لا يمكن للعلاقة التركية - «الداعشية» أن تبقى غامضة إلى أجلٍ غير مسمّى، وفق ما يشتهي الأتراك. فموعد الاستحقاق يقترب سريعاً، وسيكون على أنقرة أن تختار: «داعش» صديق أم عدوّ أم عدوّ العدو؟

 حتى اليوم، يرفض الأتراك وضع قاعدة أنجرليك الجوية، جنوب تركيا، في تَصرّف الطيران الحليف العامل ضد «داعش»... بغضّ النظر عن أنّ ضربات الأميركيين وحلفائهم لا قيمة لها في القضاء على «داعش».

 لا يريد الأتراك حتى المشاركة في الضربات التي ستؤدي إلى تكريس الحدود المرسومة لـ»الدولة الإسلامية»، فلا تتجاوزها إلى مناطق ليست لها كردية كانت أو شيعية أو علوية أو حتى سنيّة... في العراق وسوريا.

 وحتى اليوم، بقيَت تركيا الداعم الإقليمي الأوّل لـ«داعش»، فيما الدعم الذي تتلقّاه من دول عربية معروفة يبقى محدوداً ومحدّداً بالمال. أمّا الأتراك فيقدمون لـ«داعش» دعماً بالسلاح والعناصر واللوجستية.

 ويُدرك الأميركيون وسائر القوى الإستخبارية الدولية ذلك. وفي نهاية شباط الفائت، أكد رئيس الاستخبارات الأميركية جيمس كلابر، أثناء جلسة استماع أمام لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ، أنّ محاربة «داعش» ليست أولوية لتركيا.

 وكشفَ أنّ 60 في المئة من مقاتلي «داعش» الأجانب يَصِلون سوريا عبر تركيا بسبب «الأجواء المُتساهلة». وتحدّثَ عن استطلاعات في تركيا تؤكّد أنّ الأتراك لا يعتبرون «داعش» «تهديداً رئيسياً، وأنّ النزعة الانفصالية الكردية هي أكثر أهمية لهم».

 وهذه المعلومات تواكبها معطيات، مصدرها قوى تركية معارضة وكردية من الداخل التركي، تقدِّم تفاصيل وافية ودلائل ملموسة إلى وجود دعم تركي رسمي لـ»داعش» مباشرة، على مستوى التسليح والتدريب وتقديم التسهيلات اللوجستية وتوفير الدعم المالي من خلال شراء النفط في السوق السوداء.

 وتمرِّر تركيا عناصر «داعش» إلى سوريا وتوفِّر الطبابة للمُصابين، وتقوم بالتدخّل العسكري المباشر لمصلحة «داعش» في بعض المواقع الحدودية، ولا سيما في عين العرب - كوباني، حيث ينظر الأتراك بعَين القلق إلى احتمال نشوء كيان كردي يتمتّع بالحكم الذاتي، ويريدون تجنُّب هذه الكأس المرّة مهما كلَّف ذلك من أثمان. ففي اقتناعهم أنّ حدثاً من هذا النوع سيكون كارثياً على وحدة تركيا ذاتها.

 وأعلن أعضاء بارزون من «حزب العدالة والتنمية»، مراراً، تعاطفهم مع «داعش». ونقلت صحيفة «حرية» التركية عن هؤلاء، العام الفائت، إطلاق بعض المسؤولين الحكوميين الكبار كلمات إطراء وإعجاب بهذا التنظيم وعناصره «الذين هم مثلنا يقاتلون سَبع قوى عظمى في حرب الاستقلال... والأفضل أن تكون الدولة الإسلامية جارة لنا بدلاً عن حزب العمّال الكردستاني الإرهابي».

ووفق مسؤولي حزب الشعب الجمهوري التركي المعارض، يتمُّ عبور الأجانب إلى «داعش» في سوريا، عبر تركيا، مُوارَبة. فالمقاتلون يتمّ مَنحهم أوراق الدخول إلى تركيا كسيّاح أو حجّاج. وبعد ذلك، يجري تمريرهم سرّاً إلى سوريا، وكذلك شحنات السلاح. وعندما تكشف الشرطة محتويات القوافل من الذخائر والأسلحة، تتدخّل أجهزة للضغط ولتمريرها.

 إذاً، تلتزم تركيا موقفاً مُلتبساً إزاء «داعش». وهي في العلن تؤكّد أنها تأوي المعارضة المعتدلة وتدعمها لتتسلَّم السلطة في سوريا، لكنّها تُدرك جيِّداً أنّ ما تسمّيه «معارضة معتدلة» لا قدرة لها على القيام بذلك. فالساحة باتت فريسة المتطرّفين دينياً ومذهبياً وقومياً، وانّ حظوظ الاعتدال تبخَّرت، وباتت المعارضة المعتدلة عبارة عن مُنَظِّرين ينطقون بالحقّ لكنهم عاجزون عن إحقاقه.

 اليوم، سدَّدت «داعش» ضربة إلى الأكراد والأتراك معاً في قلب تركيا. فالتفجير الانتحاري استهدف تجمّعاً لأتراك يساريين يتعاطفون مع أكراد كوباني. وبذلك نقلت «داعش» معركتها مع الأكراد من سوريا إلى تركيا. والأرجح أنها تريد دَفع أنقرة إلى الخروج من موقف الدعم المُلتبس والمحدود إلى الدعم الواضح والمفتوح. وتعتبر «داعش» أن لا مجال للمواربة مع العدو المشترك، أي الأكراد.

 وترغب «داعش» في دفع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى تنفيذ تهديده بالدخول عسكرياً إلى الشمال السوري، وترجيح الكفّة لمصلحتها هناك. لكنّ الرجل يعاني مآزق عدة في هذا المجال، أبرزها أنّ أنقرة هي اليوم في وضعية الحكومة الانتقالية، وأنّ الجيش التركي ليس متحمّساً لمغامرة من هذا النوع، وأنه يجب على تركيا إعادة حساباتها بدقّة بعد التطور السياسي الاستراتيجي المُتمثِّل بتوقيع الاتفاق بين إيران والقوى الدولية الكبرى.

 الآن، جاء وقت الاستحقاق التركي: لا مجال للتنكُّر لـ»داعش» فينتعش الأكراد في سوريا والداخل ويهتزُّ استقرار تركيا، ولا مجال لتلبية رغبات «داعش» وفتح معركة مع الأكراد في سوريا والداخل فيهتزُّ استقرار تركيا. فثمّة مَن يعتقد بأنّ السوسَة العراقية - السورية هي من النوع القادر على خَرق الخشب التركي الرطِب.

 قد ينظر الأتراك إلى أنهم بتعاونهم الخَفيّ مع «داعش» أدخلوا الدبّ إلى كرْمِهم. وهذا الدبّ بدأ يَبتزُّهم لتحقيق طموحاته. فهو مستعجل، وهم يتريّثون. وهذا صحيح. لكنّ الصحيح أيضاً هو أنّ «داعش» ليست دبّاً حقيقياً، بل هي مجرَّد دمية تتفكَّك عند انتهاء الدور المرسوم لها.

  • فريق ماسة
  • 2015-07-21
  • 10136
  • من الأرشيف

«داعش» - تركيا: الدبّ يبدأ تخريب الكَرْم!

لا يمكن للعلاقة التركية - «الداعشية» أن تبقى غامضة إلى أجلٍ غير مسمّى، وفق ما يشتهي الأتراك. فموعد الاستحقاق يقترب سريعاً، وسيكون على أنقرة أن تختار: «داعش» صديق أم عدوّ أم عدوّ العدو؟  حتى اليوم، يرفض الأتراك وضع قاعدة أنجرليك الجوية، جنوب تركيا، في تَصرّف الطيران الحليف العامل ضد «داعش»... بغضّ النظر عن أنّ ضربات الأميركيين وحلفائهم لا قيمة لها في القضاء على «داعش».  لا يريد الأتراك حتى المشاركة في الضربات التي ستؤدي إلى تكريس الحدود المرسومة لـ»الدولة الإسلامية»، فلا تتجاوزها إلى مناطق ليست لها كردية كانت أو شيعية أو علوية أو حتى سنيّة... في العراق وسوريا.  وحتى اليوم، بقيَت تركيا الداعم الإقليمي الأوّل لـ«داعش»، فيما الدعم الذي تتلقّاه من دول عربية معروفة يبقى محدوداً ومحدّداً بالمال. أمّا الأتراك فيقدمون لـ«داعش» دعماً بالسلاح والعناصر واللوجستية.  ويُدرك الأميركيون وسائر القوى الإستخبارية الدولية ذلك. وفي نهاية شباط الفائت، أكد رئيس الاستخبارات الأميركية جيمس كلابر، أثناء جلسة استماع أمام لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ، أنّ محاربة «داعش» ليست أولوية لتركيا.  وكشفَ أنّ 60 في المئة من مقاتلي «داعش» الأجانب يَصِلون سوريا عبر تركيا بسبب «الأجواء المُتساهلة». وتحدّثَ عن استطلاعات في تركيا تؤكّد أنّ الأتراك لا يعتبرون «داعش» «تهديداً رئيسياً، وأنّ النزعة الانفصالية الكردية هي أكثر أهمية لهم».  وهذه المعلومات تواكبها معطيات، مصدرها قوى تركية معارضة وكردية من الداخل التركي، تقدِّم تفاصيل وافية ودلائل ملموسة إلى وجود دعم تركي رسمي لـ»داعش» مباشرة، على مستوى التسليح والتدريب وتقديم التسهيلات اللوجستية وتوفير الدعم المالي من خلال شراء النفط في السوق السوداء.  وتمرِّر تركيا عناصر «داعش» إلى سوريا وتوفِّر الطبابة للمُصابين، وتقوم بالتدخّل العسكري المباشر لمصلحة «داعش» في بعض المواقع الحدودية، ولا سيما في عين العرب - كوباني، حيث ينظر الأتراك بعَين القلق إلى احتمال نشوء كيان كردي يتمتّع بالحكم الذاتي، ويريدون تجنُّب هذه الكأس المرّة مهما كلَّف ذلك من أثمان. ففي اقتناعهم أنّ حدثاً من هذا النوع سيكون كارثياً على وحدة تركيا ذاتها.  وأعلن أعضاء بارزون من «حزب العدالة والتنمية»، مراراً، تعاطفهم مع «داعش». ونقلت صحيفة «حرية» التركية عن هؤلاء، العام الفائت، إطلاق بعض المسؤولين الحكوميين الكبار كلمات إطراء وإعجاب بهذا التنظيم وعناصره «الذين هم مثلنا يقاتلون سَبع قوى عظمى في حرب الاستقلال... والأفضل أن تكون الدولة الإسلامية جارة لنا بدلاً عن حزب العمّال الكردستاني الإرهابي». ووفق مسؤولي حزب الشعب الجمهوري التركي المعارض، يتمُّ عبور الأجانب إلى «داعش» في سوريا، عبر تركيا، مُوارَبة. فالمقاتلون يتمّ مَنحهم أوراق الدخول إلى تركيا كسيّاح أو حجّاج. وبعد ذلك، يجري تمريرهم سرّاً إلى سوريا، وكذلك شحنات السلاح. وعندما تكشف الشرطة محتويات القوافل من الذخائر والأسلحة، تتدخّل أجهزة للضغط ولتمريرها.  إذاً، تلتزم تركيا موقفاً مُلتبساً إزاء «داعش». وهي في العلن تؤكّد أنها تأوي المعارضة المعتدلة وتدعمها لتتسلَّم السلطة في سوريا، لكنّها تُدرك جيِّداً أنّ ما تسمّيه «معارضة معتدلة» لا قدرة لها على القيام بذلك. فالساحة باتت فريسة المتطرّفين دينياً ومذهبياً وقومياً، وانّ حظوظ الاعتدال تبخَّرت، وباتت المعارضة المعتدلة عبارة عن مُنَظِّرين ينطقون بالحقّ لكنهم عاجزون عن إحقاقه.  اليوم، سدَّدت «داعش» ضربة إلى الأكراد والأتراك معاً في قلب تركيا. فالتفجير الانتحاري استهدف تجمّعاً لأتراك يساريين يتعاطفون مع أكراد كوباني. وبذلك نقلت «داعش» معركتها مع الأكراد من سوريا إلى تركيا. والأرجح أنها تريد دَفع أنقرة إلى الخروج من موقف الدعم المُلتبس والمحدود إلى الدعم الواضح والمفتوح. وتعتبر «داعش» أن لا مجال للمواربة مع العدو المشترك، أي الأكراد.  وترغب «داعش» في دفع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى تنفيذ تهديده بالدخول عسكرياً إلى الشمال السوري، وترجيح الكفّة لمصلحتها هناك. لكنّ الرجل يعاني مآزق عدة في هذا المجال، أبرزها أنّ أنقرة هي اليوم في وضعية الحكومة الانتقالية، وأنّ الجيش التركي ليس متحمّساً لمغامرة من هذا النوع، وأنه يجب على تركيا إعادة حساباتها بدقّة بعد التطور السياسي الاستراتيجي المُتمثِّل بتوقيع الاتفاق بين إيران والقوى الدولية الكبرى.  الآن، جاء وقت الاستحقاق التركي: لا مجال للتنكُّر لـ»داعش» فينتعش الأكراد في سوريا والداخل ويهتزُّ استقرار تركيا، ولا مجال لتلبية رغبات «داعش» وفتح معركة مع الأكراد في سوريا والداخل فيهتزُّ استقرار تركيا. فثمّة مَن يعتقد بأنّ السوسَة العراقية - السورية هي من النوع القادر على خَرق الخشب التركي الرطِب.  قد ينظر الأتراك إلى أنهم بتعاونهم الخَفيّ مع «داعش» أدخلوا الدبّ إلى كرْمِهم. وهذا الدبّ بدأ يَبتزُّهم لتحقيق طموحاته. فهو مستعجل، وهم يتريّثون. وهذا صحيح. لكنّ الصحيح أيضاً هو أنّ «داعش» ليست دبّاً حقيقياً، بل هي مجرَّد دمية تتفكَّك عند انتهاء الدور المرسوم لها.

المصدر : الجمهورية / طوني عيسى


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة