قمة بروكسل لم تحسم هذه العناوين. حتى المسألة الأسهل، أي دفع ثلاثة مليارات يورو لتركيا، ليست محسومة. لذا، فإنَّ المفاوضات تأجّلت إلى الخميس المقبل علّها تسفر عن نتيجة.

كلّ مطلب من المطالب التركيّة ووجِه بمعارضةٍ من بعض الدول. رئيس وزراء إيطاليا ماتيو رينزي ربط أيّ اتّفاق بضمانات لحماية الحريّات في تركيا. رئيس البرلمان الأوروبي مارتن شولتز فعل الشيء نفسه. فرنسا والنمسا تعارضان إلغاء تأشيرة الدخول للأتراك. سلوفينيا وسلوفاكيا وبولونيا وقبرص ترفض فكرة إرسال لاجئ إلى أوروبا مقابل كل لاجئ يُعاد إلى تركيا. تمويل الثلاثة مليارات دولار يواجَهُ بتحفّظات من انكلترا وهولندا وإيطاليا وفرنسا. أمَّا فتح باب المفاوضات من جديد، فتعارضه كل من فرنسا وقبرص. وجاء التعليق الأبرز من رئيس وزراء المجر فكتور أوربان الذي قال إنَّه إذا وافق على دخول لاجئين إلى المجر، فسيشنقه مواطنوه في ساحة بودابست عند عودته.

يشكّل اللاجئون ورقة بيد تركيا تجاه الأوروبّيين. لكن المساومات الجارية تكشف الاستخدام السياسي لأنقرة لهذه الورقة وهو استخدام من الصعب حصد نتائجه السياسية، لأنّ الأبعاد السياسيّة لا تتعلّق فقط بالاتّحاد الأوروبيّ، بل بدول وقوى أخرى. كذلك لا يتعلّق الأمر بالقضايا الأوروبيّة الخالصة بتأييد قادة الاتحاد الذين يدركون أنَّ أيّ تفريط بمعايير الاتحاد أو بالتوازنات الداخلية والحساسيّات الثقافيّة والحسابات الاقتصادية، ستجد لها رأياً عاماً يحاسب قادته في أول انتخابات نيابيّة.

وبعيداً عن كل هذه المساومات البعيدة عن النزعات الانسانيّة، فإنَّ الجميع ـ من تركيا إلى الاتحاد الأوروبي ـ يدرك أنَّ مسألة اللاجئين لا علاقة لها بدخول حرّ للأتراك إلى أوروبا أو استئناف مفاوضات العضوية أو غير ذلك. بل إنَّ الشرط الأول لحلّ هذه المشكلة، هو إيجاد حلّ سياسي للأزمة السورية، والشرط الأول للحلّ السياسي هو أن توقف هذه الدول التورط في الشأن السوري وأن توقف دعم الإرهاب هناك بكل أشكاله.

 

  • فريق ماسة
  • 2016-03-13
  • 12657
  • من الأرشيف

«ورقة» اللاجئين التركية: استغلال سياسي لقضية إنسانيّة

أعادت المساومات بين تركيا والاتحاد الأوروبّي بشأن ملفّ اللاجئين السوريّين إلى الذاكرة بداية ظهور هذه المشكلة.   يعرف القاصي والداني أنَّه بعد اندلاع الأزمة السوريّة في مثل هذه الأيام من العام 2011، لم يمرّ وقت طويل حتّى كانت تركيا تهيّئ البنية التحتيّة لإقامة معسكرات استيعاب للاجئين لم يكونوا قد غادروا بعد بيوتهم وأملاكهم، حتّى إلى الداخل السوري.   ودارت عجلة الدعاية التركيّة محرّضةً الجيش السوري على الانشقاق عن الدولة من جهة، ومن جهة ثانية على استعداد تركيا إيواء أيّ لاجئ يهرب من الحرب. هكذا، كانت تركيا تستدرج فتح ملفّ اللاجئين لتوظيفه سياسيًّا ضدّ الرئيس السوري بشار الأسد. واندفعت جهود قوى متعدّدة معادية للنظام في سوريا، في حملة «إنسانيّة» دفاعاً عن اللاجئين وعن الطفولة. ومن بين هذه المحاولات، زيارات قامت بها الممثلّة الأميركيّة أنجيلينا جولي إلى معسكرات اللاجئين في إقليم الإسكندرون، وظهور وزير الخارجية حينها أحمد داود أوغلو هناك وهو يحمل أطفالاً لاجئين. كانت حسابات تركيا عن اللاجئين أنَّ أعدادهم ستكون محدودة. وحدَّد داود أوغلو بخمسين ألفاً عدد اللاجئين الذين يمكن استيعابهم في بلاده، ثمّ رفع الرقم الى مئة ألف. وهذه الحسابات «المتواضعة»، كانت مرتبطة بحسابات مشابهة خاطئة، وهي أنَّ الأسد سينتهي خلال ثلاثة أسابيع أو ثلاثة أشهر، وفي أسوأ التقديرات خلال ستة أشهر. اليوم، ومع دخول الحرب سنتها السادسة، وصل عدد اللاجئين السوريين في تركيا إلى ثلاثة ملايين، من بينهم 250 ألفاً فقط في المعسكرات، فيما لا يزال الأسد في السلطة وسط قبول، شبه كامل، بحتميّة أن يكون جزءاً من أيّ حلّ في سوريا، وأن يكون الشعب السوري، وليس أنقرة وحلفاؤها، هو الذي يقرّر مصيره، وفق تصريحات لا لبس فيها، آخرها للمبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا. منذ البداية، كانت رغبة تركيا العارمة في استخدام كلّ الأوراق للإطاحة بالأسد، تارةً من خلال انقلاب عسكري يقوده الجيش السوري نفسه، وتارة أخرى بعمليّة عسكريّة غربيّة ـ عربيّة تشارك فيها أنقرة بعد قضيّة الأسلحة الكيميائيّة. ومن أبرز مطالب أنقرة منذ بدء الأزمة السوريّة، كان إقامة منطقة عازلة في شمال سوريا وعلى امتداد الحدود مع تركيا، لتكون قاعدة لنفوذ تركي يمكن الانطلاق منه لإسقاط النظام. فكرة المنطقة العازلة، لم تبارح عقل أردوغان ولا داود أوغلو. لكن كما كانت حسابات اللاجئين وإسقاط الأسد خاطئة، فإنَّ فكرة المنطقة العازلة تقلّصت من 900 كيلومتر هي طول الحدود التركية مع سوريا، إلى 90 كيلومتراً هي المنطقة من جرابلس إلى أعزاز. مع ذلك استمرَّت فكرة المنطقة العازلة حيّة في بال أردوغان - داود أوغلو. واحدة من أهمّ النقاط التي يريد الأتراك من الاتحاد الأوروبّي الموافقة عليها، هي إقامة مناطق آمنة وإنسانيّة في الداخل السوري، يمكن تجميع اللاجئين فيها. الأوروبيّون يعرفون جيداً استحالة ذلك. فالأمر لا يتعلّق بهم فقط، بل أيضاً بالولايات المتحدة. لكن قبل هؤلاء جميعاً، فالمسألة مرتبطة بموافقة محور روسيا ـ ايران ـ سوريا. وبعد التدخّل العسكري الروسي، وخصوصاً بعد إسقاط تركيا للمقاتلة الروسيّة، لم تعد الفكرة ممكنة التطبيق نهائيًّا من دون موافقة موسكو، وهي لن توافق بل تنتظر الأتراك «على الكوع». مثال على هذه الاستحالة، إعلان أنقرة قبل أيّام أنَّ تنظيم «داعش» أطلق ثمانية صواريخ على منطقة كيليس في تركيا، أسفرت عن مقتل شخصين. وذكرت الأنباء أنَّ تركيا ردَّت بقصف مدفعي على مواقع «داعش». وهنا تساءل المراقبون لماذا لم تردّ تركيا بقصف جوي على مواقع التنظيم. والجواب أنَّ المجال الجوّي السوري أصبح محرَّماً على الطائرات التركيّة. وهنا نفتح قوسين ونذكّر بالتسجيل الصوتي الذي كان قد تسرَّب قبل عامين من وزارة الخارجيّة التركيّة لاجتماع سرّي شارك فيه وزير الخارجية داود أوغلو ورئيس الاستخبارات حاقان فيدان، ويذكر خلاله فيدان أنَّ اختلاق تبرير تدخل عسكري تركي في سوريا، سيكون سهلاً، وهو في دخول عملاء لتركيا إلى داخل سوريا ومن هناك يطلقون ثمانية صواريخ على تركيا. التسجيل لم ينفه الأتراك والمفارقة أنَّ عدد الصواريخ التي قيل إنَّ «داعش» أطلقها مؤخراً، هو نفسه عدد الصواريخ التي وردت في ذلك الاجتماع السرّي! لكن اليوم غير الأمس، ولم يبقَ لتركيا من أوراق تحاول أن تفاوض عليها لتحقيق إنجاز ما سوى أن تبتزّ الأوروبيّين لإقامة منطقة عازلة في سوريا. وفي حال فشل ذلك، ستطلق فكرة جديدة وهي إنشاء مدينة داخل سوريا يتجمّع فيها اللاجئون، وتقوم تركيا ببنائها وتأمين مستلزماتها كافة. بل إنَّ أردوغان يقول إنَّه تباحث في الأمر مع الرئيس الأميركي باراك اوباما الذي لم يرفض الفكرة بعد، واتّفقا على استكمال النقاش. بهذه الفكرة، تمعن تركيا في استباحة السيادة السوريّة والتعامل مع الأراضي السوريّة كما لو أنَّها مستملكة تركيّة، فتطرح أفكاراً خاصّة بالداخل السوري من دون احترام سيادة سوريا ولا التباحث بشأنها مع أصحاب الشأن، أي الدولة السوريّة نفسها أولاً وحلفاء سوريا ثانياً. تنشئ «الجيش السوري الحرّ» و «مجلس اسطنبول» للمعارضة، وتعلن الأسد رئيساً غير شرعي، ولم يتبقّ عليها سوى أن تعلن تغيير العاصمة السورية من دمشق إلى غازي عينتاب! إقامة منطقة عازلة في سوريا، تكون الورقة الأخيرة لنفوذ تركيا بعدما تلاشت أوراقها الأخرى، وهي التي كانت وراء اختلاق مشكلة اللاجئين مع أوروبا. اللاجئون السوريون موجودون في تركيا منذ العام 2011، ومرَّت خمس سنوات على وجودهم. وفجأة في مطلع الخريف الماضي، تطلق تركيا قوارب الموت التي تحمل اللاجئين السوريين عبر بحر إيجه إلى اليونان ومنها إلى البلقان وسائر أوروبا. قوارب تعرف الحكومة التركيّة مَن يطلقها ومَن يموّلها. وليس من سبب إنساني لاختلاق هذه المشكلة، واللاجئون في تركيا منذ وقت طويل. مباحثات بروكسل التي جمعت رئيس حكومة تركيا مع زعماء الاتحاد الأوروبي، تكشف هذه الحقيقة التي لا تمتّ بصلة إلى أيّ بعد إنسانيّ. نجح أردوغان في نهاية تشرين الأول الماضي، في أن يأتي بالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل إلى اسطنبول، فتعلن الأخيرة عن تقديم مساعدات بثلاثة مليارات يورو إلى أنقرة لوقف مشكلة تدفّق اللاجئين إلى أوروبا. كان افتعال المشكلة ضرورة لحزب «العدالة والتنمية» عشية الانتخابات النيابية التي حصلت في الأول من تشرين الثاني الماضي، من أجل وقف الحملة الأوروبيّة على أردوغان بشأن قمع الأكراد والحريات، وإظهار أنَّ تركيا ليست معزولة. وبعدما تكرّرت موجات الهجرة القاتلة مع اقتراب رأس السنة، كانت الحكومة التركيّة تكرّر مطلب إقامة منطقة عازلة في سوريا لحلّ المشكلة. لكن هنا كانت قد طرأت تطوّرات جديدة زادت من محاولة تركيا استغلال ملفّ اللاجئين في العلاقة مع أوروبا، وفي مقدمة هذه التطوّرات إسقاط تركيا للطائرة الروسية، وما أعقبها من عقوبات روسيّة اقتصاديّة موجعة أثّرت على الاقتصاد التركي، وزادت من عزلة تركيا الإقليميّة والدوليّة. سعت تركيا للخروج من مأزقها الذي وجدت نفسها فيه. فكان إطلاق الموجة الثانية من اللاجئين إلى أوروبا. وهبّت أوروبا مذعورة من هذه اللعبة التركيّة الابتزازيّة. وكانت بالتالي قمّة بروكسل في مطلع الأسبوع الحالي. المطالب التركيّة التي قدّمها داود أوغلو، كانت تتوزّع بين ما يخصّ ملفّ اللاجئين، لكن بعضها الآخر لا علاقة له البتّة بهذا الملف، بل يحاول أن يحقّق مكاسب تعوّم الحكومة التركيّة اقتصاديًّا وشعبيًّا ومعنويًّا، وتغطّي على القمع المتمادي للحرّيّات، ولا سيما مؤخراً ضدّ صحيفة «زمان» وجماعة فتح الله غولين.   طرحت تركيا المطالب التالية: 1ـ دفع أوروبا ثلاثة مليارات دولار إضافيّة حتى العام 2018 لتلبية حاجات اللاجئين في سوريا. 2ـ إعادة اللاجئين من اليونان إلى تركيا مقابل أن ترسل تركيا إلى أوروبا لاجئاً واحداً من الموجودين في المعسكرات التركية مقابل كل لاجئ تعيده من اليونان. 3ـ إقامة ممرّات أو مناطق إنسانيّة في سوريا لحصر اللاجئين فيها. 4ـ استئناف مفاوضات العضويّة مع الاتّحاد الأوروبيّ. 5ـ إلغاء تأشيرة الدخول على المواطنين الأتراك لدخول منطقة شينغن. من الواضح أنَّ تركيا تسعى إلى أهداف تتعدّى مشكلة اللاجئين. تسعى أولاً للحصول على المال لتعويض خسائرها الاقتصاديّة في الفترة الأخيرة بعد العقوبات الروسيّة. وتسعى لتحريك هدفها المزمن في سوريا لإنشاء مناطق عازلة. ومن ثمّ تحقيق أهداف سياسيّة مثل الدخول الحرّ للمواطنين الأتراك إلى أوروبا كما إلى استئناف مفاوضات العضويّة. قمة بروكسل لم تحسم هذه العناوين. حتى المسألة الأسهل، أي دفع ثلاثة مليارات يورو لتركيا، ليست محسومة. لذا، فإنَّ المفاوضات تأجّلت إلى الخميس المقبل علّها تسفر عن نتيجة. كلّ مطلب من المطالب التركيّة ووجِه بمعارضةٍ من بعض الدول. رئيس وزراء إيطاليا ماتيو رينزي ربط أيّ اتّفاق بضمانات لحماية الحريّات في تركيا. رئيس البرلمان الأوروبي مارتن شولتز فعل الشيء نفسه. فرنسا والنمسا تعارضان إلغاء تأشيرة الدخول للأتراك. سلوفينيا وسلوفاكيا وبولونيا وقبرص ترفض فكرة إرسال لاجئ إلى أوروبا مقابل كل لاجئ يُعاد إلى تركيا. تمويل الثلاثة مليارات دولار يواجَهُ بتحفّظات من انكلترا وهولندا وإيطاليا وفرنسا. أمَّا فتح باب المفاوضات من جديد، فتعارضه كل من فرنسا وقبرص. وجاء التعليق الأبرز من رئيس وزراء المجر فكتور أوربان الذي قال إنَّه إذا وافق على دخول لاجئين إلى المجر، فسيشنقه مواطنوه في ساحة بودابست عند عودته. يشكّل اللاجئون ورقة بيد تركيا تجاه الأوروبّيين. لكن المساومات الجارية تكشف الاستخدام السياسي لأنقرة لهذه الورقة وهو استخدام من الصعب حصد نتائجه السياسية، لأنّ الأبعاد السياسيّة لا تتعلّق فقط بالاتّحاد الأوروبيّ، بل بدول وقوى أخرى. كذلك لا يتعلّق الأمر بالقضايا الأوروبيّة الخالصة بتأييد قادة الاتحاد الذين يدركون أنَّ أيّ تفريط بمعايير الاتحاد أو بالتوازنات الداخلية والحساسيّات الثقافيّة والحسابات الاقتصادية، ستجد لها رأياً عاماً يحاسب قادته في أول انتخابات نيابيّة. وبعيداً عن كل هذه المساومات البعيدة عن النزعات الانسانيّة، فإنَّ الجميع ـ من تركيا إلى الاتحاد الأوروبي ـ يدرك أنَّ مسألة اللاجئين لا علاقة لها بدخول حرّ للأتراك إلى أوروبا أو استئناف مفاوضات العضوية أو غير ذلك. بل إنَّ الشرط الأول لحلّ هذه المشكلة، هو إيجاد حلّ سياسي للأزمة السورية، والشرط الأول للحلّ السياسي هو أن توقف هذه الدول التورط في الشأن السوري وأن توقف دعم الإرهاب هناك بكل أشكاله.  

المصدر : محمد نور الدين / السفير


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة