دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
في لقاء دردشة صحافية قبل خمس سنوات مع مسؤول سوري رفيع المستوى، وهو خبير محنك في السياسة الدولية والإقليمية، فضل الرجل أن يقلل نسبياً من الاندفاعة «النفسية» للصحافة العربية عموماً، حين حديثها عن آفاق «مشروع ربط البحار الأربعة»، والذي كان الأتراك والسوريون والقطريون يتحدثون عنه، كزعماء ومحللين.
على الشرفة المطلة على حديقة داخلية غنية بالأشجار والزينة، لأحد الفنادق الفخمة في العاصمة الأذربيجانية باكو، والتي تعكس آثار ثرائها بالغاز والنفط، نهضتها العمرانية، كان سهلاً تخيل ما يمكن أن تصبح عليه دمشق مستقبلاً، إذا لاقت الآمال الاقتصادية الكبرى، ما يحملها من الرياح السياسية.
وكان السؤال الملح دوماً: هل هذا ممكن؟ هل قضية «ربط البحار الأربعة» عبر خطوط الغاز والنقل البحري والسككي وشبكات الكهرباء ممكنة؟ هل ندخل عصراً جديداً؟ وهل تجاوز الشرق الأوسط لعنته وبدأ يسلك طريق الازدهار؟
لم يكن التوقف عند العقبات يدوم طويلاً، بل كان نادي «البحار المتعاونة» يتوسع. والبحار الأربعة يقصد بها قزوين والأسود والمتوسط والخليج العربي. لكن نوافذ العلاقات التي كانت تفتح لقيادة دمشق في العامين 2009 و2010 كانت تضم القنوات المائية التي تصل فيينا باسطنبول وصولا للبحر الأحمر، من دون إهمال الحديث عن المحيطات التي تضرب أمواجها شواطئ الهند وأميركا الجنوبية أيضاً.
ولاحقا أطلق على «المشروع» الافتراضي اسم «ربط البحار الخمسة»، وأقيمت له الندوات «الاستشرافية»، التي كما قيل في إحداها في العام 2010 بأنها كانت تهدف إلى «استشراف رؤية لتقديم قراءة تاريخية ودينية واقتصادية وسياسية تعزز فكرة المشروع، وتقترح السبل الواقعية لتحقيق هذا الهدف المنشود».
لكن الذي جرى ونعرفه جميعاً، هو أن القوائم السياسية لهذا المشروع انهارت دفعة واحدة، بل وحفرت مكانها الخنادق والدشم. ولم يعد ممكنا التلميح بالإمكانيات الاقتصادية، التي سيجلبها تعاون دول الإقليم هذه، إذ سخّر أبرز أصدقاء دمشق القدامى، وعلى رأسهم الأتراك والقطريون، كل إمكانياتهم المتاحة لغرض تدمير بنية البلاد بمختلف طبقاتها، بما فيها التاريخية، على مدى خمس سنوات مضت.
ومع هذا، توسعت دائرة الانشقاق تماماً كما جرى قبلها مع «نادي الآمال الاقتصادية الكبرى للبحار الخمسة»، وصولاً إلى انحسار علاقات روسيا وتركيا وتوقف مشروع الربط الغازي بينهما، تزامناً مع استيلاء الغرب على ليبيا ومحاولة امتطاء رياح التغيير في العالم العربي، والتي انتهى معظمها نهايات مأساوية.
والآن ليس ثمة من يقبل التعليق على هذا الموضوع. فأين نحن من تعاون سوريا وتركيا؟ وأين هي سوريا من استجماع قدرتها الإجمالية على الإنتاج حتى تصبح شريكاً في مشاريع استراتيجية إقليمية؟ وأين هي العلاقات بين أقطاب الغاز العالميين، في ظل سياسة الاستقطاب التي عادت من البوابات السورية واليمنية والأوكرانية؟
لا أجوبة، غير تلك المستندة الى احتمالات التغيير الجذري في السياسات البعيدة المدى لا التكتيكية.
وأصبح في حكم الميت ما كان يعرف بـ «مشروع الغاز العربي» الذي امتد من مصر إلى الأردن، ثم سوريا ولبنان، مع احتمالات وصوله العراق وتركيا لاحقاً، لربطه بالشبكة الأوروبية، التي كانت تطمح، عبر البوابة التركية، للاستغناء عن الغاز الروسي. وبالطبع توقف ضخ الغاز المصري مع الاضطرابات التي عصفت بالبلد في العام 2011، ولم يتم استئنافها باتجاه سوريا أبدا بعد ذلك وفقا للمسؤولين السوريين.
وكانت سوريا قد مدت من جهتها «أنبوب الغاز العربي» من حمص، وسط البلاد، إلى طرابلس اللبنانية. وكان مقرراً مد أنبوب من حمص إلى الحدود التركية بطول يصل إلى نحو 220 كيلومتراً. لكن الأتراك، وكانوا «أصدقاء سوريا» حينها، اشترطوا، وفقا لمعلومات «السفير»، أن يلعبوا «دورين في العملية. دور الناقل للغاز، عبر الأراضي، ودور الشاري، بما يعنيه ذلك من أسعار تفضيلية ومن ثم إعادة البيع مجددا للزبون الأوروبي»، وهي آلية يشبّهها أحد المسؤولين السوريين بالطريقة التي يتاجر بها التجار الأتراك الآن بالسلع الإستراتيجية السورية، ولا سيما النفط المهرب عبر الفصائل المسلحة، وبينها تنظيم «داعش».
واللافت في تلك الفترة من المفاوضات، استعداد المفاوض السوري «للصبر لا التنازل» للمطلب التركي، وذلك حتى تدخلت إيران، ورسم خبراؤها النفطيون خطاً عريضاً غامق اللون على الخريطة، يمتد من إيران إلى العراق مرورا بسوريا ومن ثم للبحر المتوسط وأوروبا. وكان الخط الافتراضي بمثابة بديل من الخط التركي، الذي يتقاضى أصحابه عمولة كبيرة.
ورغم أن أي شيء من هذا لم يحصل، إلا أن هذه المشاريع ما زالت تداعب مخيلة السياسيين والاقتصاديين. ووفقا لما يقوله مسؤول سوري لـ«السفير»، فإن «كل هذا غير ممكن من دون حصول حل سياسي»، مضيفاً أن «الحلول السياسية تستند في النهاية الى الحسابات المصلحية أيضاً».
وكل من الغاز والنفط والموقع الجغرافي يساعد سوريا، من دون إهمال الضرر الكبير الذي تعرضت له، وما زالت تتعرض له البنية التحتية لهذا القطاع. رغم هذا يشرح أحد المهندسين الميدانيين أن أياً في البلاد لم يكن يتوقع الذي حصل، ولكن رغماً عن هذا كان السوريون قد بنوا القسم المتعلق ببلادهم من شبكة أنابيب غاز الخط العربي بطريقة «تسمح باستثمارها محليا» من جهة، و «تتيح وجود بدائل بين الخطوط» من جهة أخرى، ما أعطاها مرونة استثنائية في ظل الحرب والاستهداف المباشر، سمحت بتدفق الطاقة السائلة داخل هذه الأنابيب بالحد الأدنى الممكن.
واستهدف في هذا السياق خط الغاز العربي الرئيسي أكثر من مرة، آخرها في تموز الماضي حيث توقف تماماً في منطقة المحسة قرب القريتين في ريف حمص، ولم تنفع محاولات إعادة تشغيله عبر وساطات قام بها وجهاء من المنطقة، بسبب حيوية الخط بالنسبة لتأمين إمداد الطاقة الكهربائية.
وترافق هذا مع إعلان الجانب السوري أخباراً سيئة أخرى، بينها وقف معمل غاز «إيبلا» عن الإنتاج، نتيجة تخريب خط نقل الغاز المنتج من حقل الشاعر إلى المعمل، وبالتالي خسارة الشبكة السورية للغاز حوالي مليوني متر مكعب يومياً، إضافة للتوقف المتكرر لمعمل غاز دير الزور عن الإنتاج نتيجة تخريب خط تصدير الغاز المنتج من المعمل، علماً أنه متوقف حالياً عن العمل ويغذي الشبكة بحوالي مليوني متر مكعب يومياً، من دون تجاهل توقف معامل في المنطقة الوسطى أيضاً، وفشل المفاوضات التي تطالب الجيش بالانسحاب من مناطق قريبة وإطلاق سراح معتقلين وسجناء، مقابل السماح بإعادة التشغيل.
هل من ضوء في آخر هذا النفق؟ يقول أحد خبراء النفط السوريين، لـ «السفير»، وفضل أن يبقى اسمه مغفلاً، إن عناصر الخروج من هذا الواقع السيئ لا تزال متوفرة، وإن كانت تتطلب وقتاً إلى حين انتهاء الحرب.
واستناداً إلى التحالف الحالي القائم بين سوريا وإيران، ونسبياً التفاهم مع العراقيين، ما زالت سوريا قادرة على استخدام موقعها الجغرافي لتمرير طاقة غاز واعدة جداً من العراق، باتجاه أوروبا باعتبارها منفذه الوحيد على المتوسط، مع الإشارة إلى إمكانية أن يمر الغاز الإيراني من الأنابيب ذاتها أيضاً، وذلك من دون الإشارة إلى الطاقة النفطية والغازية المحتملة في الجهة الشمالية من الشواطئ السورية، والتي يقدر المسؤولون السوريون بـ «أنها تتراوح بين الوسط إلى الجيد»، ولكن من دون الموافقة على تقدير مخزونها رسمياً قبل البدء بعمليات تنقيب فعلية، وهي عملية تحتاج إلى سنوات.
إضافة إلى كل هذا، لا يمكن إهمال كلمات الرئيس السوري بشار الأسد منذ أيام عن عدم وجود «مستحيل في السياسة»، وذلك لحظة إجابته عن سؤال حول إمكانية عودة العلاقات مع السعودية.
وباعتبار أن «لا مستحيل في السياسة»، ربما يعود الحديث عن شرق أوسط مزدهر، لا متقاتل، من إحدى بوابات المستحيل تلك، يوماً ما.
المصدر :
السفير/ زياد حيدر
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة