إنَّها القلوب الملآنة التي لم يستطع سيد أنقرة أن يخفيها. فبادر إلى إسقاط الطائرة الروسية لعلَّه يتجنَّب السقوط الكامل لمشروعه في سوريا.

وعلى قاعدة «عليّ وعلى أعدائي»، جاء قرار إسقاط الطائرة ليبدأ مرحلة جديدة من تاريخ العلاقات بين تركيا وروسيا، ومن تاريخ الأزمة في سوريا. فما قبلها غير ما بعدها، ليس من اثنين يختلفان على ذلك.

ما لم تتجرَّأ عليه دولة أطلسية على امتداد تاريخ حلف شمال الأطلسي، تجرَّأت عليه تركيا وأسقطت طائرة روسية في وضح النهار، يوم الثلاثاء الماضي. والإسقاط جاء أيضاً باعتراف رسميّ وبأنَّه من جانب المقاتلات التركية، وليس بصواريخ «أرض – جو» قد يجهّل فاعلها.

بمعزل عن مكان إسقاط الطائرة وما إذا كان في المجال الجوي التركي أو المجال الجوي السوري، فإنَّ السهم قد خرج من القوس والواقعة حدثت والكلام سيكون لما بعد الحادثة وليس في مجرياتها.

وحتّى لو اخترقت الطائرة الروسية المجال الجوي التركي، فهي ليست المرّة الأولى وليس الاختراق الدافع لإسقاطها. فلو أنَّ تركيا لم تسقط الطائرة، لم يكن ذلك ليغيّر الواقع. لذا، فإنَّ القرار هو قرار سياسي بامتياز والبحث عن إجابات بشأن دوافعه يقع في هذه الخانة.

1 ـ في الأيام التي سبقت إسقاط الطائرة، كانت القوّات السوريّة تتقدّم بشكل ملحوظ في المناطق الشمالية لريف اللاذقية، خصوصاً في مناطق جبل التركمان والأكراد والمحاذية للواء الإسكندرون. شعرت تركيا أنَّ احتمال خسارة المعارضة المسلحة لهذه المناطق، سيفقدها ورقة نفوذ في سوريا، لذا فقد رفعت الصوت غيرةً للدفاع عن الوجود التركماني في تلك المناطق، علماً أنَّ غالبية المسلحين هناك وفي مختلف جبهات القتال من العناصر الأجنبية. وقد تسارعت الاجتماعات الرسميّة الأمنيّة برئاسة رجب طيب أردوغان وداود أوغلو إلى دراسة التطوّرات الميدانيّة، وكانت تركيا على وشك التحرك لدى الأمم المتحدة والحلف الأطلسي لرفع الصوت.

ومن ثمّ حدث إسقاط الطائرة الروسية في رسالة مباشرة لروسيا بأن توقف دعمها، وبالتالي تقدّم الجيش السوري في تلك المنطقة. ربَّما لا تستطيع تركيا منع تقدم الجيش السوري، لكنّها ستحدث وفقاً لحساباتها ارتباكاً وتبديلاً في طبيعة الحركة الروسية بما يمنح المعارضة السورية وقتاً إضافياً لصدّ الهجوم السوري ـ الروسي.

إذا كان هذا هو السبب المباشر لإسقاط الطائرة الروسية، فإنَّ القرار بإسقاطها يكون تركياً فقط مع وضع الولايات المتحدة في مناخ القرار. وبالتالي تتحمَّل أنقرة المسؤولية مع دعم اميركي لاحق، إذا تطلّب الأمر.

٢ ـ قبل يوم واحد فقط من حادثة الطائرة، كان ينعقد في طهران لقاء تاريخي بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والمرشد الأعلى للثورة الإيرانية السيد علي خامنئي. وكان لقاءً غير مسبوق، وفي ذروة الصعود الروسي في المنطقة والعالم، وبعد خروج إيران من دائرة الضغوط بعد توقيع الاتفاق النووي. كان اللقاء بمثابة إعلان حلف إقليمي وعالمي جديد ينبئ برسم ملامح جديدة لخريطة المنطقة. ولا شكّ أنَّ هذا كان سينعكس بشكل كبير على الأزمة في سوريا، ولاحقاً في العراق والمنطقة والعالم.

إذا كان إسقاط الطائرة الروسية رسالة ردّ على التحالف الروسي ـ الإيراني، فهذا أكبر من قدرة تركيا على أن تواجه أو تقرّر بمفردها القيام بخطوة مضادة لهذا الحلف، ولا بدّ أن يكون القرار أميركياً بالتحديد، على أن تكون أداة التنفيذ تركية، تصبّ، في الوقت ذاته، في الهدف التركي الميداني بشأن ريف اللاذقية.

٣ ـ بموازاة هذين الهدفين المباشرين الأساسيين، فإنَّ مجموعة عوامل تدخل في تشكيل الظروف لإسقاط الطائرة، من ذلك شعور تركيا وأميركا بجدية محاربة روسيا للإرهاب، ولا سيّما ضرب مصادر تمويله مثل قصف صهاريج النفط التي يصدّرها «داعش» إلى تركيا، وهو ما لا ينسجم مع حماية أنقرة والغرب لـ«داعش»، بخلاف كل ما يقولونه.

هذه الحادثة غير المسبوقة، وضعت تحت الامتحان الصعب جداً الرئيس الروسي، خصوصاً أنَّه يحلّق عالياً كالرجل الأكثر قوّة في العالم.

لقد نزلت روسيا إلى الميدان السوري للمرة الأولى في تاريخها منذ قرون. وأيّ نكسة في طبيعة هذا الحضور، ستكون له آثاره السلبية جداً عليها. لذا، فإنَّ روسيا ستكون مطالبة بأن تؤكّد على نجاح خطوتها وإبراز قوّتها في لحظة حسّاسة من الصراع الإقليمي والعالمي.

أن تقوم دولة صغيرة أو على الأكثر متوسطة القوة، بالتحرّش بدولة كبرى مثل روسيا وبمكيدة مدبرة، فهذا من الناحية النفسية أمر غير مقبول البتّة. ففي العلاقات الدولية، تراعي الدول، حتى لو كانت مختلفة في ما بينها، لياقات وخطوطا حمرا وما إلى ذلك. فلا يذكر التاريخ الحديث مثلاً أيّ صدامات مقصودة ثنائية بين تركيا وإيران، لكنهما يتقاتلان بالوكالة أينما أمكن لهما ذلك. الأمر ذاته مثلاً ينطبق على السعودية وإيران. فكيف إذا كان الأمر بين دولتين بينهما شراكات اقتصادية ونووية، ولهما حدود جغرافية مشتركة مثل تركيا وروسيا؟ هذا العامل هو الذي يضع إسقاط الطائرة الروسية من قبل تركيا، مفاجئاً وفي خانة أقل ما توصف بـ «الغدر»، خصوصاً أنه لا مبرّر أبداً لإسقاطها حتى لو كانت اخترقت المجال الجوي التركي. ولو أنَّ تركيا تطبق هذه القاعدة دائماً، لنشبت الحرب بينها وبين اليونان وبينها وبين سوريا والعراق وما إلى ذلك. لكن أن تطبّق تركيا هذه القاعدة الآن على روسيا، فهو ما لا يمكن أن تهضمه روسيا بأيّ مقياس.

يقال الكثير عن طريقة تفكير الدول الكبرى بعقلية استراتيجية وباردة ومحكمة. لكن إضافة إلى ذلك، فإنَّ هناك ما يدخل في باب الكرامة الوطنية التي تستدعي رداً سريعاً ومباشراً بمعزل عن النتائج.

لذا، فالمتوقع أنَّ روسيا ستمارس حق الردّ السريع والمباشر، لكن بعد أن تستكمل نشر منظومات الصواريخ التي أعلنت عنها مثل «أس 400» وغيرها. والردّ السريع موجود في العلاقات الدولية. إسرائيل مثلاً، كانت تردّ على صواريخ أو عملية لـ «حزب الله» بقصف فوري هنا أو هناك. ردّ إسرائيل على عملية أخذ رهائن إسرائيليين عشية حرب تموز، انتهى إلى عدوان تموز. «حزب الله» كان يردّ أيضاً على عمليات إسرائيلية. ردّ الولايات المتحدة على هجوم 11 أيلول، كان غزو أفغانستان. ردّ فرنسا على هجمات باريس الأخيرة، كان غارات متلاحقة على مواقع «داعش» في سوريا.. في غزة كذلك الأمثلة متشابهة.

إسقاط الطائرة الروسية اليوم، لا يقلّ لناحية تأثيراته ودلالاته عن أيّ هجوم تركي واسع على روسيا. لذا، فإنَّ الردّ السريع هو أكثر من ضروري لاستعادة الهيبة الروسية التي اهتزت بشدة من جراء «تهويش» الذئب الأغبر على الدب الأكبر وإصابته بخدوش بل جراح (في النهاية قتل طيار روسي). وهذا الردّ السريع لا علاقة له بالردود الاستراتيجية التي يجب أن توضع لوضع البعض عند حدّهم. وخلال ذلك، فإنَّ بوتين يكون قد تلقّى هدفاً، فيما هو مطالب ليس فقط بتسجيل هدف التعادل بل هدف الفوز.

في الردود الاستراتيجيّة

يتوقّف الردّ الاستراتيجي الروسي على إسقاط الطائرة، على طبيعة تقدير القيادة الروسية لأسباب الحادثة.

- إذا كان تقدير الروس أنَّ الحادثة فردية من صنع تركيا فقط ولو بأخذ علم أميركي والهدف هو التطورات الميدانية في سوريا، فإنَّ الردّ الروسي هو في إفشال الغاية التركيّة من خلال تكثيف العمل الميداني والعمل على تحرير ما تبقى من أراضٍ في ريف اللاذقية وصولاً إلى تحرير كامل المنطقة المحاذية للحدود التركية في لواء الاسكندرون وإغلاق الحدود على تسلل الإرهابيين من تركيا. بالطبع، هذا يستلزم جهداً مضاعفاً. ولكن ليس أمام موسكو ودمشق وطهران أيّ وسيلة أخرى إلَّا هذه للردّ على إهانة اسقاط الطائرة الروسية. وبلوغ هذا الهدف، يعني دفن حلم إقامة المنطقة العازلة في سوريا التي لا يزال يأمل فيها حكام أنقرة.

- أما إذا كان تقدير القيادة الروسية أنَّ أميركا هي التي أمرت بإسقاط الطائرة من أجل مواجهة الحلف الروسي - الإيراني الجديد، وان التركي لم يكن سوى أداة، فإنَّ الردّ يفترض أن يأخذ بالاعتبار البعد الأميركي من الحادثة، وبالتالي أن يكون الردّ أكثر استراتيجية وشمولية واتساعاً وبمشاركة روسيا وكل حلفائها. وأن يكون أيضاً من بين خطوات الردّ الحتمية، تكثيف العمل الميداني في المناطق المجاورة للواء الاسكندرون وشمال حلب تمهيداً لتطهيرها من كل المرتزقة والإرهابيين المدعومين من وراء الحدود.

- العلاقات الثنائية: توجّهت الأنظار مباشرة إلى العلاقات الاقتصادية بين البلدين ومدى فعالية اتخاذ روسيا إجراءات عقابية ضدّ تركيا على الصعيد الاقتصادي. فالميزان التجاري بين البلدين يبلغ 31 مليار دولار منها 25 ملياراً صادرات روسية مقابل 6 مليارات صادرات تركية. ثلثا الصادرات الروسية غاز طبيعي ونفط والباقي منتجات معدنية وزراعية وغذائية وكيميائية. بينما يتركز التصدير التركي على منتجات زراعية وحيوانية ونسيجية ومحركات ومواد كيميائية ومواد بلاستيكية وكاوتشوك.

الإجراء الروسي الأقوى، يمكن أن يكون في قطع إمدادات الغاز فجأة ولأسباب مبررة جداً، مثل التأخير عن تسديد المدفوعات. هل تفعل روسيا ذلك مع دخول تركيا فصل الشتاء والثلوج؟ ما يرشّح في تركيا، أنَّ إجراءات تضييقية روسيّة بدأت على الصادرات التركية من لحوم دجاج وخضار وفاكهة بحجة عدم المطابقة مع المواصفات.

لكن التأثير الأقرب، سيكون على وقف تلزيم المشاريع ولا سيّما في قطاع البناء لشركات تركية. وهذا يعني أنَّ ما قيمته 60 مليار دولار من استثمارات تركية في روسيا، ستكون أمام خطر التوقف ولو التدريجي. طبعاً هذا يعني وقف اليد العاملة الروسية فيها أيضاً. لكن في حسابات الربح والخسارة، قد تكون تركيا هي الخاسرة أكثر.

خسارة مؤكدة لتركيا من دون تأثّر روسي هو في وقف تدفق السياح الروس إلى تركيا الذين يقدرون سنوياً بخمسة ملايين بعدما كانوا سابقاً سبعة ملايين، أي ثاني رقم بعد السياح الألمان. خمسة ملايين سائح روسي، يعني بلغة المال حوالي خمسة مليارات دولار سيخسرها القطاع السياحي التركي، ويمكن للسائحات والسائحين الروس أن يتمتّعوا بأشعة الشمس في اليونان وتونس وبلغاريا وإيطاليا، بدلاً من تركيا.

خارج حسابات العلاقات الثنائية الاقتصادية، أثبتت حادثة إسقاط الطائرة الروسية أنَّ لتركيا دوراً تهديدياً للاستقرار في سوريا وفي المنطقة. وأن السياسات التي يتّبعها قادة حزب «العدالة والتنمية» هي سياسات مغامرة تهدّد المنطقة بمزيد من الحروب. فقد تحوّلت تركيا إلى طرف مباشر في الأزمة السورية، وعندما وجدت أنَّ المجموعات المعارضة التي تموّلها وتسلّحها في جبال التركمان تواجه التراجع، دقّت النفير الداخلي ولجأت إلى سياسة الهروب إلى الأمام عبر إسقاط الطائرة الروسية.

وهي سياسات تعكس مأزقاً في الوضع الميداني وفي الأفق السياسي ولا سيما بعد قرارات مؤتمر فيينا التي لم تشر إلى مسألة وضع الرئيس السوري بشار الأسد، والتي لا تحظى بارتياح تركيا وحلفائها.

وظائف «النموذج» وخساراته

في ميزان الربح والخسارة، وهي محصلة لم تنتهِ بعد بل من المبكر أن تنتهي قريباً، فإنَّه في مقابل إشباع غريزة الانتقام بإسقاط طائرة، فإنَّ تركيا تخسر على أكثر من صعيد.

أولاً: على الصعيد الاقتصادي تخسر روسيا، لكنَّها دولة كبرى وقادرة على التعويض، إلَّا أنَّ تركيا لا تستطيع أن تجد أسواقاً بديلة في وقت سريع، كذلك أن ينقل المستثمرون الروس أموالهم إلى أماكن أخرى، فيما المحصلة السياحية خسارة صافية لتركيا.

ثانياً: لقد بدا بعد أيام قليلة من إسقاط الطائرة، أنَّ الروس قد غيّروا قواعد اللعبة. واصلوا تشديد الهجمات في جبال التركمان بخلاف ما هدف إليه الأتراك، وبادر الروس، للمرة الأولى، إلى قصف أماكن تقع عند بوابات الحدود التركية مثل باب السلامة وباب الهوا. كما يعني أنَّ ما تسميه تركيا مشروع منطقة عازلة، وأشار اليه أردوغان بعد إسقاط الطائرة، لا محل له من الإعراب. أي انّ الروس قد وسّعوا منطقة النار لتشمل ما لم يكن يعتقد الأتراك أنَّ الروس سيستهدفونه. وبالتالي بدلاً من تعزيز منطقة عازلة تركية داخل سوريا، فإنَّ الروس هم الذين يوسعون منطقتهم على حساب التطلعات التركية.

ثالثاً: قصفت الطائرات الروسية مواقع للمعارضة دعماً لقوات الحماية الكردية، بما يعزّز التقارب الروسي مع الأكراد، وهو ما يغيظ أنقرة التي لا تتردّد عن إظهار كراهيتها العنصرية لأكرادها وأكراد سوريا في كل مناسبة. وفي حال مُضِي العلاقات الروسية ـ الكردية إلى مزيد من التعاون، فإنَّ السياسات التركية ستتلقّى المزيد من الخسائر.

رابعاً: لقد صعّد الرئيس بوتين حملته على صورة تركيا وإظهارها أنَّها داعمة للإرهاب. ومع أنَّ بوتين كان يلمح في قمة العشرين إلى 40 دولة بينها أعضاء في قمة العشرين، أنّها تدعم «داعش» والإرهاب، فإنّه بعد إسقاط الطائرة الروسية كسر الخطوط الحمر واتّهم أردوغان علناً بأنّه يدعم الإرهاب، وأنَّه يشتري النفط من «داعش»، وأنَّ إسقاط الطائرة هدفه دعم «داعش».

مع أنَّ الدعم التركي لـ «داعش» موثّق على امتداد الأزمة السورية، لكن أن يقول بوتين ذلك علناً، وللمرة الأولى، فهذا ينقل صورة تركيا من مستوى أدنى إلى مستوى أعلى، خصوصاً أنَّ هناك دولاً تتقدم، ولو بخجل، على طريق التعاون مع روسيا ضدّ «داعش» مثل فرنسا، لا بل إنَّ الطرح الروسي بدأ يلقى قبولاً من جانب فرنسا مع تصريح الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند عن ضرورة إغلاق الحدود التركية ـ السورية لمنع تسلّل الإرهابيين من سوريا عبر تركيا إلى أوروبا. كما أنَّ أيّ تنسيق بين فرنسا وروسيا بشأن «داعش»، سيكون على غير الموجة التركية بل مناوئة لها.

إنَّ تعزيز صورة تركيا الداعمة للإرهاب عبر دخول روسيا على موجة تظهير أكبر لهذه الصورة، هو من ملامح الخسارات التي تتلقاها تركيا بعد إسقاطها الطائرة الروسية.

خامساً: لقد أسقطت تركيا الطائرة الروسية وسرعان ما لجأت إلى حلف شمال الأطلسي لطلب الحماية والنجدة، كما لو أنَّ روسيا، وفقاً لبوتين، هي التي أسقطت طائرة تركية وليس العكس. وهذه مفارقة تعكس الرياء والنفاق التركي على قاعدة «قتل القتيل والمشي في جنازته».

هَرَعُ تركيا إلى حلف شمال الأطلسي ليس جديداً وليس غريباً، فهي عضو في الحلف وهي لجأت إليه مرّات عدّة أثناء الأزمة السورية. وبعد سقوط الطائرة التركية قبل ثلاث سنوات، وبعد سقوط قذائف سورية في الجانب التركي قبل سنوات، فإنَّ المسؤولين الأتراك حينها من غول إلى أردوغان إلى داود أوغلو وصفوا الحدود التركية بأنّها «حدود الأطلسي». وبذلك يمارس الأتراك لعبتهم المفضّلة: التورط والتدخل والتخريب ودعم الإرهاب، وحين يجدون أنفسهم في مأزق جدّي أو ليحرفوا الأنظار عن ممارساتهم أعلاه، يستنجدون بحلف شمال الأطلسي. وبذلك تثبت تركيا أنّها كيان لا يقوم على حماية نفسه بنفسه أي كيان ذو سيادة، بل هي كيان مستمر بقوة الحماية الأطلسية له. وحلف شمال الأطلسي لا يمانع في ذلك ما دامت تركيا، في الوقت ذاته، تنفّذ تعليمات الأطلسي وتخدم سياساته العسكرية والأمنية والسياسية. مسارعة تركيا إلى الاستنجاد بالأطلسي برغم ارتكابها هي حادثة إسقاط الطائرة وعدم تعرضها لاعتداء روسي، يؤكّد الدور الوظيفي لتركيا كأداة في خدمة المصالح الغربية والأطلسية وربطاً بها السياسات الإسرائيلية. إذ لا يمكن لعضو في حلف شمال الأطلسي أن يكون عدواً لإسرائيل، بل على العكس، إنَّ من مهام كل عضو في حلف شمال الأطلسي، وتركيا منهم، هو أن يكون بخدمة المصالح الإسرائيلية.

سادساً: إسقاط الطائرة الروسية لا يؤكّد فقط الدور الوظيفي الأطلسي للكيان التركي، بل الدور الوظيفي للإسلام التركي الذي يمثله حزب «العدالة والتنمية» (وليس التيارات الإسلامية الأخرى في تركيا). لقد وظّف حزب «العدالة والتنمية» النزعة الإسلامية للحزب ولقاعدته من أجل المصالح الغربية والإسرائيلية في تركيا والمنطقة والعالم. واستضاف «النموذج» التركي للإسلام السياسي، رئيس الكيان الإسرائيلي شمعون بيريز ليخطب العام 2007 أمام البرلمان التركي في سابقة لم يجرؤ، حتى العلمانيون والعسكريون، على القيام بها من قبل. وأمعن «النموذج» في تدمير الكيانات السياسية على اسس اتنية ومذهبية ودينية وقبلية وجهوية، خصوصاً في سوريا والعراق وليبيا واليمن ومصر، وفق خطاب عنصري وكراهية، بدلاً من السعي لتوحيد الموقف الإسلامي وحلّ النزاعات ومواجهة العدوانية الإسرائيلية. وكما كان تقسيم «سايكس - بيكو» في مطلع القرن العشرين مدخلاً لإقامة إسرائيل، فإن تفتيت المنطقة بخطاب «النموذج» التفتيتي هو المدخل في مطلع القرن الواحد والعشرين لترسيخ وجود الكيان الإسرائيلي.

  • فريق ماسة
  • 2015-11-27
  • 12501
  • من الأرشيف

الذئب الأغبر في مواجهة الدب الأكبر...بقلم محمد نور الدين

إنَّها القلوب الملآنة التي لم يستطع سيد أنقرة أن يخفيها. فبادر إلى إسقاط الطائرة الروسية لعلَّه يتجنَّب السقوط الكامل لمشروعه في سوريا. وعلى قاعدة «عليّ وعلى أعدائي»، جاء قرار إسقاط الطائرة ليبدأ مرحلة جديدة من تاريخ العلاقات بين تركيا وروسيا، ومن تاريخ الأزمة في سوريا. فما قبلها غير ما بعدها، ليس من اثنين يختلفان على ذلك. ما لم تتجرَّأ عليه دولة أطلسية على امتداد تاريخ حلف شمال الأطلسي، تجرَّأت عليه تركيا وأسقطت طائرة روسية في وضح النهار، يوم الثلاثاء الماضي. والإسقاط جاء أيضاً باعتراف رسميّ وبأنَّه من جانب المقاتلات التركية، وليس بصواريخ «أرض – جو» قد يجهّل فاعلها. بمعزل عن مكان إسقاط الطائرة وما إذا كان في المجال الجوي التركي أو المجال الجوي السوري، فإنَّ السهم قد خرج من القوس والواقعة حدثت والكلام سيكون لما بعد الحادثة وليس في مجرياتها. وحتّى لو اخترقت الطائرة الروسية المجال الجوي التركي، فهي ليست المرّة الأولى وليس الاختراق الدافع لإسقاطها. فلو أنَّ تركيا لم تسقط الطائرة، لم يكن ذلك ليغيّر الواقع. لذا، فإنَّ القرار هو قرار سياسي بامتياز والبحث عن إجابات بشأن دوافعه يقع في هذه الخانة. 1 ـ في الأيام التي سبقت إسقاط الطائرة، كانت القوّات السوريّة تتقدّم بشكل ملحوظ في المناطق الشمالية لريف اللاذقية، خصوصاً في مناطق جبل التركمان والأكراد والمحاذية للواء الإسكندرون. شعرت تركيا أنَّ احتمال خسارة المعارضة المسلحة لهذه المناطق، سيفقدها ورقة نفوذ في سوريا، لذا فقد رفعت الصوت غيرةً للدفاع عن الوجود التركماني في تلك المناطق، علماً أنَّ غالبية المسلحين هناك وفي مختلف جبهات القتال من العناصر الأجنبية. وقد تسارعت الاجتماعات الرسميّة الأمنيّة برئاسة رجب طيب أردوغان وداود أوغلو إلى دراسة التطوّرات الميدانيّة، وكانت تركيا على وشك التحرك لدى الأمم المتحدة والحلف الأطلسي لرفع الصوت. ومن ثمّ حدث إسقاط الطائرة الروسية في رسالة مباشرة لروسيا بأن توقف دعمها، وبالتالي تقدّم الجيش السوري في تلك المنطقة. ربَّما لا تستطيع تركيا منع تقدم الجيش السوري، لكنّها ستحدث وفقاً لحساباتها ارتباكاً وتبديلاً في طبيعة الحركة الروسية بما يمنح المعارضة السورية وقتاً إضافياً لصدّ الهجوم السوري ـ الروسي. إذا كان هذا هو السبب المباشر لإسقاط الطائرة الروسية، فإنَّ القرار بإسقاطها يكون تركياً فقط مع وضع الولايات المتحدة في مناخ القرار. وبالتالي تتحمَّل أنقرة المسؤولية مع دعم اميركي لاحق، إذا تطلّب الأمر. ٢ ـ قبل يوم واحد فقط من حادثة الطائرة، كان ينعقد في طهران لقاء تاريخي بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والمرشد الأعلى للثورة الإيرانية السيد علي خامنئي. وكان لقاءً غير مسبوق، وفي ذروة الصعود الروسي في المنطقة والعالم، وبعد خروج إيران من دائرة الضغوط بعد توقيع الاتفاق النووي. كان اللقاء بمثابة إعلان حلف إقليمي وعالمي جديد ينبئ برسم ملامح جديدة لخريطة المنطقة. ولا شكّ أنَّ هذا كان سينعكس بشكل كبير على الأزمة في سوريا، ولاحقاً في العراق والمنطقة والعالم. إذا كان إسقاط الطائرة الروسية رسالة ردّ على التحالف الروسي ـ الإيراني، فهذا أكبر من قدرة تركيا على أن تواجه أو تقرّر بمفردها القيام بخطوة مضادة لهذا الحلف، ولا بدّ أن يكون القرار أميركياً بالتحديد، على أن تكون أداة التنفيذ تركية، تصبّ، في الوقت ذاته، في الهدف التركي الميداني بشأن ريف اللاذقية. ٣ ـ بموازاة هذين الهدفين المباشرين الأساسيين، فإنَّ مجموعة عوامل تدخل في تشكيل الظروف لإسقاط الطائرة، من ذلك شعور تركيا وأميركا بجدية محاربة روسيا للإرهاب، ولا سيّما ضرب مصادر تمويله مثل قصف صهاريج النفط التي يصدّرها «داعش» إلى تركيا، وهو ما لا ينسجم مع حماية أنقرة والغرب لـ«داعش»، بخلاف كل ما يقولونه. هذه الحادثة غير المسبوقة، وضعت تحت الامتحان الصعب جداً الرئيس الروسي، خصوصاً أنَّه يحلّق عالياً كالرجل الأكثر قوّة في العالم. لقد نزلت روسيا إلى الميدان السوري للمرة الأولى في تاريخها منذ قرون. وأيّ نكسة في طبيعة هذا الحضور، ستكون له آثاره السلبية جداً عليها. لذا، فإنَّ روسيا ستكون مطالبة بأن تؤكّد على نجاح خطوتها وإبراز قوّتها في لحظة حسّاسة من الصراع الإقليمي والعالمي. أن تقوم دولة صغيرة أو على الأكثر متوسطة القوة، بالتحرّش بدولة كبرى مثل روسيا وبمكيدة مدبرة، فهذا من الناحية النفسية أمر غير مقبول البتّة. ففي العلاقات الدولية، تراعي الدول، حتى لو كانت مختلفة في ما بينها، لياقات وخطوطا حمرا وما إلى ذلك. فلا يذكر التاريخ الحديث مثلاً أيّ صدامات مقصودة ثنائية بين تركيا وإيران، لكنهما يتقاتلان بالوكالة أينما أمكن لهما ذلك. الأمر ذاته مثلاً ينطبق على السعودية وإيران. فكيف إذا كان الأمر بين دولتين بينهما شراكات اقتصادية ونووية، ولهما حدود جغرافية مشتركة مثل تركيا وروسيا؟ هذا العامل هو الذي يضع إسقاط الطائرة الروسية من قبل تركيا، مفاجئاً وفي خانة أقل ما توصف بـ «الغدر»، خصوصاً أنه لا مبرّر أبداً لإسقاطها حتى لو كانت اخترقت المجال الجوي التركي. ولو أنَّ تركيا تطبق هذه القاعدة دائماً، لنشبت الحرب بينها وبين اليونان وبينها وبين سوريا والعراق وما إلى ذلك. لكن أن تطبّق تركيا هذه القاعدة الآن على روسيا، فهو ما لا يمكن أن تهضمه روسيا بأيّ مقياس. يقال الكثير عن طريقة تفكير الدول الكبرى بعقلية استراتيجية وباردة ومحكمة. لكن إضافة إلى ذلك، فإنَّ هناك ما يدخل في باب الكرامة الوطنية التي تستدعي رداً سريعاً ومباشراً بمعزل عن النتائج. لذا، فالمتوقع أنَّ روسيا ستمارس حق الردّ السريع والمباشر، لكن بعد أن تستكمل نشر منظومات الصواريخ التي أعلنت عنها مثل «أس 400» وغيرها. والردّ السريع موجود في العلاقات الدولية. إسرائيل مثلاً، كانت تردّ على صواريخ أو عملية لـ «حزب الله» بقصف فوري هنا أو هناك. ردّ إسرائيل على عملية أخذ رهائن إسرائيليين عشية حرب تموز، انتهى إلى عدوان تموز. «حزب الله» كان يردّ أيضاً على عمليات إسرائيلية. ردّ الولايات المتحدة على هجوم 11 أيلول، كان غزو أفغانستان. ردّ فرنسا على هجمات باريس الأخيرة، كان غارات متلاحقة على مواقع «داعش» في سوريا.. في غزة كذلك الأمثلة متشابهة. إسقاط الطائرة الروسية اليوم، لا يقلّ لناحية تأثيراته ودلالاته عن أيّ هجوم تركي واسع على روسيا. لذا، فإنَّ الردّ السريع هو أكثر من ضروري لاستعادة الهيبة الروسية التي اهتزت بشدة من جراء «تهويش» الذئب الأغبر على الدب الأكبر وإصابته بخدوش بل جراح (في النهاية قتل طيار روسي). وهذا الردّ السريع لا علاقة له بالردود الاستراتيجية التي يجب أن توضع لوضع البعض عند حدّهم. وخلال ذلك، فإنَّ بوتين يكون قد تلقّى هدفاً، فيما هو مطالب ليس فقط بتسجيل هدف التعادل بل هدف الفوز. في الردود الاستراتيجيّة يتوقّف الردّ الاستراتيجي الروسي على إسقاط الطائرة، على طبيعة تقدير القيادة الروسية لأسباب الحادثة. - إذا كان تقدير الروس أنَّ الحادثة فردية من صنع تركيا فقط ولو بأخذ علم أميركي والهدف هو التطورات الميدانية في سوريا، فإنَّ الردّ الروسي هو في إفشال الغاية التركيّة من خلال تكثيف العمل الميداني والعمل على تحرير ما تبقى من أراضٍ في ريف اللاذقية وصولاً إلى تحرير كامل المنطقة المحاذية للحدود التركية في لواء الاسكندرون وإغلاق الحدود على تسلل الإرهابيين من تركيا. بالطبع، هذا يستلزم جهداً مضاعفاً. ولكن ليس أمام موسكو ودمشق وطهران أيّ وسيلة أخرى إلَّا هذه للردّ على إهانة اسقاط الطائرة الروسية. وبلوغ هذا الهدف، يعني دفن حلم إقامة المنطقة العازلة في سوريا التي لا يزال يأمل فيها حكام أنقرة. - أما إذا كان تقدير القيادة الروسية أنَّ أميركا هي التي أمرت بإسقاط الطائرة من أجل مواجهة الحلف الروسي - الإيراني الجديد، وان التركي لم يكن سوى أداة، فإنَّ الردّ يفترض أن يأخذ بالاعتبار البعد الأميركي من الحادثة، وبالتالي أن يكون الردّ أكثر استراتيجية وشمولية واتساعاً وبمشاركة روسيا وكل حلفائها. وأن يكون أيضاً من بين خطوات الردّ الحتمية، تكثيف العمل الميداني في المناطق المجاورة للواء الاسكندرون وشمال حلب تمهيداً لتطهيرها من كل المرتزقة والإرهابيين المدعومين من وراء الحدود. - العلاقات الثنائية: توجّهت الأنظار مباشرة إلى العلاقات الاقتصادية بين البلدين ومدى فعالية اتخاذ روسيا إجراءات عقابية ضدّ تركيا على الصعيد الاقتصادي. فالميزان التجاري بين البلدين يبلغ 31 مليار دولار منها 25 ملياراً صادرات روسية مقابل 6 مليارات صادرات تركية. ثلثا الصادرات الروسية غاز طبيعي ونفط والباقي منتجات معدنية وزراعية وغذائية وكيميائية. بينما يتركز التصدير التركي على منتجات زراعية وحيوانية ونسيجية ومحركات ومواد كيميائية ومواد بلاستيكية وكاوتشوك. الإجراء الروسي الأقوى، يمكن أن يكون في قطع إمدادات الغاز فجأة ولأسباب مبررة جداً، مثل التأخير عن تسديد المدفوعات. هل تفعل روسيا ذلك مع دخول تركيا فصل الشتاء والثلوج؟ ما يرشّح في تركيا، أنَّ إجراءات تضييقية روسيّة بدأت على الصادرات التركية من لحوم دجاج وخضار وفاكهة بحجة عدم المطابقة مع المواصفات. لكن التأثير الأقرب، سيكون على وقف تلزيم المشاريع ولا سيّما في قطاع البناء لشركات تركية. وهذا يعني أنَّ ما قيمته 60 مليار دولار من استثمارات تركية في روسيا، ستكون أمام خطر التوقف ولو التدريجي. طبعاً هذا يعني وقف اليد العاملة الروسية فيها أيضاً. لكن في حسابات الربح والخسارة، قد تكون تركيا هي الخاسرة أكثر. خسارة مؤكدة لتركيا من دون تأثّر روسي هو في وقف تدفق السياح الروس إلى تركيا الذين يقدرون سنوياً بخمسة ملايين بعدما كانوا سابقاً سبعة ملايين، أي ثاني رقم بعد السياح الألمان. خمسة ملايين سائح روسي، يعني بلغة المال حوالي خمسة مليارات دولار سيخسرها القطاع السياحي التركي، ويمكن للسائحات والسائحين الروس أن يتمتّعوا بأشعة الشمس في اليونان وتونس وبلغاريا وإيطاليا، بدلاً من تركيا. خارج حسابات العلاقات الثنائية الاقتصادية، أثبتت حادثة إسقاط الطائرة الروسية أنَّ لتركيا دوراً تهديدياً للاستقرار في سوريا وفي المنطقة. وأن السياسات التي يتّبعها قادة حزب «العدالة والتنمية» هي سياسات مغامرة تهدّد المنطقة بمزيد من الحروب. فقد تحوّلت تركيا إلى طرف مباشر في الأزمة السورية، وعندما وجدت أنَّ المجموعات المعارضة التي تموّلها وتسلّحها في جبال التركمان تواجه التراجع، دقّت النفير الداخلي ولجأت إلى سياسة الهروب إلى الأمام عبر إسقاط الطائرة الروسية. وهي سياسات تعكس مأزقاً في الوضع الميداني وفي الأفق السياسي ولا سيما بعد قرارات مؤتمر فيينا التي لم تشر إلى مسألة وضع الرئيس السوري بشار الأسد، والتي لا تحظى بارتياح تركيا وحلفائها. وظائف «النموذج» وخساراته في ميزان الربح والخسارة، وهي محصلة لم تنتهِ بعد بل من المبكر أن تنتهي قريباً، فإنَّه في مقابل إشباع غريزة الانتقام بإسقاط طائرة، فإنَّ تركيا تخسر على أكثر من صعيد. أولاً: على الصعيد الاقتصادي تخسر روسيا، لكنَّها دولة كبرى وقادرة على التعويض، إلَّا أنَّ تركيا لا تستطيع أن تجد أسواقاً بديلة في وقت سريع، كذلك أن ينقل المستثمرون الروس أموالهم إلى أماكن أخرى، فيما المحصلة السياحية خسارة صافية لتركيا. ثانياً: لقد بدا بعد أيام قليلة من إسقاط الطائرة، أنَّ الروس قد غيّروا قواعد اللعبة. واصلوا تشديد الهجمات في جبال التركمان بخلاف ما هدف إليه الأتراك، وبادر الروس، للمرة الأولى، إلى قصف أماكن تقع عند بوابات الحدود التركية مثل باب السلامة وباب الهوا. كما يعني أنَّ ما تسميه تركيا مشروع منطقة عازلة، وأشار اليه أردوغان بعد إسقاط الطائرة، لا محل له من الإعراب. أي انّ الروس قد وسّعوا منطقة النار لتشمل ما لم يكن يعتقد الأتراك أنَّ الروس سيستهدفونه. وبالتالي بدلاً من تعزيز منطقة عازلة تركية داخل سوريا، فإنَّ الروس هم الذين يوسعون منطقتهم على حساب التطلعات التركية. ثالثاً: قصفت الطائرات الروسية مواقع للمعارضة دعماً لقوات الحماية الكردية، بما يعزّز التقارب الروسي مع الأكراد، وهو ما يغيظ أنقرة التي لا تتردّد عن إظهار كراهيتها العنصرية لأكرادها وأكراد سوريا في كل مناسبة. وفي حال مُضِي العلاقات الروسية ـ الكردية إلى مزيد من التعاون، فإنَّ السياسات التركية ستتلقّى المزيد من الخسائر. رابعاً: لقد صعّد الرئيس بوتين حملته على صورة تركيا وإظهارها أنَّها داعمة للإرهاب. ومع أنَّ بوتين كان يلمح في قمة العشرين إلى 40 دولة بينها أعضاء في قمة العشرين، أنّها تدعم «داعش» والإرهاب، فإنّه بعد إسقاط الطائرة الروسية كسر الخطوط الحمر واتّهم أردوغان علناً بأنّه يدعم الإرهاب، وأنَّه يشتري النفط من «داعش»، وأنَّ إسقاط الطائرة هدفه دعم «داعش». مع أنَّ الدعم التركي لـ «داعش» موثّق على امتداد الأزمة السورية، لكن أن يقول بوتين ذلك علناً، وللمرة الأولى، فهذا ينقل صورة تركيا من مستوى أدنى إلى مستوى أعلى، خصوصاً أنَّ هناك دولاً تتقدم، ولو بخجل، على طريق التعاون مع روسيا ضدّ «داعش» مثل فرنسا، لا بل إنَّ الطرح الروسي بدأ يلقى قبولاً من جانب فرنسا مع تصريح الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند عن ضرورة إغلاق الحدود التركية ـ السورية لمنع تسلّل الإرهابيين من سوريا عبر تركيا إلى أوروبا. كما أنَّ أيّ تنسيق بين فرنسا وروسيا بشأن «داعش»، سيكون على غير الموجة التركية بل مناوئة لها. إنَّ تعزيز صورة تركيا الداعمة للإرهاب عبر دخول روسيا على موجة تظهير أكبر لهذه الصورة، هو من ملامح الخسارات التي تتلقاها تركيا بعد إسقاطها الطائرة الروسية. خامساً: لقد أسقطت تركيا الطائرة الروسية وسرعان ما لجأت إلى حلف شمال الأطلسي لطلب الحماية والنجدة، كما لو أنَّ روسيا، وفقاً لبوتين، هي التي أسقطت طائرة تركية وليس العكس. وهذه مفارقة تعكس الرياء والنفاق التركي على قاعدة «قتل القتيل والمشي في جنازته». هَرَعُ تركيا إلى حلف شمال الأطلسي ليس جديداً وليس غريباً، فهي عضو في الحلف وهي لجأت إليه مرّات عدّة أثناء الأزمة السورية. وبعد سقوط الطائرة التركية قبل ثلاث سنوات، وبعد سقوط قذائف سورية في الجانب التركي قبل سنوات، فإنَّ المسؤولين الأتراك حينها من غول إلى أردوغان إلى داود أوغلو وصفوا الحدود التركية بأنّها «حدود الأطلسي». وبذلك يمارس الأتراك لعبتهم المفضّلة: التورط والتدخل والتخريب ودعم الإرهاب، وحين يجدون أنفسهم في مأزق جدّي أو ليحرفوا الأنظار عن ممارساتهم أعلاه، يستنجدون بحلف شمال الأطلسي. وبذلك تثبت تركيا أنّها كيان لا يقوم على حماية نفسه بنفسه أي كيان ذو سيادة، بل هي كيان مستمر بقوة الحماية الأطلسية له. وحلف شمال الأطلسي لا يمانع في ذلك ما دامت تركيا، في الوقت ذاته، تنفّذ تعليمات الأطلسي وتخدم سياساته العسكرية والأمنية والسياسية. مسارعة تركيا إلى الاستنجاد بالأطلسي برغم ارتكابها هي حادثة إسقاط الطائرة وعدم تعرضها لاعتداء روسي، يؤكّد الدور الوظيفي لتركيا كأداة في خدمة المصالح الغربية والأطلسية وربطاً بها السياسات الإسرائيلية. إذ لا يمكن لعضو في حلف شمال الأطلسي أن يكون عدواً لإسرائيل، بل على العكس، إنَّ من مهام كل عضو في حلف شمال الأطلسي، وتركيا منهم، هو أن يكون بخدمة المصالح الإسرائيلية. سادساً: إسقاط الطائرة الروسية لا يؤكّد فقط الدور الوظيفي الأطلسي للكيان التركي، بل الدور الوظيفي للإسلام التركي الذي يمثله حزب «العدالة والتنمية» (وليس التيارات الإسلامية الأخرى في تركيا). لقد وظّف حزب «العدالة والتنمية» النزعة الإسلامية للحزب ولقاعدته من أجل المصالح الغربية والإسرائيلية في تركيا والمنطقة والعالم. واستضاف «النموذج» التركي للإسلام السياسي، رئيس الكيان الإسرائيلي شمعون بيريز ليخطب العام 2007 أمام البرلمان التركي في سابقة لم يجرؤ، حتى العلمانيون والعسكريون، على القيام بها من قبل. وأمعن «النموذج» في تدمير الكيانات السياسية على اسس اتنية ومذهبية ودينية وقبلية وجهوية، خصوصاً في سوريا والعراق وليبيا واليمن ومصر، وفق خطاب عنصري وكراهية، بدلاً من السعي لتوحيد الموقف الإسلامي وحلّ النزاعات ومواجهة العدوانية الإسرائيلية. وكما كان تقسيم «سايكس - بيكو» في مطلع القرن العشرين مدخلاً لإقامة إسرائيل، فإن تفتيت المنطقة بخطاب «النموذج» التفتيتي هو المدخل في مطلع القرن الواحد والعشرين لترسيخ وجود الكيان الإسرائيلي.

المصدر : الماسة السورية


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة