دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
تمثل «الإصلاحات» السعودية تهديداً جدياً للنظام الاجتماعي ــ الاقتصادي للبلاد، خاصة أن خفض مستوى معيشة غالبية المواطنين وتقليص التأمينات الممنوحة لهم، يأتيان بالتزامن مع تصاعد التوتر الاجتماعي في المملكة، والارتفاع الفلكي في الإنفاق الأمني والعسكري
لطالما اشتكى مسؤولون سعوديون من أن الدولة لم تعد قادرة على دعم مستوى حياة مواطنيها، من قبيل الدعم الكبير لأسعار الاستهلاك، ولا سيما الوقود، وتوفير الوظائف للسعوديين في القطاع العام، وتمويل مختلف برامج الرعاية الاجتماعية، ومنح الإعفاءات الضريبية، وذلك حتى قبل انهيار أسعار النفط ومضاعفة الإنفاق العسكري والأمني، اللذين أضيفا إلى الانفلات المزمن للأسرة الحاكمة وحاشيتها في بذخها الأسطوري والعبثي.
ويرى هؤلاء المسؤولون أن شرط مواجهة المملكة للصعوبات الاقتصادية المستجدة هو تطبيق لائحة «الإصلاحات» المعروفة لصندوق النقد الدولي، التي يمكن اختصارها بخفض الإنفاق العام، وخاصة الإنفاق الاجتماعي والإنفاق على البنى التحتية، وفرض ضرائب جديدة على الاستهلاك خصوصاً، وذلك دون الاعتراض على الزيادة الفلكية في الإنفاق الحربي والأمني للمملكة التي تخوض حروباً مباشرة وبالواسطة، نيابة عن حلف شمال الأطلسي.
لكن التوجه «الإصلاحي» هذا يتعارض تماماً مع ما يسميه البعض «العقد الاجتماعي» السعودي غير المكتوب، أو بالأحرى المنظومة الاجتماعية ــ الاقتصادية التي تقوم عليها سلطة الملكية المطلقة، وأساسها توزيع ريع النفط، على شكل وظائف حكومية وتأمينات وخدمات وعامة، وحتى رشى اجتماعية واسعة النطاق، أو «مكرمات ملكية»، مقابل الولاء. ضَمِن هذا النظام استقراراً للحكم أكبر من ذلك في الكيانات المجاورة الأقل ثراءً، وعُرف عن آل سعود التعامل مع الأوقات الصعبة لملكهم بالإنفاق السخي، كما حدث أخيراً، حين روّض الملك الراحل، عبد الله، والحالي، سلمان، الغليان الاجتماعي في خضم حراك «الربيع العربي» وتسعير التطرف الديني «الجهادي».
وما يزيد الطين بلة، أنّ تقليص حجم عملية توزيع القليل من ثروة المملكة لمصلحة مواطنيها، يأتي بالتزامن مع تزايد إنفاق الرياض الفلكي على العدوان الذي تقوده على اليمن، ودعمها للمتمردين في سوريا، وهو إنفاق يصعب تقدير حجمه بشيء من الدقة. وفيما يُقدَّر أن العدوان العسكري على اليمن وحده كلّف 5.3 مليارات دولار حتى الآن، لحظت ميزانية 2016 إنفاقاً على المجالات العسكرية والأمنية يصل حجمه إلى 57 مليار دولار. وغني عن القول أن إنفاق السعودية على نشر التطرف الديني، بغرض التعبئة اللازمة لخوض هذه الحروب، يسعّر الاضطراب الاجتماعي في المملكة نفسها، خصوصاً مع الزيادة في تركّز الثروة وتعميم الفقر، وإعطاء الرياض أهمية أقل لإنجاز مشروعات البنية التحتية، بدءاً من إنشاء مدارس ومستشفيات وخطوط للسكك الحديدية وطرق ومطارات، وصولاً إلى تشييد سلسلة من المدن الرياضية الحديثة، التي من شأنها أن تصرف الشباب السعودي عن اهتمامات ونشاطات تقلق نظام الحكم.
محمد بن سلمان: قائد العدوان و«الإصلاحات»
سعت الرياض، خلال الخمسة عشر عاماً الماضية، إلى تقليص العبء الاجتماعي على ماليتها العامة من خلال دفع مزيد من السعوديين للعمل في القطاع الخاص، عبر قوانين «السعودة» التي فرضت نسباً محددة من الموظفين المحليين على المؤسسات، كما عبر خصخصة مرافق عامة، وإعطاء المزيد من الحوافز للاستثمار الأجنبي المباشر. لكن هذه المساعي لم تحقق إلا نجاحاً جزئياً، إذ بقي نمو القطاع الخاص مرتبطاً بشدة بالإنفاق الحكومي والعقود الحكومية، ولا يزال غالبية السعوديين يعملون في القطاع العام. ومع الزيادة الكبيرة في أسعار النفط خلال العقد الماضي، بعد تراجع أوصلها لـ10 دولارات للبرميل في 1999، تبددت قوة الدفع لهذه المساعي، وزاد الإنفاق الحكومي كثيراً، وتبخرت الجهود الأولية لتنويع الاقتصاد وتقليل الاعتماد على ريع النفط.
وقاوم آل سعود مراراً تطبيق إجراءات من شأنها أن تثير غضب المواطن العادي، لكن مع انهيار أسعار النفط، الذي تتحمل الرياض مسؤولية كبيرة عنه، ضغطت حكومة الملك سلمان لإجراء تغييرات كبيرة، حيث يرأس ولي ولي العهد ووزير الدفاع، محمد بن سلمان، لجنة عليا للاقتصاد، أولويتها تقليص القطاع الحكومي وتعزيز القطاع الخاص، ودفع أعداد إضافية من السعوديين للعمل فيه. وأنشأت هذه اللجنة مكتباً جديداً لإدارة المشروعات الرامية إلى خفض ميزانيات الإدارات الحكومية وفرض ضرائب على الاستهلاك، أبرزها ضريبة القيمة المضافة.
وأعلنت الحكومة، يوم الاثنين الماضي، رفع أسعار سلع استهلاكية رئيسية، أبرزها الوقود، بنسب تصل إلى 67%؛ علماً بأن رفع كلفة الطاقة يرفع المعدل العام للأسعار. كذلك تعهدت الحكومة بخفض فاتورة رواتب القطاع العام، دون الإفصاح عن كيفية تنفيذ هذا التعهد، في بلد تعمل غالبية أبنائه لدى الدولة. ومع تطبيق التوجهات الاقتصادية المعلنة لبيان الموازنة، ستتسع رقعة الفقراء والعاطلين من العمل، ما يوسع الهوة بين الحماية الاجتماعية المتقلصة والحاجة المتزايدة إليها.
إهمال الاستثمارات العامة
ومن الملاحظات الأبرز على بيان الموازنة الأخير، غياب الإشارة إلى أية مبالغ مرصودة للاستثمارات العامة، إذ يترك البيان أمر الاستثمارات للتوقعات وليس الحسم، كأن «يتوقع» أن تواصل صناديق التنمية الحكومية ممارسة مهماتها في تمويل المشاريع المختلفة بقرابة 50 مليار ريـال. وإذا ما افترضنا أن هذه المبالغ ستُنفَق بالفعل خلال عام 2016 على مجالات الاستثمار المختلفة، فهي لا تمثل سوى نحو 2% من الناتج المحلي البالغ 2.4 تريليون ريـال، وفق تقديرات 2015، وهي بلا شك نسبة ضئيلة جداً، وتدل على اتجاه انكماشي في الاقتصاد السعودي في المرحلة المقبلة.
ويذكر البيان، ضمن إيرادات عام 2015، أن إيرادات الاستثمار بلغت 37 مليار ريـال (ما يعادل 9.8 مليارات دولار)، دون إيضاح إذا ما كان هذا العائد على الاستثمار الداخلي أو الخارجي. وإذا كانت السعودية تمتلك صندوقاً سيادياً تقدَّر استثماراته بنحو 750 مليار دولار، فهل يعقل أن يكون عائده السنوي 9.8 مليارات دولار، أي بنسبة 1.3% فقط؟ وإذا افترضنا أن هذا هو العائد الفعلي للاستثمارات الخارجية، فماذا عن الاستثمارات المحلية؟
أسئلة عن حجم الأعباء وتوزيعها
كذلك يؤخذ على بيان الموازنة الغموض، فلا يعلم المواطن السعودي كيفية تدبير العجز المالي المتصاعد، الذي سيبلغ هذا العام نحو 87 مليار دولار، ولا يعلم بالتالي كيفية تدبير خدمة الدين المتصاعدة أيضاً، وما سيترتب عليه جراء ذلك من أعباء مباشرة، على شكل ضرائب ورسوم، أو غير مباشرة، على شكل خفض الإنفاق على الخدمات العامة وبرامج الدعم المختلفة. ولم يصاحب عرض الأرقام الإجمالية للموازنة توضيحاً للخطة العامة للدولة، سواء على المستوى السنوي أو الخمسي أو غير ذلك. وقفز الدين العام في 2015 إلى 142 مليار ريـال، مقارنة بـ 44 مليار ريـال في عام 2014. وسيزيد أساس الدين العام بقيمة عجز موازنة 2016، أي بنحو 326.2 مليار ريـال، ليصل مع نهاية عام 2016 إلى نحو 468 مليار ريـال. وفيما ذكر بيان الموازنة أن العجز سيجري تدبيره من خلال الاقتراض الداخلي والخارجي، مع زعم أن ذلك لن يؤثر بمعدلات السيولة وبالتالي تمويل أنشطة القطاع الخاص، فإن هذا الزعم غير واقعي على الإطلاق، فلا ريب أن زيادة الاقتراض الداخلي من قبل الحكومة يزاحم اقتراض القطاع الخاص، ويرفع كلفته. وتبقى الأسئلة معلقة حول مصادر الدين وكلفته الحقيقية.
السعودية ماضية في سياستها البترولية... رغم الارتدادات
زيادة إنتاج المملكة من النفط تتوقف على طلب الزبائن، وهي لديها القدرة على تلبية الطلب، دون أن تفرض قيوداً على إنتاجها النفطي، قال وزير البترول السعودي، علي النعيمي، يوم أمس. وكانت صحيفة «وول ستريت جورنال» قد نقلت في وقت سابق عن النعيمي قوله إن السياسة النفطية للسعودية «يمكن الاعتماد عليها»، وإنها لن تتغير، أي إنها ستظل تعطي الأولوية للدفاع عن حصتها في الأسواق، بدل دعم أسعار النفط، رغم تنامي العجز في موازنتها، وتصاعد مديونيتها. وفي سياق متصل، وإثر إعلان الرياض «الإصلاحات» في بيان الموازنة يوم الاثنين الماضي، هبطت أسواق الأسهم السعودية بحدة، فتراجع المؤشر الرئيسي لسوق الأسهم بـ3% في ربع الساعة الأول من بدء التداولات، حيث كانت شركات الصناعات البتروكيميائية أكثر الشركات تضرراً. وتراجع سعر سهم شركة «السعودية للصناعات الأساسية» (سابك)، كبرى الشركات المنتجة للبتروكيميائيات، بـ8.3%، فيما تراجع سعر سهم شركة «سعودي كيان» بـ4.8%.
المصدر :
الاخبار/فراس ابو مصلح
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة