تمر تركيا في مرحلة لا تسر صديقاً. ومع التراجع الميداني للمعارضة في شمال حلب كان استكمال الانهيار السريع للسياسة الخارجية التركية في سوريا بكل عناوينها، وهي التي يعتبرها الرئيس رجب طيب أردوغان رأس وقلب مشروعه للهيمنة على المنطقة.

 

وليس أبلغ مثال على هذا المأزق الذي توجد فيه تركيا من استدعاء السفير الأميركي في أنقرة احتجاجاً، في مرحلة ليس من قشة تتعلق بها تركيا سوى العطف الأميركي الذي لن يحضر في هذه المرحلة.

 

خسرت تركيا كل أوراقها في سوريا، ولم يتبق لها سوى ورقة التدخل العسكري المنفرد، أو بالتعاون مع قوى صديقة هي بدورها عاجزة عن مد يد المساعدة لنفسها فكيف لغيرها.

تركيا هي الشريك الاستراتيجي لأميركا في حلف شمال الأطلسي. الغرب بحاجة لأنقرة في خضم استمرار التنافس والصراع بين الولايات المتحدة ومنافسيها، خصوصاً روسيا، في العالم ومنه الشرق الأوسط. ولا يمكن نزع الصفة الأطلسية عن تركيا، لأن «الأطلسي» هو الملاذ الأخير لها لمواجهة التحديات. لكن هذه الشراكة لا يمكن وصفها بالندّية. هناك شريك أكبر هو الولايات المتحدة، وشريك أصغر هو تركيا. والشراكة تكون عادة في القضايا الإستراتيجية، ولا تنزل لمناقشة مشكلة السير في اسطنبول، أو مواصفات افتتاح مطعم أو طريقة حفظ الكباب أو شيّها.

المشكلة الرئيسية في العلاقات التركية ـ الأميركية هي تباين الأولويات بين الطرفين. مع «حزب العدالة والتنمية» خرجت تركيا إلى العالم بمشروع عثماني لم يخفه حتى أصحابه، الذين لا يزالون يكابرون ويعتبرون سوريا شأناً داخلياً تركياً لتبرير تدخلهم في شؤونها. لكن الغرب لم يفوّت مناسبة إلا تهكم فيها على المشروع المتجدد للسلطان الجديد. لقد استفاد الغرب كثيرا من هذه النزعة العثمانية المذهبية ـ العرقية لتأجيج الصراع في لحظة معينة. لكن الزاوية التي ينظر منها الشريك الغربي لا تتطابق مع زاوية النظر التركية في الكثير من العناوين، وفي رأسها اليوم مسألة تكوين السلطة الجديدة في سوريا وموقع الرئيس السوري بشار الأسد فيها، ودور قوات الحماية الكردية السورية في الشمال السوري إضافة إلى طريقة التعامل مع «داعش».

كلما ارتفع الصراخ التركي بوجه الولايات المتحدة كلما كان دليلا على المأزق الذي تواجهه أنقرة في التعامل مع التطورات، وعلى الفشل في تحقيق الأهداف المعلنة والمضمرة.

وفي الأيام الأخيرة بلغ الصراخ مرحلة يكاد يسمع في أبعد نقطة في الكرة الأرضية. ومع أن العنوان الظاهري هو الموقف من قوات الحماية الكردية، لا سيما «حزب الاتحاد الديموقراطي» الكردي بزعامة صالح مسلم، غير أن أنقرة تريد التصويب الفعلي على دمشق وموسكو وطهران من البوابة الكردية.

وفي استعراض ذي دلالة للتباين التركي - الأميركي نسجل المواقف المتبادلة التالية:

1 ـ زيارة منسق الرئيس باراك أوباما لمكافحة إرهاب «داعش» بريت ماكغورك الى عين العرب (كوباني) واجتماعه مع المسؤول في «حزب الاتحاد الديموقراطي» الكردي ألدار خليل في نهاية الشهر الماضي.

2 ـ لقاء مساعد وزير الخارجية الأميركي انطوني بلينكن برئيس الحزب صالح مسلم في جنيف في التاريخ نفسه.

3 ـ تصريح المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية جون كيربي أن «حزب الاتحاد الديموقراطي» ليس إرهابياً.

4 ـ تصريحات أردوغان في طريق عودته من الأكوادور إلى تركيا بأن على واشنطن أن تختار بين أن تكون شريكة لتركيا أو «لإرهابيي كوباني» من الأكراد.

5 ـ تكرار أردوغان نفسه، يوم الأربعاء الماضي، وقوله إن الولايات المتحدة لا تعرف ماهية «حزب العمال الكردستاني ولا «حزب الاتحاد الديموقراطي»، وأن مثل هذا الجهل هو الذي يغرق الشرق الأوسط في بركة من الدماء. وقوله إن نظرية أميركا «عدو عدوي صديقي» هو أمر لا يليق بحليف. في إشارة إلى اعتبار أميركا «حزب الاتحاد الديموقراطي» صديقاً، كونه عدواً لـ «داعش»، وتشبيه أردوغان لهذه العلاقة بين واشنطن والأكراد بحكاية الضفدع والعقرب الذي لدغ الضفدعة وهي تعبر به النهر، رغم وعوده لها بألا يفعل ذلك، مبرراً بأن هذا من طبيعته ولا يستطيع التخلي عن هذه الطبيعة.

علما انه انطلاقاً من هذا المثال، وبمعزل عن نتائجه، فإن سلطة «حزب العدالة والتنمية» هي التي لم تستطع مغادرة طبيعتها، حين لا تجد سوى في (إسرائيل)، عدو إيران وسوريا، صديقاً لها وقت الضيق. وهو ما تؤكده المباحثات المتجددة أمس الأول في جنيف لتطبيع العلاقات بين مسؤولي الدولتين.

6 ـ استدعاء أنقرة السفير الأميركي فيها جون باس وإبلاغه احتجاجا على اعتبار أميركا «حزب الاتحاد الديموقراطي» تنظيماً غير إرهابي.

7 ـ تكرار مساعد المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية مارك تونر مباشرة بعد استدعاء باس على أن الحزب الكردي ليس إرهابياً، وأن هناك فارقا كبيرا بينه وبين «حزب العمال الكردستاني».

في لحظة ذروة العجز التركي يصل الخلاف التركي ـ الأميركي إلى ذروته، وهو ما لا تريد أنقرة أن تراه، وتستمر في محاولة دفع الآخرين لكي يعيدوا النظر في طريقة تعاملهم مع الوقائع.

ربما يضع رئيس الحكومة أحمد داود اوغلو إصبعه على الجرح عندما يقول إنه كلما حدث اجتماع بين الأميركيين والروس كانت تتصاعد بعده وتيرة العمليات العسكرية للجيش السوري وروسيا في سوريا. كان يريد أن يقول إن الولايات المتحدة متواطئة في مسار العمليات العسكرية التي لا تخدم المصالح التركية.

لكن اعتبار أن واشنطن تتقصد ذلك ليس مطابقاً للواقع. فواشنطن تبقى في النهاية رأس الحربة في الصراع في سوريا والمنطقة لمواجهة خصومها. لكن أيضاً لها حساباتها وزاوية نظرها إلى التطورات وفقا لمصالحها العليا، التي قد لا تتطابق مع مصالح تركيا في بعض التفاصيل.

فدعوة تركيا أوباما إلى التدخل، ومنع تقدم الجيش السوري، ومنع تقدم قوات الحماية الكردية وإقامة منطقة آمنة وعازلة، وما إلى ذلك من عناوين، تصطدم بجملة من التبريرات الواهنة والعوامل الأميركية والوقائع الميدانية:

1 ـ إن «الاتحاد الديموقراطي» ليس حزباً تركيا حتى يحق لأنقرة أن تصنفه إرهابياً، وهو لم ينفذ عمليات عسكرية ضد المصالح التركية. وإذا كان من ارتباط إيديولوجي بينه وبين «العمال الكردستاني» فهذا لا يبرر تصنيفه إرهابياً تماماً كحال «حركة النهضة» في تونس أو جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر أو الجماعة الإسلامية في لبنان. فهل تصنيف «الإخوان» في مصر من قبل النظام هناك منظمة إرهابية يعني أن الجماعة الإسلامية في بيروت تنظيماً إرهابياً؟.

2 ـ إن وضع تركيا خطوطاً حمراً على تحرك قوات الحماية الكردية بعدم تجاوز نهر الفرات إلى غربه، يعتبر تدخلاً سافراً في شأن داخلي لدولة أخرى. تبرر تركيا ذلك بأنها لا تريد إقامة كيان كردي في سوريا. ونذكر هنا بالخطوط الحمر التي كانت ترفعها أنقرة بوجه أكراد العراق، فكانت النتيجة شبه دولة لهم هناك. فهل الخطر على الأمن القومي التركي لا يزال قائماً بعد تأسيس الفدرالية الكردية، أم أن إقليم كردستان تحول إلى شبه حليف لتركيا؟ وما الذي يعني تركيا إذا توافق السوريون على منح أكراد سوريا حقوقا ثقافية أو إدارة ذاتية، أو غير ذلك أو بالمقابل عدم إعطائهم هذا الوضع؟ أليس هذا شأناً داخلياً سورياً؟ ثم إذا كانت تركيا لا تريد أن تعطي أكرادها حقوقهم فكيف لها أن تفرض رغبتها على واقع داخلي في بلد آخر؟.

في المحصلة هي تبريرات واهنة وواهية، لا تهدف إلا إلى عدم موت المشروع العثماني في سوريا، والمنطق الذي تَكَسَّر بأيدي الجيش السوري وحلفائه وبأيدي الأكراد.

3 ـ إذا كان من مشكلة في العقل السياسي التركي الحاكم فهي رؤية الوقائع والحقائق والتعامي عنها في الوقت نفسه من اجل عدم الاعتراف بالهزيمة، وطي مرحلة وبدء صفحة جديدة من العلاقات مع الجيران. بالطبع لا يتوقع احد في حال انتهت الأزمة في سوريا أن تعود العلاقات بين تركيا وكل من سوريا وروسيا وإيران والعراق إلى سابق عهدها. هذا مستحيل، فهناك مسؤوليات تاريخية سيسأل عنها صانعو السياسة الخارجية في تركيا، الذين سيورثون الشعب التركي والأجيال اللاحقة جبلاً من الأحقاد الذي راكموه في علاقاتهم مع جيران تركيا. ومن لا يريد أن يصدق فليراجع مقالة أول وزير خارجية لسلطة «حزب العدالة والتنمية» ياشار ياقيش، هذا الأسبوع في صحيفة «زمان»، عن تركيا وتركمان سوريا، إذ يقول إن سياسة أنقرة الخاطئة في سوريا ستجعل النظام المقبل في سوريا، سواء بقي الأسد أو شاركت المعارضة في السلطة، ينظر إلى تركمان سوريا على أنهم عملاء لدولة خارجية، وهم، أي التركمان، سيدفعون الثمن غالياً بعد انتهاء الأزمة في سوريا.

لقد أرادت تركيا أن تصنف السوريين هذا عدو وهذا عميل، وهذا إرهابي وهذا نتيجة للاستبداد وما إلى ذلك، فلا يبقى، من زاوية أنقرة، سوى وجه السلطان الأفخم والصدر الأعظم مُطَهَّرَين من الرجس وَصُنْوَي الحق والعدالة!

4 ـ رغم شراكة عمرها من عمر حلف شمال الأطلسي لم يستطع، أو لم يرد، «حزب العدالة والتنمية» أن يفهم طريقة تعامل أميركا مع الأزمات. في الوضع الحالي، تحديداً في سوريا، كان واضحاً أن الولايات المتحدة لا تريد، ولا تستطيع الذهاب بعيداً في التماهي مع تركيا، ولا في التعارض مع روسيا، كما مع إيران خصوصاً بعد الاتفاق النووي.

عوامل متعددة تدفع إلى عدم ذهاب أميركا بعيداً وفقا للرغبات التركية في التدخل العسكري في سوريا:

& قرار أوباما في عدم التورط المباشر في الصراعات المسلحة بأحجام كبيرة، والاقتصار على استخدام وحدات خاصة أو مستشارين.

& عدم وجود شرعية دولية للتدخل العسكري ضد النظام السوري. ومع ان الولايات المتحدة لا تعير أهمية كبيرة للشرعية الدولية، كما حدث في غزو العراق، فإن أوباما لن يتحرك من دونها، خصوصاً انه ليس من أسباب إستراتيجية قاهرة. وفي ليبيا كان قد تحرك وفقا لقرار من مجلس الأمن الدولي بمعزل عن تفسيراته.

& والولايات المتحدة ليست بوارد الاصطدام بروسيا في سوريا.

& ومقابل افتقاد أي تدخل لشرعية دولية، فإن التدخل الروسي، كما الإيراني، يحظى بشرعية كاملة، إذ حصل بناء لطلب الحكومة السورية الشرعية المعترف بها في الأمم المتحدة.

& كما أن أوباما لا يريد خلط الأوراق في عام الانتخابات الرئاسية، ويريد أن ينهي رئاسته من دون مفاجآت سلبية.

إن أقصى ما يمكن أن تفعله الولايات المتحدة تجاوبا مع رغبات تركية أو خليجية هو تكثيف الدعم العسكري للمجموعات المعارضة بأشكال مختلفة. مع ذلك فإن السلاح النوعي الروسي، واستخدام أحدث أنواع الأسلحة، سيعطل قدرات أي سلاح جديد يمكن أن تستخدمه المعارضة.

وسط كل هذه العوامل والظروف غير المؤاتية لتركيا فإن أقصى ما تستطيع أن تفعله أنقرة هو أن تعترف بإفلاس سياستها المتبعة حتى الآن، وأن تستسلم لقدرها، وان تدفع ثمن مغامراتها وان تغلق حدودها أمام الإرهابيين والأسلحة، وتدرك أن اللعب والتلاعب بالشؤون الداخلية للدول الأخرى، سواء في سوريا والعراق أو في مصر، ليس بلا نهاية، وأن طابخ السم آكله، خصوصاً في ظل احتدام المواجهات غير المسبوقة في المناطق الكردية بين الجيش التركي و «حزب العمال الكردستاني» الذي يحقق، تبعا لدوران قلقان القيادي في الحزب، تفوقاً في المدن وخلال فصل الشتاء، يحصل للمرة الأولى منذ 43 عاماً وان هذه المعارك ستتوسع في الأسابيع والأشهر المقبلة، ما يضع سلطة «حزب العدالة والتنمية» بين فكَّي حلب وديار بكر من الكماشة.

 

تركيا وتركمان سوريا

يقول أول وزير خارجية في سلطة «حزب العدالة والتنمية»، والذي تحول الى معارض كبير لسياسات الحزب السورية، إن الانطباع الذي تتركه تركيا في طريقة تعاملها مع تركمان سوريا أنهم عملاء لدول أجنبية.

هذا أمر سيئ للغاية. إذ هؤلاء في النهاية مواطنون سوريون، وعندما كنت سفيرا في دمشق زرت قراهم قرية قرية، وكانوا يفتخرون بنسبهم التركماني، لكنهم كانوا يعرّفون أنفسهم أولاً على أنهم مواطنون سوريون تابعون للدولة السورية.

لكن حتى لو نشأ في سوريا نظام جديد، فإن الغالبية العربية هناك ستعفو عن المواطنين العرب. فليس من غالبية تعاقب أبناءها. لكن التركمان سيدفعون الثمن غالياً. وما لم تبذل تركيا جهوداً مكثفة لمحو هذا الانطباع عن علاقتها بالتركمان، فإن النتيجة ستكون كارثية عليهم، سواء بقوا في تركيا أو عادوا إلى ديارهم. الثابت أن أحداً لا ينكر أن الوضع الذي وصل إليه التركمان اليوم هو نتيجة للسياسات التي تتبعها تركيا، والتي لا يمكن أن نحمّلها للآخرين.

ياشار ياقيش ـ «زمان»

 

  • فريق ماسة
  • 2016-02-12
  • 13455
  • من الأرشيف

«خريف السلطان» من حلب إلى ديار بكر: تركيا بين فكَّي الكماشة!

تمر تركيا في مرحلة لا تسر صديقاً. ومع التراجع الميداني للمعارضة في شمال حلب كان استكمال الانهيار السريع للسياسة الخارجية التركية في سوريا بكل عناوينها، وهي التي يعتبرها الرئيس رجب طيب أردوغان رأس وقلب مشروعه للهيمنة على المنطقة.   وليس أبلغ مثال على هذا المأزق الذي توجد فيه تركيا من استدعاء السفير الأميركي في أنقرة احتجاجاً، في مرحلة ليس من قشة تتعلق بها تركيا سوى العطف الأميركي الذي لن يحضر في هذه المرحلة.   خسرت تركيا كل أوراقها في سوريا، ولم يتبق لها سوى ورقة التدخل العسكري المنفرد، أو بالتعاون مع قوى صديقة هي بدورها عاجزة عن مد يد المساعدة لنفسها فكيف لغيرها. تركيا هي الشريك الاستراتيجي لأميركا في حلف شمال الأطلسي. الغرب بحاجة لأنقرة في خضم استمرار التنافس والصراع بين الولايات المتحدة ومنافسيها، خصوصاً روسيا، في العالم ومنه الشرق الأوسط. ولا يمكن نزع الصفة الأطلسية عن تركيا، لأن «الأطلسي» هو الملاذ الأخير لها لمواجهة التحديات. لكن هذه الشراكة لا يمكن وصفها بالندّية. هناك شريك أكبر هو الولايات المتحدة، وشريك أصغر هو تركيا. والشراكة تكون عادة في القضايا الإستراتيجية، ولا تنزل لمناقشة مشكلة السير في اسطنبول، أو مواصفات افتتاح مطعم أو طريقة حفظ الكباب أو شيّها. المشكلة الرئيسية في العلاقات التركية ـ الأميركية هي تباين الأولويات بين الطرفين. مع «حزب العدالة والتنمية» خرجت تركيا إلى العالم بمشروع عثماني لم يخفه حتى أصحابه، الذين لا يزالون يكابرون ويعتبرون سوريا شأناً داخلياً تركياً لتبرير تدخلهم في شؤونها. لكن الغرب لم يفوّت مناسبة إلا تهكم فيها على المشروع المتجدد للسلطان الجديد. لقد استفاد الغرب كثيرا من هذه النزعة العثمانية المذهبية ـ العرقية لتأجيج الصراع في لحظة معينة. لكن الزاوية التي ينظر منها الشريك الغربي لا تتطابق مع زاوية النظر التركية في الكثير من العناوين، وفي رأسها اليوم مسألة تكوين السلطة الجديدة في سوريا وموقع الرئيس السوري بشار الأسد فيها، ودور قوات الحماية الكردية السورية في الشمال السوري إضافة إلى طريقة التعامل مع «داعش». كلما ارتفع الصراخ التركي بوجه الولايات المتحدة كلما كان دليلا على المأزق الذي تواجهه أنقرة في التعامل مع التطورات، وعلى الفشل في تحقيق الأهداف المعلنة والمضمرة. وفي الأيام الأخيرة بلغ الصراخ مرحلة يكاد يسمع في أبعد نقطة في الكرة الأرضية. ومع أن العنوان الظاهري هو الموقف من قوات الحماية الكردية، لا سيما «حزب الاتحاد الديموقراطي» الكردي بزعامة صالح مسلم، غير أن أنقرة تريد التصويب الفعلي على دمشق وموسكو وطهران من البوابة الكردية. وفي استعراض ذي دلالة للتباين التركي - الأميركي نسجل المواقف المتبادلة التالية: 1 ـ زيارة منسق الرئيس باراك أوباما لمكافحة إرهاب «داعش» بريت ماكغورك الى عين العرب (كوباني) واجتماعه مع المسؤول في «حزب الاتحاد الديموقراطي» الكردي ألدار خليل في نهاية الشهر الماضي. 2 ـ لقاء مساعد وزير الخارجية الأميركي انطوني بلينكن برئيس الحزب صالح مسلم في جنيف في التاريخ نفسه. 3 ـ تصريح المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية جون كيربي أن «حزب الاتحاد الديموقراطي» ليس إرهابياً. 4 ـ تصريحات أردوغان في طريق عودته من الأكوادور إلى تركيا بأن على واشنطن أن تختار بين أن تكون شريكة لتركيا أو «لإرهابيي كوباني» من الأكراد. 5 ـ تكرار أردوغان نفسه، يوم الأربعاء الماضي، وقوله إن الولايات المتحدة لا تعرف ماهية «حزب العمال الكردستاني ولا «حزب الاتحاد الديموقراطي»، وأن مثل هذا الجهل هو الذي يغرق الشرق الأوسط في بركة من الدماء. وقوله إن نظرية أميركا «عدو عدوي صديقي» هو أمر لا يليق بحليف. في إشارة إلى اعتبار أميركا «حزب الاتحاد الديموقراطي» صديقاً، كونه عدواً لـ «داعش»، وتشبيه أردوغان لهذه العلاقة بين واشنطن والأكراد بحكاية الضفدع والعقرب الذي لدغ الضفدعة وهي تعبر به النهر، رغم وعوده لها بألا يفعل ذلك، مبرراً بأن هذا من طبيعته ولا يستطيع التخلي عن هذه الطبيعة. علما انه انطلاقاً من هذا المثال، وبمعزل عن نتائجه، فإن سلطة «حزب العدالة والتنمية» هي التي لم تستطع مغادرة طبيعتها، حين لا تجد سوى في (إسرائيل)، عدو إيران وسوريا، صديقاً لها وقت الضيق. وهو ما تؤكده المباحثات المتجددة أمس الأول في جنيف لتطبيع العلاقات بين مسؤولي الدولتين. 6 ـ استدعاء أنقرة السفير الأميركي فيها جون باس وإبلاغه احتجاجا على اعتبار أميركا «حزب الاتحاد الديموقراطي» تنظيماً غير إرهابي. 7 ـ تكرار مساعد المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية مارك تونر مباشرة بعد استدعاء باس على أن الحزب الكردي ليس إرهابياً، وأن هناك فارقا كبيرا بينه وبين «حزب العمال الكردستاني». في لحظة ذروة العجز التركي يصل الخلاف التركي ـ الأميركي إلى ذروته، وهو ما لا تريد أنقرة أن تراه، وتستمر في محاولة دفع الآخرين لكي يعيدوا النظر في طريقة تعاملهم مع الوقائع. ربما يضع رئيس الحكومة أحمد داود اوغلو إصبعه على الجرح عندما يقول إنه كلما حدث اجتماع بين الأميركيين والروس كانت تتصاعد بعده وتيرة العمليات العسكرية للجيش السوري وروسيا في سوريا. كان يريد أن يقول إن الولايات المتحدة متواطئة في مسار العمليات العسكرية التي لا تخدم المصالح التركية. لكن اعتبار أن واشنطن تتقصد ذلك ليس مطابقاً للواقع. فواشنطن تبقى في النهاية رأس الحربة في الصراع في سوريا والمنطقة لمواجهة خصومها. لكن أيضاً لها حساباتها وزاوية نظرها إلى التطورات وفقا لمصالحها العليا، التي قد لا تتطابق مع مصالح تركيا في بعض التفاصيل. فدعوة تركيا أوباما إلى التدخل، ومنع تقدم الجيش السوري، ومنع تقدم قوات الحماية الكردية وإقامة منطقة آمنة وعازلة، وما إلى ذلك من عناوين، تصطدم بجملة من التبريرات الواهنة والعوامل الأميركية والوقائع الميدانية: 1 ـ إن «الاتحاد الديموقراطي» ليس حزباً تركيا حتى يحق لأنقرة أن تصنفه إرهابياً، وهو لم ينفذ عمليات عسكرية ضد المصالح التركية. وإذا كان من ارتباط إيديولوجي بينه وبين «العمال الكردستاني» فهذا لا يبرر تصنيفه إرهابياً تماماً كحال «حركة النهضة» في تونس أو جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر أو الجماعة الإسلامية في لبنان. فهل تصنيف «الإخوان» في مصر من قبل النظام هناك منظمة إرهابية يعني أن الجماعة الإسلامية في بيروت تنظيماً إرهابياً؟. 2 ـ إن وضع تركيا خطوطاً حمراً على تحرك قوات الحماية الكردية بعدم تجاوز نهر الفرات إلى غربه، يعتبر تدخلاً سافراً في شأن داخلي لدولة أخرى. تبرر تركيا ذلك بأنها لا تريد إقامة كيان كردي في سوريا. ونذكر هنا بالخطوط الحمر التي كانت ترفعها أنقرة بوجه أكراد العراق، فكانت النتيجة شبه دولة لهم هناك. فهل الخطر على الأمن القومي التركي لا يزال قائماً بعد تأسيس الفدرالية الكردية، أم أن إقليم كردستان تحول إلى شبه حليف لتركيا؟ وما الذي يعني تركيا إذا توافق السوريون على منح أكراد سوريا حقوقا ثقافية أو إدارة ذاتية، أو غير ذلك أو بالمقابل عدم إعطائهم هذا الوضع؟ أليس هذا شأناً داخلياً سورياً؟ ثم إذا كانت تركيا لا تريد أن تعطي أكرادها حقوقهم فكيف لها أن تفرض رغبتها على واقع داخلي في بلد آخر؟. في المحصلة هي تبريرات واهنة وواهية، لا تهدف إلا إلى عدم موت المشروع العثماني في سوريا، والمنطق الذي تَكَسَّر بأيدي الجيش السوري وحلفائه وبأيدي الأكراد. 3 ـ إذا كان من مشكلة في العقل السياسي التركي الحاكم فهي رؤية الوقائع والحقائق والتعامي عنها في الوقت نفسه من اجل عدم الاعتراف بالهزيمة، وطي مرحلة وبدء صفحة جديدة من العلاقات مع الجيران. بالطبع لا يتوقع احد في حال انتهت الأزمة في سوريا أن تعود العلاقات بين تركيا وكل من سوريا وروسيا وإيران والعراق إلى سابق عهدها. هذا مستحيل، فهناك مسؤوليات تاريخية سيسأل عنها صانعو السياسة الخارجية في تركيا، الذين سيورثون الشعب التركي والأجيال اللاحقة جبلاً من الأحقاد الذي راكموه في علاقاتهم مع جيران تركيا. ومن لا يريد أن يصدق فليراجع مقالة أول وزير خارجية لسلطة «حزب العدالة والتنمية» ياشار ياقيش، هذا الأسبوع في صحيفة «زمان»، عن تركيا وتركمان سوريا، إذ يقول إن سياسة أنقرة الخاطئة في سوريا ستجعل النظام المقبل في سوريا، سواء بقي الأسد أو شاركت المعارضة في السلطة، ينظر إلى تركمان سوريا على أنهم عملاء لدولة خارجية، وهم، أي التركمان، سيدفعون الثمن غالياً بعد انتهاء الأزمة في سوريا. لقد أرادت تركيا أن تصنف السوريين هذا عدو وهذا عميل، وهذا إرهابي وهذا نتيجة للاستبداد وما إلى ذلك، فلا يبقى، من زاوية أنقرة، سوى وجه السلطان الأفخم والصدر الأعظم مُطَهَّرَين من الرجس وَصُنْوَي الحق والعدالة! 4 ـ رغم شراكة عمرها من عمر حلف شمال الأطلسي لم يستطع، أو لم يرد، «حزب العدالة والتنمية» أن يفهم طريقة تعامل أميركا مع الأزمات. في الوضع الحالي، تحديداً في سوريا، كان واضحاً أن الولايات المتحدة لا تريد، ولا تستطيع الذهاب بعيداً في التماهي مع تركيا، ولا في التعارض مع روسيا، كما مع إيران خصوصاً بعد الاتفاق النووي. عوامل متعددة تدفع إلى عدم ذهاب أميركا بعيداً وفقا للرغبات التركية في التدخل العسكري في سوريا: & قرار أوباما في عدم التورط المباشر في الصراعات المسلحة بأحجام كبيرة، والاقتصار على استخدام وحدات خاصة أو مستشارين. & عدم وجود شرعية دولية للتدخل العسكري ضد النظام السوري. ومع ان الولايات المتحدة لا تعير أهمية كبيرة للشرعية الدولية، كما حدث في غزو العراق، فإن أوباما لن يتحرك من دونها، خصوصاً انه ليس من أسباب إستراتيجية قاهرة. وفي ليبيا كان قد تحرك وفقا لقرار من مجلس الأمن الدولي بمعزل عن تفسيراته. & والولايات المتحدة ليست بوارد الاصطدام بروسيا في سوريا. & ومقابل افتقاد أي تدخل لشرعية دولية، فإن التدخل الروسي، كما الإيراني، يحظى بشرعية كاملة، إذ حصل بناء لطلب الحكومة السورية الشرعية المعترف بها في الأمم المتحدة. & كما أن أوباما لا يريد خلط الأوراق في عام الانتخابات الرئاسية، ويريد أن ينهي رئاسته من دون مفاجآت سلبية. إن أقصى ما يمكن أن تفعله الولايات المتحدة تجاوبا مع رغبات تركية أو خليجية هو تكثيف الدعم العسكري للمجموعات المعارضة بأشكال مختلفة. مع ذلك فإن السلاح النوعي الروسي، واستخدام أحدث أنواع الأسلحة، سيعطل قدرات أي سلاح جديد يمكن أن تستخدمه المعارضة. وسط كل هذه العوامل والظروف غير المؤاتية لتركيا فإن أقصى ما تستطيع أن تفعله أنقرة هو أن تعترف بإفلاس سياستها المتبعة حتى الآن، وأن تستسلم لقدرها، وان تدفع ثمن مغامراتها وان تغلق حدودها أمام الإرهابيين والأسلحة، وتدرك أن اللعب والتلاعب بالشؤون الداخلية للدول الأخرى، سواء في سوريا والعراق أو في مصر، ليس بلا نهاية، وأن طابخ السم آكله، خصوصاً في ظل احتدام المواجهات غير المسبوقة في المناطق الكردية بين الجيش التركي و «حزب العمال الكردستاني» الذي يحقق، تبعا لدوران قلقان القيادي في الحزب، تفوقاً في المدن وخلال فصل الشتاء، يحصل للمرة الأولى منذ 43 عاماً وان هذه المعارك ستتوسع في الأسابيع والأشهر المقبلة، ما يضع سلطة «حزب العدالة والتنمية» بين فكَّي حلب وديار بكر من الكماشة.   تركيا وتركمان سوريا يقول أول وزير خارجية في سلطة «حزب العدالة والتنمية»، والذي تحول الى معارض كبير لسياسات الحزب السورية، إن الانطباع الذي تتركه تركيا في طريقة تعاملها مع تركمان سوريا أنهم عملاء لدول أجنبية. هذا أمر سيئ للغاية. إذ هؤلاء في النهاية مواطنون سوريون، وعندما كنت سفيرا في دمشق زرت قراهم قرية قرية، وكانوا يفتخرون بنسبهم التركماني، لكنهم كانوا يعرّفون أنفسهم أولاً على أنهم مواطنون سوريون تابعون للدولة السورية. لكن حتى لو نشأ في سوريا نظام جديد، فإن الغالبية العربية هناك ستعفو عن المواطنين العرب. فليس من غالبية تعاقب أبناءها. لكن التركمان سيدفعون الثمن غالياً. وما لم تبذل تركيا جهوداً مكثفة لمحو هذا الانطباع عن علاقتها بالتركمان، فإن النتيجة ستكون كارثية عليهم، سواء بقوا في تركيا أو عادوا إلى ديارهم. الثابت أن أحداً لا ينكر أن الوضع الذي وصل إليه التركمان اليوم هو نتيجة للسياسات التي تتبعها تركيا، والتي لا يمكن أن نحمّلها للآخرين. ياشار ياقيش ـ «زمان»  

المصدر : محمد نور الدين / السفير


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة