مضى وقت غير قليل منذ أن استضاف برنامج تلفزيوني حواري أحد نواب أو مسؤولي حزب الله. وكأن قراراً ما قد جرى اتخاذه في لحظة سياسية ماضية قضى بسحبهم من التداول وجرى الالتزام به بانضباط ليس غريباً البتة على الحزب. هم يطلّون على الشعب اللبناني لماماً خلال احتفالات تأبين الشهداء أو حتى لدقائق بعيد خروجهم من لقاء الأربعاء النيابي.

يبدو أن هذا القرار المفترض جرى اتخاذه في لحظة الاشتباك السياسي الداخلي الأكثر التهاباً والتي خلص فيها الحزب إلى أن خصومه يستغلون الحوارات المتلفزة فقط لتأجيج الشحن المذهبي عبر كيل التهم والشتائم بعيداً عن همّ الخروج بخلاصات ذات معنى. ربما شكّل هذا تأخراً بعض الشيء في التسليم بأن الحوار في لبنان يأخذ طابعاً اشتباكياً، والشتائم بالتالي هي مجرد طرق مختصرة لقهر الآخر المختلف، وهي ليست مغايرة مضموناً حتى عن الاستعراض الأكثر رصانة للحقائق، لأن كليهما، أي الشتائم والحقائق، ليستا بطاقة مرور للإقناع والاقتناع على السواء.

يتكلم الأمين العام بشكل شبه حصري باسم الحزب، يشاركه في ذلك بدرجة أقل بعض المسؤولين والبيانات الحزبية المقتضبة. لكن ذلك ليس كافياً لملء الفراغ في المقعد المقابل والفارغ في اللقاءات الإعلامية، لذلك ازدهر حضور نخبة من الإعلاميين والمحللين السياسيين الذين يتصدون بطبيعة الحال لمهمة الدفاع عن سياسات الحزب من دون أن يكون لهم ارتباط عضوي به. حضور هذه النخبة، التي يؤدي بعضها أدواراً ناجحة، يسد الفراغ الإعلامي عملياً، ولكنه بالأساس يجب أن يؤدي دوراً مكملاً لا يعفي من سؤال الغياب الأم وقرار التواري عن الأنظار بهذه الحجة أو تلك. كيف أمكن لحزب بارز ومؤثر في لبنان والإقليم أن يستجيب بالسالب للتحدي الإعلامي؟ وما هي الرسالة التي يوجهها لخصومه ولأصدقائه على السواء؟ في عصر تتحكم فيه الماكينات الإعلامية بمعادلات القوة الناعمة والصلبة معاً ويشكل الخطاب المحكم الأداة الأكثر فاعلية لتثبيت الحضور، كيف يمكن قبول أن يكون الصمت والتواري سياسة منهجية؟

يس بعيداً أن يكون سبب اتخاذ الحزب لقرار كهذا يعود ببساطة إلى قدرته على ذلك. من المرجح أن سائر الأفرقاء يرغبون بالمثل ليكون خطابهم محكماً ومقتضباً بحيث يصعب الوقوع في المطبات. فليس واضحاً أن تيار المستقبل كان سعيداً إزاء مداخلات النائب خالد الضاهر الوطنية أو أن التيار الوطني الحر ينتشي عموماً بمطالعات النائب السابق ماريو عون الدستورية. ربما الجميع يريد ما يريده الحزب، إلا أن الأخير هو الوحيد الذي يقدر على وضع إرادته موضع التنفيذ. ينطوي ذلك على نظرة لبنانية خالصة إلى الحوار بوصفه ممارسة رياضية تَرَفية للخطاب السياسي، من دون أن يكون مختبراً للمقولات وقدرتها على الصمود بوجه نقيضها، وتالياً فإن حضور مسؤولي الأحزاب في اللقاءات المتلفزة هو نوع من تبيان للحقائق «المعروفة سلفاً»، واضطراب أي من المسؤولين في معرض حوار هو عدم أهلية المسؤول بعينه ولا يعد انتقاصاً من بنية الخطاب وتماسكه. من نافل القول إن هذه النظرة هي ممارسة لبنانية طورتها الأحزاب لأكثر من سبب، أبرزها غياب المساءلة الشعبية والحس النقدي لدى المتلقي لمصلحة استعداده المزمن للاستقطاب الطائفي. إذاً، من غير المنطقي أن يعمد حزب الله بالتحديد إلى المراهنة على وعي المشاهد وقدرته على التمييز بين خطابين أحدهما متهافت، ما دامت نزاهة هذا المشاهد تسقط عند أول استنفار طائفي. يضاف إلى ذلك، ربما، بنية الحزب العسكرية ذاتها التي تساعد على ترجيح أولوية عدم الوقوع في الخطأ على التغاضي عن بعض الأخطاء والهفوات لمصلحة التلاقح والتحاجج الذي يساعد على صقل الخطاب وإنضاج طريقة طرحه في العلن على أقل تقدير. لا يغيب أيضاً أن من العوامل الحاسمة التي قد تكون ساهمت في تغييب النواب والمسؤولين عن اللقاءات المتلفزة يعود إلى درجة الجدية المحدودة التي يتعاطى فيها الحزب في الملفات الداخلية اللبنانية والتي تختصر بالمقاربات التسكينية البعيدة عن الطروحات الجذرية. إنه إذاً المطلب المزمن الذي يطرق الكثيرون عبثاً باب الحزب بشأنه منذ التحرير عام 2000 مطالبين بإيلاء المسألة الداخلية أهمية معتبرة. تزدحم هذه الأيام الملفات الداخلية والاستحقاقات الخارجية على السواء، وللمفارقة فإن مواصلة سياسة تعليق الهموم الداخلية بداعي الأولويات تبدو مسوغة تماماً راهناً بسبب تزامن استفحال التحديات الخارجية معاً.

لكن يبقى أن المراقب الداخلي والخارجي على السواء قد يخلص إلى أن الانسحاب الرسمي من الساحة الإعلامية مردّه إلى أن خطاب الحزب لا يستقيم حين يتم إنزاله من سماء الشعارات والمبادئ (التي، وللمناسبة، دفع الحزب ويدفع الكثير للحفاظ عليها) وتجزئته إلى مواد أولية تصلح لحوار سياسي وإعلامي تفصيلي، وقد يعطي انطباعاً خاطئاً بأن استخدام تكتيك المدافعين غير الرسميين عن الحزب معناه أن الحزب يريد أن يدافع عن سياساته من دون أن يتورط رسمياً في الفشل المحتمل لحججه. وبعيداً عن ذلك، للجميع الحق في أن يسمعوا وجهة نظر الحزب الرسمية بوضوح إزاء الملفات الداخلية والإقليمية، ولا يصح أن يقتصر التواصل اليومي على نافلة «المصادر المطلعة» التي تطالعنا بها الصحف، والتي يحدث أن تكون مختلقة تماماً، فضلاً عن الالتباسسات التي يثيرها الصحيح منها. إن من يخرج إلى ساحات التحدي والمواجهة شاهراً دمه، أولى بأن يشهر حضوراً رسمياً إعلامياً موازياً ليدافع عن طروحاته بعيداً عن التحسّس غير المجدي في هذا السياق من الفتنة المذهبية.
  • فريق ماسة
  • 2015-08-20
  • 13008
  • من الأرشيف

أين هم نواب حزب الله؟

مضى وقت غير قليل منذ أن استضاف برنامج تلفزيوني حواري أحد نواب أو مسؤولي حزب الله. وكأن قراراً ما قد جرى اتخاذه في لحظة سياسية ماضية قضى بسحبهم من التداول وجرى الالتزام به بانضباط ليس غريباً البتة على الحزب. هم يطلّون على الشعب اللبناني لماماً خلال احتفالات تأبين الشهداء أو حتى لدقائق بعيد خروجهم من لقاء الأربعاء النيابي. يبدو أن هذا القرار المفترض جرى اتخاذه في لحظة الاشتباك السياسي الداخلي الأكثر التهاباً والتي خلص فيها الحزب إلى أن خصومه يستغلون الحوارات المتلفزة فقط لتأجيج الشحن المذهبي عبر كيل التهم والشتائم بعيداً عن همّ الخروج بخلاصات ذات معنى. ربما شكّل هذا تأخراً بعض الشيء في التسليم بأن الحوار في لبنان يأخذ طابعاً اشتباكياً، والشتائم بالتالي هي مجرد طرق مختصرة لقهر الآخر المختلف، وهي ليست مغايرة مضموناً حتى عن الاستعراض الأكثر رصانة للحقائق، لأن كليهما، أي الشتائم والحقائق، ليستا بطاقة مرور للإقناع والاقتناع على السواء. يتكلم الأمين العام بشكل شبه حصري باسم الحزب، يشاركه في ذلك بدرجة أقل بعض المسؤولين والبيانات الحزبية المقتضبة. لكن ذلك ليس كافياً لملء الفراغ في المقعد المقابل والفارغ في اللقاءات الإعلامية، لذلك ازدهر حضور نخبة من الإعلاميين والمحللين السياسيين الذين يتصدون بطبيعة الحال لمهمة الدفاع عن سياسات الحزب من دون أن يكون لهم ارتباط عضوي به. حضور هذه النخبة، التي يؤدي بعضها أدواراً ناجحة، يسد الفراغ الإعلامي عملياً، ولكنه بالأساس يجب أن يؤدي دوراً مكملاً لا يعفي من سؤال الغياب الأم وقرار التواري عن الأنظار بهذه الحجة أو تلك. كيف أمكن لحزب بارز ومؤثر في لبنان والإقليم أن يستجيب بالسالب للتحدي الإعلامي؟ وما هي الرسالة التي يوجهها لخصومه ولأصدقائه على السواء؟ في عصر تتحكم فيه الماكينات الإعلامية بمعادلات القوة الناعمة والصلبة معاً ويشكل الخطاب المحكم الأداة الأكثر فاعلية لتثبيت الحضور، كيف يمكن قبول أن يكون الصمت والتواري سياسة منهجية؟ يس بعيداً أن يكون سبب اتخاذ الحزب لقرار كهذا يعود ببساطة إلى قدرته على ذلك. من المرجح أن سائر الأفرقاء يرغبون بالمثل ليكون خطابهم محكماً ومقتضباً بحيث يصعب الوقوع في المطبات. فليس واضحاً أن تيار المستقبل كان سعيداً إزاء مداخلات النائب خالد الضاهر الوطنية أو أن التيار الوطني الحر ينتشي عموماً بمطالعات النائب السابق ماريو عون الدستورية. ربما الجميع يريد ما يريده الحزب، إلا أن الأخير هو الوحيد الذي يقدر على وضع إرادته موضع التنفيذ. ينطوي ذلك على نظرة لبنانية خالصة إلى الحوار بوصفه ممارسة رياضية تَرَفية للخطاب السياسي، من دون أن يكون مختبراً للمقولات وقدرتها على الصمود بوجه نقيضها، وتالياً فإن حضور مسؤولي الأحزاب في اللقاءات المتلفزة هو نوع من تبيان للحقائق «المعروفة سلفاً»، واضطراب أي من المسؤولين في معرض حوار هو عدم أهلية المسؤول بعينه ولا يعد انتقاصاً من بنية الخطاب وتماسكه. من نافل القول إن هذه النظرة هي ممارسة لبنانية طورتها الأحزاب لأكثر من سبب، أبرزها غياب المساءلة الشعبية والحس النقدي لدى المتلقي لمصلحة استعداده المزمن للاستقطاب الطائفي. إذاً، من غير المنطقي أن يعمد حزب الله بالتحديد إلى المراهنة على وعي المشاهد وقدرته على التمييز بين خطابين أحدهما متهافت، ما دامت نزاهة هذا المشاهد تسقط عند أول استنفار طائفي. يضاف إلى ذلك، ربما، بنية الحزب العسكرية ذاتها التي تساعد على ترجيح أولوية عدم الوقوع في الخطأ على التغاضي عن بعض الأخطاء والهفوات لمصلحة التلاقح والتحاجج الذي يساعد على صقل الخطاب وإنضاج طريقة طرحه في العلن على أقل تقدير. لا يغيب أيضاً أن من العوامل الحاسمة التي قد تكون ساهمت في تغييب النواب والمسؤولين عن اللقاءات المتلفزة يعود إلى درجة الجدية المحدودة التي يتعاطى فيها الحزب في الملفات الداخلية اللبنانية والتي تختصر بالمقاربات التسكينية البعيدة عن الطروحات الجذرية. إنه إذاً المطلب المزمن الذي يطرق الكثيرون عبثاً باب الحزب بشأنه منذ التحرير عام 2000 مطالبين بإيلاء المسألة الداخلية أهمية معتبرة. تزدحم هذه الأيام الملفات الداخلية والاستحقاقات الخارجية على السواء، وللمفارقة فإن مواصلة سياسة تعليق الهموم الداخلية بداعي الأولويات تبدو مسوغة تماماً راهناً بسبب تزامن استفحال التحديات الخارجية معاً. لكن يبقى أن المراقب الداخلي والخارجي على السواء قد يخلص إلى أن الانسحاب الرسمي من الساحة الإعلامية مردّه إلى أن خطاب الحزب لا يستقيم حين يتم إنزاله من سماء الشعارات والمبادئ (التي، وللمناسبة، دفع الحزب ويدفع الكثير للحفاظ عليها) وتجزئته إلى مواد أولية تصلح لحوار سياسي وإعلامي تفصيلي، وقد يعطي انطباعاً خاطئاً بأن استخدام تكتيك المدافعين غير الرسميين عن الحزب معناه أن الحزب يريد أن يدافع عن سياساته من دون أن يتورط رسمياً في الفشل المحتمل لحججه. وبعيداً عن ذلك، للجميع الحق في أن يسمعوا وجهة نظر الحزب الرسمية بوضوح إزاء الملفات الداخلية والإقليمية، ولا يصح أن يقتصر التواصل اليومي على نافلة «المصادر المطلعة» التي تطالعنا بها الصحف، والتي يحدث أن تكون مختلقة تماماً، فضلاً عن الالتباسسات التي يثيرها الصحيح منها. إن من يخرج إلى ساحات التحدي والمواجهة شاهراً دمه، أولى بأن يشهر حضوراً رسمياً إعلامياً موازياً ليدافع عن طروحاته بعيداً عن التحسّس غير المجدي في هذا السياق من الفتنة المذهبية.

المصدر : الاخبار/ أيمن عقيل


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة