ربما يفتنني فضاء الوجود ويدوّخني اتساع الكون .. وربما يؤرقني سرير الزمن الطويل ويبهرني مسار الضوء .. لكن انشغالي بالبحث عن جذر الوجود يجعلني دوما أبحث عن جذر الزمن .. وجذر الكون .. وجذر الضوء .. وجذور الأنهار.. وجذور البحار ..وعن الله جذر الجذور ..

 ولذلك ربما صرت لا أرى متعة في رصد قامات الكلام وقطف اللغة عن باسقات البيان .. بل المهارة كلها والمتعة عندي تكمن في تتبع جذور كل شيء .. جذور الكلام وجذور اللغة وجذور الذاكرة وجذور العمر .. فكم أخذتني عروق الذاكرة وشروشها الى أن وصلت بي الى لحظات الماضي السحيق حيث جذر الذاكرة مدفون في الاعماق .. وحيث تسير أنهار الأسرار ..

 ومن يتعاطى السياسة ويريد فهمها عليه أن يمتلك هذه النزعة في تتبع جذور الأحداث وجذور الكلام .. ليصل الى أعماق الذاكرة وخزانات المشاهد وانهار الأسرار .. ولذلك سأمرّ بكم اليوم في الأعماق لننسى السطح ولنسير معا ونتتبع الجذور .. وجذور الجذور .. وجذور جذور مفاهيم وتصريحات الثورة السورية .. حتى نصل الى آخر جذر لكلمات الثورة .. وبعده لانرى سوى الصخور ..

 تعالوا الى الايام والأسابيع الأولى لما سمي بالثورة السورية ولعلكم تذكرون اول بياناتها المعبأة ضد ماسمته المشروع الصفوي أو الهلال الشيعي الذي تشكل سورية ركيزته .. حيث كان أستاذ السوربون المراهق السياسي برهان غليون قد لخص مشروع الثورة السورية وأول بياناتها في تصريح شهير بأنه "التخلص من النظام الحالي ومن الوجود الايراني في سورية" .. لأن قراره - كرئيس سوري قادم - سيكون في اليوم التالي لسقوط النظام هو "قطع علاقات سورية بروسيا وايران وحزب الله" .. ولكن أتبعه رياض الشقفة بتعهد قاطع وحاسم بأن غاية الثورة السورية هي "قصم ظهر الهلال الشيعي وظهر ايران وحزب الله وطردهما من سورية" .. وتحولت ماسميت "الثورة" بسرعة من ثورة للحرية ومبادئ حقوق الانسان وضد حكم الحزب الواحد والعائلة الى ثورة دينية اسلامية طائفية النكهة تريد تنقية بلاد الشام من الوجود الفارسي والصفوي .. ولم يكن هناك أي ذكر لاسرائيل أو الجولان الا بأن الخلاف مع اسرائيل سيخضع للمفاوضات بعد انقاص عديد الجيش السوري بشكل كبير .. الى أن تبرع الثوار علنا بالجولان لاسرائيل ووكلوا اللبواني بعملية المقايضة والتبرع ..

 في قلب الثورة كانت الأنفاس الطائفية زنخة وقاتلة لأن عملية التحريض لشق الناس لم تجد أقوى من استعمال الغريزة الطائفية كعامل تجنيد فعال مع الثورة الدينية .. مشاعر وغرائز كانت تربيها الجزيرة وبرامجها الاخوانية وتحول الناس الى كلاب بافلوف .. بحيث ان مجرد ذكر الطوائف كان يزيد من سعار الجماهير التي عضتها أنياب الجزيرة واصابتها بداء الكلب ..

 لكن اللعبة كانت شديدة الوضوح في جذورها .. وهي أن الولايات المتحدة عرضت صفقة على الثوار السوريين وهي أن تساند ثورتهم وتوصلهم الى الحكم في مقابل نقل سورية الى الضفة الناتوية وبالقرب من اسرائيل لتكون سورية رأس الحرب في الموجة الاسلامية الموجهة نحو ايران واوراسيا حيث روسيا والصين .. ولذلك كانت تصريحات المعارضين على مختلف مشاربهم تشبه صكوكا وتعهدات متوالية بأن يتم تغيير العدو في سورية من اسرائيل والغرب الى ايران والشرق عبر عملية تصنيع وعي سوري جديد قوامه السعار الطائفي الموجه ضد ايران والشيعة كدليل قاطع مقدم للغرب على ان الثورة يمكن الثقة بها ثقة عمياء والاعتماد عليها بسبب عدوانيتها المنفطعة النظير لايران ومحورها .. ولم ينظر المعارضون الى هذه التصريحات بحذر أو بنوع من التأني وتطعيمها بالديبلوماسية لأنهم كانوا مقتنعين جدا أن الغرب سيساندهم اكثر كلما غالوا في التصريحات ضد ايران وحزب الله والشيعة وكلما أبدوا القطيعة الكاملة معهم .. ووضعوا كل البيض في سلة الغرب الذي تشبه وعوده وعد الله ..

 كنت في تلك الفترة أبدي دهشتي من هذه التصريحات العنترية التي كانت طوباوية جدا لأنها يمكن أن تصدر عن قائد ثورة شعبية عارمة موحدة وليس عن ثورة مقطعة حصصا بين عدة دول يمثلها الائتلاف أو مجلس الحكم .. مثل هذه التصريحات تقولها ثورة لاتعتمد على أحد كما كان الخميني يقول دون تردد وهو يسأل من قبل الصحافيين عن ميول الثورة ابان اشتعالها في ايران بأنه "لايبالي بدعم الشرق أو الغرب لأنه لايريد أن تكون ميول الثورة الايرانية شرقية أو غربية بل ايرانية" .. أما المعارضون السوريون فكانوا يبيعون ثورتهم في الغرب .. حصرا ..

 علاوة على ذلك فان هذه التصريحات المتهورة كانت تنم عن قلة خبرة في السياسة لاتصدق وطيش في التصريحات والتعهدات الانتحارية .. والتي تشير الى تمكن الغرب واسرائيل من استدراج المعارضين الى الفخاخ الديبلوماسية التي عكست قلة دراية جميع المعارضين بالمناورات السياسية والدهاء في العلاقات العامة والمكائد .. لأن من شأن هذه التصريحات القاطعة أن تسبب لايران بالغ القلق وتجعلها مستميتة في الدفاع عن النظام الحالي ومتمسكة به لأن خسارتها له ستعني ليس فقط خروجها من سورية بل خروج سورية الجديدة لمطاردتها في المنطقة وتحولها الى نقطة ارتكاز في حرب جديدة على ايران .. وكانت هذه التصريحات تقدم خدمة جليلة للأميريكيين .. فهي كانت ترسل الى ايران بشكل غير مباشر حيث يبيع الاميريكون التصريحات المراهقة على طاولة المفاوضات للضغط على ايران لابتزازها لتقديم تنازلات جوهرية في ملفات كثيرة منها الملف النووي ..

 أي كان الاميريكون يطلبون من المعارضين في لقاءاتهم بهم اثبات حسن النوايا باطلاق تعهدات نارية وتهديدات ضد ايران كي يقدم الاميريكيون الدعم اللازم ويوافقوا على مشروع تغيير النظام وينخرطوا به .. لكنهم في الحقيقة كانوا يستعملون هذه التصريحات سرا في الرسائل التفاوضية مع ايران للتهويل على ايران .. ولو كانت المعارضة ناضجة وواعية ووطينة لما باعت مواقف مجانية ولنظرت بعين الناقد الى خطورة التصريحات وأذاها على الثورة .. فايران وجدت فيهم عدوا مباشرا قادما الى حدودها .. ووجدت فيهم عدوا طيعا بيد الاميركيين ينفذ ولايعترض مثل اي جندي برتية صغيرة أمام فيلد مارشال .. ولو كانت هناك بصيرة عند معارض أو ثائر أو قيادة واعية لأصرت على تجنب حدة وصراحة التهديد في هذه التصريحات والصكوك وادعت أنها ستتترك ذلك للشعب السوري ليقرر مافي صالحه .. وأن الثوار وان كانوا عاتبين مثلا على ايران لموقفها من الثورة فان الشعب يريد فتح صفحة جديدة مع ايران لايريد لها أن تبقى بنفس الدور في سورية ولكن دون المساس بمصالح ايران التي لاتتضارب مع مصالح الشعب السوري .. وان العلاقات مع ايران يقرها مجمل الشعب بعد الثورة بعيدا عن التحامل والكراهية والذاكرة الجريحة ..

 الاندفاع في اثبات تصميم المعارضين والثوار على اظهار الولاء للتوجهات الاميريكية والاسرائيلية منح الاميريكيين لجاما للثوار الذين أحرقوا كل سفنهم ولم يعودوا قادرين على العودة وركوب مراكب أخرى .. ولم يعودوا قادرين حتى على ابتزاز الأميركيين بالتهديد بالميل نحو روسيا لأن الروس وجدوهم مجرد معارضة تعمل على البطارية الأميريكية لدرجة أن المعارضين تعهدوا بتسليم كل مصالح بلادهم الى الاميركيين لتنسجم مع مطالب اميريكية واسرائيلية خالصة دون مناقشة أو حذر لأن قيادة المعارضة تعتبر أن هذه الصكوك والتعهدات مكر سياسي وحنكة ثورية .. تماما كما كان المعارضون السياسيون العراقيون يمارسون نفس الحنكة والمكر بقبول الغزو حتى يسقط النظام وبعدها يضحكون على الاميريكيين ويأخذون العراق ملفوفا بأشرطة حمراء كالهدايا من غير حزب البعث ومن غير صدام .. وكان هذا المكر في منتهى السذاجة لأن الاميركيين سلموهم عراقا بلا بعث وبلا صدام .. بالمعنى الحرفي للكلمة "بلا بعث" .. فلم "يبعث" العراق منذ ذلك اليوم لأنه تم تسليمه للطوائف والمذاهب والدواعش والوهابية ..وكل أجهزة مخابرات العالم .. وخلا العراق من صدام حسين واحد .. وحل محله عشرة آلاف صدام حسين يقتتلون .. الى أن وصل زمن أبي بكر البغدادي ..

 اليوم يجب احضار المعارضين السوريين الى حفلة توقيع الاتفاق النووي مع ايران ليكونوا شهودا على الاتفاق وعلى غبائهم وخيبتهم وليصفقوا وليرقصوا طربا لأن صاحب البطارية يريد ذلك منهم .. وهذه الدعوة لهم - وبالعودة الى تصريحاتهم وتعهداتهم - تعني أنهم كانوا لعبة على طاولة المفاوضات ودمية من دمى الغرب في المناروات ولعبة عض الأصابع والابتزاز مع ايران .. والأخطر أن من ارادوا قصم ظهرها من أجل اميريكا قامت أميريكا بقصم ظهرهم من أجل الاتفاق مع ايران .. وسيضيف المعارضون الى رصيد طيشهم وحماقتهم غباء جديدا اذا صدقوا أنهم لم يكونوا جزءا من صفقة النووي (بشكل غير مباشر) التي اهتمت بها روسيا والصين والغرب، ليس من أجل المصالح الاقتصادية بل ايضا من أجل المصالح السياسية التي تحملها المصالح الاقتصادية .. فالاتفاق يعني ان أميريكا والغرب ليسا معنيين بعد اليوم بقصم ظهر ايران ومحورها والصدام معهم .. وهذا يعني أن مرحلة الصراع مع الهلال الشيعي قد انتهت بسبب ظهور الهلال النووي من ايران .. بل ان قوة الاتفاق تعني أن أميريكا ستقصم ظهر من يريد تهديد الاتفاق لأنه حصيلة جهد ولعب بالدم والخرائط .. رغم أن الذي ساعدها في لعبة الدم والخرائط هم الثوار السوريون بحماقتهم والمجاهدون الاسلاميون الذين مكنوها من الحصول على بعض المكاسب الضرورية ولو المؤقتة ..

 وكما تذكرون فانني قلت بأن الاتفاق الكيماوي مع سورية تضمن تعهد اميريكا وغربيا يشبه تعهد أميريكا في أزمة خليج الخنازير التي قطعت عهدا بعدم غزو كوبا ان تخلت عن الصواريخ السوفييتة وان بقيت تحت الحصار .. وكان ماتعهدت به الادارة الاميركية والغرب للسوريين والروس في الاتفاق الكيماوي هو عدم التورط في أي عمل عسكري مباشر ضد الدولة الوطنية السورية مهما كانت الظروف .. ولكن الاتفاق النووي الايراني لاشك سيلد اتفاقات سياسية تعمل في خدمة الوضع الجديد .. وصار الحفاظ على الاتفاق اليوم مصلحة أميريكية لن تسمح لأحد بالمساس به ليس لأن انفتاح اقتصادات العالم مع اقتصاد ايران سينعشها كلها .. بل لأن مشروع أميريكا القادم (البديل عن مشروع اقتحام ايران وروسيا من سورية) هو استرداد ايران من الداخل عبر تسرب اميريكا الى المجتمع الايراني وبناء طبقة من التجار والمصالح والقوى الثقافية والنخبوية بحجة الانفتاح على ايران لبناء قاعدة اجتماعية واقتصادية مرتبطة بالغرب وهي موجودة أصلا انما يجب تقويتها .. ولكن الأهم من ذلك هو استكمال اضعاف روسيا بمواجهة الغاز الروسي في اوروبة باستحضار الغاز الايراني الى اسواق اوروبة بحيث تعتمد اوربا على غاز ايران لا غاز روسيا .. وستكون هناك قوى اقتصادية ونخبوية وسياسية في ايران لاتقدر على مقاومة هذا الاغراء والانحياز الطبيعي لمصالحها .. فالمشروع الأميركي الآن هو الاستغناء عن تحطيم ايران بالمواجهة المباشرة بل بدفعها دفعا الى تنافس مع روسيا التي ستحس أن ايران الآن هي التهديد الاقتصادي لها اذا اختارت اوروبا الغاز الايراني بدل الروسي .. وقد يعني ذلك ضرب الحلفاء وتخريب المحور الروسي الايراني من داخله .. وقد ينتهي بأن الروس سيجدون قريبا أن الافتراق عن ايران حتمي .. وقد يدفع ذلك ايران للاقتراب أكثر من الغرب وربما العودة اليه ..وتسقط في سلته من غير حرب .. وغني عن القول بأن الروس والايرانيين يدركون ذلك ويضعون آليات مشتركة تحصنهما من الفخ الغربي ..

 الاتفاق النووي يعني أن اسقاط ايران صار مشروعا مؤجلا لسنوات ومتروكا للقوة الناعمة والتغلغل .. وأن مشروع اسقاطها من سورية انتهى .. وأن من قصم ظهره في هذه المعركة هو مشروع الثورة السورية التي ومع هذا الاتفاق ستجد أن ظهيرها الرئيسي التركي مضطر وفي ظروف الضعف السياسي لحزب العدالة والتنمية لبيع الثورة السورية لأنه يريد شيئا من الكعكة الاقتصادية في ايران وأن الرهان على اسقاط سورية وليّ ذراع ايران بالتحكم بالنافذة الاقتصادية لايران عبر البنوك التركية لم يعد مجديا لأن ايران التي كانت تركيا تبتزها عبر نافذة بنوكها وقنواتها الاقتصادية قد تخلصت من هذا الابتزاز ولم تعد بحاجة لتركيا ..وهذا سيعني أن التنظيمات الاسلامية ربما انتهى دورها الحالي مع التوصل الى الاتفاق النووي ولكن لن يتم التخلص منها بل ستتم اعادة انتشارها وفق منظور اميركي جديد .. ولمهمة جديدة وأهداف جديدة لاندري وجهتها التي قد تكون شمال افريقيا ..

لايبدو أن انتظارنا سيطول كثيرا كي نسمع جو بايدن يقول باصرار وتحد بأنه سيقصم ظهر الثورات الارهابية أو من يهدد الاتفاق النووي مع ايران .. وبرغم أن الغرب لن يرمي بعظام الثورة كلها الى الأرض بل سيبقي جسمها السياسي في ثلاجاته لأنه سيمكنه شحن بطارياتها ساعة يشاء كما فعل مع بطارية الحريري و14 آذار التي وضعها في المخازن واقفل مفاتيحها لفترة وأرسل الشخصيات السياسية اللبنانية ببطاريات غير مشحونة الى دمشق التي استقبلت جنبلاط من غير بطارية والحريري من غير بطارية وكل رهط المستقبل كان مفرغا من شحناته ويسير من دون بطاريات معتمدا على قوة الرياح السياسية واتجاهها واتجاه الشراع الأميريكي .. وعندما حانت الساعة وضع فيلتمان البطاريات المشحونة وبرم الزنبرك وأطلق الدمى اللبنانية التي صارت فجأة تريد اسقاط الأسد وتحرير الشعب السوري وليس اللبناني .. ولذلك ربما ستجدون قريبا معارضة سورية من غير بطاريات وتسير بقوة الرياح السياسية ..وربما رياحها الذاتية الدفع ..

 لاأريد التنبؤ بما يحمله المستقبل لأنني لاأعرف مابين ثنايا الاتفاق النووي لكن يبدو جليا أن السيناريو السوري سيتغير في غير صالح اللحى ويبدو جليا أن ايران أمسكت بحليفها خوفا من قصم ظهرها وتمكنت من ايجاد معادلة قصمت ظهر من أراد قصم ظهرها .. لكن العودة الى جذور الاشياء تساهم في فهم الأشياء المستعصية .. ولايبدو ان الأشهر القادمة تحمل مفاجآت سارة للمعارضين والثورجيين ..وان زمن حلاقة اللحى يقترب .. وأن الشباب سيكونون بلا بطاريات ..

ربما بعد هذه الرحلة في عوالم السياسة لم يعد يفتنني فضاء الوجود ولا يدوّخني اتساع الكون .. وربما لم يعد يؤرقني سرير الزمن الطويل ولا يبهرني مسار الضوء .. وربما لن يشغلني البحث عن جذر الوجود .. ولن أتابع بحثي الابدي عن جذر الزمن .. وجذر الكون وجذر الضوء وجذور الأنهار وجذور البحار .. فيكفيني أنني عرفت أن أهم جذر للانسان هو الوطن .. وطننا كاد ان يضيع منا وهو يعاني من الخيانات والعمالات والحماقات ومراهقي السياسة ..

 ويكفيني اليوم ادراكي لهذا الجذر العظيم الذي يمتد من روحي وينتهي في قلبي ويتمدد في فضاء نفسي كالضوء .. انه جذر الجذور .. ولاجذر بعده ..

  • فريق ماسة
  • 2015-07-14
  • 13244
  • من الأرشيف

من الذي قصم ظهر الهلال { الشيعي} .. وأطلق الهلال النووي ؟؟ بقلم نارام سرجون

ربما يفتنني فضاء الوجود ويدوّخني اتساع الكون .. وربما يؤرقني سرير الزمن الطويل ويبهرني مسار الضوء .. لكن انشغالي بالبحث عن جذر الوجود يجعلني دوما أبحث عن جذر الزمن .. وجذر الكون .. وجذر الضوء .. وجذور الأنهار.. وجذور البحار ..وعن الله جذر الجذور ..  ولذلك ربما صرت لا أرى متعة في رصد قامات الكلام وقطف اللغة عن باسقات البيان .. بل المهارة كلها والمتعة عندي تكمن في تتبع جذور كل شيء .. جذور الكلام وجذور اللغة وجذور الذاكرة وجذور العمر .. فكم أخذتني عروق الذاكرة وشروشها الى أن وصلت بي الى لحظات الماضي السحيق حيث جذر الذاكرة مدفون في الاعماق .. وحيث تسير أنهار الأسرار ..  ومن يتعاطى السياسة ويريد فهمها عليه أن يمتلك هذه النزعة في تتبع جذور الأحداث وجذور الكلام .. ليصل الى أعماق الذاكرة وخزانات المشاهد وانهار الأسرار .. ولذلك سأمرّ بكم اليوم في الأعماق لننسى السطح ولنسير معا ونتتبع الجذور .. وجذور الجذور .. وجذور جذور مفاهيم وتصريحات الثورة السورية .. حتى نصل الى آخر جذر لكلمات الثورة .. وبعده لانرى سوى الصخور ..  تعالوا الى الايام والأسابيع الأولى لما سمي بالثورة السورية ولعلكم تذكرون اول بياناتها المعبأة ضد ماسمته المشروع الصفوي أو الهلال الشيعي الذي تشكل سورية ركيزته .. حيث كان أستاذ السوربون المراهق السياسي برهان غليون قد لخص مشروع الثورة السورية وأول بياناتها في تصريح شهير بأنه "التخلص من النظام الحالي ومن الوجود الايراني في سورية" .. لأن قراره - كرئيس سوري قادم - سيكون في اليوم التالي لسقوط النظام هو "قطع علاقات سورية بروسيا وايران وحزب الله" .. ولكن أتبعه رياض الشقفة بتعهد قاطع وحاسم بأن غاية الثورة السورية هي "قصم ظهر الهلال الشيعي وظهر ايران وحزب الله وطردهما من سورية" .. وتحولت ماسميت "الثورة" بسرعة من ثورة للحرية ومبادئ حقوق الانسان وضد حكم الحزب الواحد والعائلة الى ثورة دينية اسلامية طائفية النكهة تريد تنقية بلاد الشام من الوجود الفارسي والصفوي .. ولم يكن هناك أي ذكر لاسرائيل أو الجولان الا بأن الخلاف مع اسرائيل سيخضع للمفاوضات بعد انقاص عديد الجيش السوري بشكل كبير .. الى أن تبرع الثوار علنا بالجولان لاسرائيل ووكلوا اللبواني بعملية المقايضة والتبرع ..  في قلب الثورة كانت الأنفاس الطائفية زنخة وقاتلة لأن عملية التحريض لشق الناس لم تجد أقوى من استعمال الغريزة الطائفية كعامل تجنيد فعال مع الثورة الدينية .. مشاعر وغرائز كانت تربيها الجزيرة وبرامجها الاخوانية وتحول الناس الى كلاب بافلوف .. بحيث ان مجرد ذكر الطوائف كان يزيد من سعار الجماهير التي عضتها أنياب الجزيرة واصابتها بداء الكلب ..  لكن اللعبة كانت شديدة الوضوح في جذورها .. وهي أن الولايات المتحدة عرضت صفقة على الثوار السوريين وهي أن تساند ثورتهم وتوصلهم الى الحكم في مقابل نقل سورية الى الضفة الناتوية وبالقرب من اسرائيل لتكون سورية رأس الحرب في الموجة الاسلامية الموجهة نحو ايران واوراسيا حيث روسيا والصين .. ولذلك كانت تصريحات المعارضين على مختلف مشاربهم تشبه صكوكا وتعهدات متوالية بأن يتم تغيير العدو في سورية من اسرائيل والغرب الى ايران والشرق عبر عملية تصنيع وعي سوري جديد قوامه السعار الطائفي الموجه ضد ايران والشيعة كدليل قاطع مقدم للغرب على ان الثورة يمكن الثقة بها ثقة عمياء والاعتماد عليها بسبب عدوانيتها المنفطعة النظير لايران ومحورها .. ولم ينظر المعارضون الى هذه التصريحات بحذر أو بنوع من التأني وتطعيمها بالديبلوماسية لأنهم كانوا مقتنعين جدا أن الغرب سيساندهم اكثر كلما غالوا في التصريحات ضد ايران وحزب الله والشيعة وكلما أبدوا القطيعة الكاملة معهم .. ووضعوا كل البيض في سلة الغرب الذي تشبه وعوده وعد الله ..  كنت في تلك الفترة أبدي دهشتي من هذه التصريحات العنترية التي كانت طوباوية جدا لأنها يمكن أن تصدر عن قائد ثورة شعبية عارمة موحدة وليس عن ثورة مقطعة حصصا بين عدة دول يمثلها الائتلاف أو مجلس الحكم .. مثل هذه التصريحات تقولها ثورة لاتعتمد على أحد كما كان الخميني يقول دون تردد وهو يسأل من قبل الصحافيين عن ميول الثورة ابان اشتعالها في ايران بأنه "لايبالي بدعم الشرق أو الغرب لأنه لايريد أن تكون ميول الثورة الايرانية شرقية أو غربية بل ايرانية" .. أما المعارضون السوريون فكانوا يبيعون ثورتهم في الغرب .. حصرا ..  علاوة على ذلك فان هذه التصريحات المتهورة كانت تنم عن قلة خبرة في السياسة لاتصدق وطيش في التصريحات والتعهدات الانتحارية .. والتي تشير الى تمكن الغرب واسرائيل من استدراج المعارضين الى الفخاخ الديبلوماسية التي عكست قلة دراية جميع المعارضين بالمناورات السياسية والدهاء في العلاقات العامة والمكائد .. لأن من شأن هذه التصريحات القاطعة أن تسبب لايران بالغ القلق وتجعلها مستميتة في الدفاع عن النظام الحالي ومتمسكة به لأن خسارتها له ستعني ليس فقط خروجها من سورية بل خروج سورية الجديدة لمطاردتها في المنطقة وتحولها الى نقطة ارتكاز في حرب جديدة على ايران .. وكانت هذه التصريحات تقدم خدمة جليلة للأميريكيين .. فهي كانت ترسل الى ايران بشكل غير مباشر حيث يبيع الاميريكون التصريحات المراهقة على طاولة المفاوضات للضغط على ايران لابتزازها لتقديم تنازلات جوهرية في ملفات كثيرة منها الملف النووي ..  أي كان الاميريكون يطلبون من المعارضين في لقاءاتهم بهم اثبات حسن النوايا باطلاق تعهدات نارية وتهديدات ضد ايران كي يقدم الاميريكيون الدعم اللازم ويوافقوا على مشروع تغيير النظام وينخرطوا به .. لكنهم في الحقيقة كانوا يستعملون هذه التصريحات سرا في الرسائل التفاوضية مع ايران للتهويل على ايران .. ولو كانت المعارضة ناضجة وواعية ووطينة لما باعت مواقف مجانية ولنظرت بعين الناقد الى خطورة التصريحات وأذاها على الثورة .. فايران وجدت فيهم عدوا مباشرا قادما الى حدودها .. ووجدت فيهم عدوا طيعا بيد الاميركيين ينفذ ولايعترض مثل اي جندي برتية صغيرة أمام فيلد مارشال .. ولو كانت هناك بصيرة عند معارض أو ثائر أو قيادة واعية لأصرت على تجنب حدة وصراحة التهديد في هذه التصريحات والصكوك وادعت أنها ستتترك ذلك للشعب السوري ليقرر مافي صالحه .. وأن الثوار وان كانوا عاتبين مثلا على ايران لموقفها من الثورة فان الشعب يريد فتح صفحة جديدة مع ايران لايريد لها أن تبقى بنفس الدور في سورية ولكن دون المساس بمصالح ايران التي لاتتضارب مع مصالح الشعب السوري .. وان العلاقات مع ايران يقرها مجمل الشعب بعد الثورة بعيدا عن التحامل والكراهية والذاكرة الجريحة ..  الاندفاع في اثبات تصميم المعارضين والثوار على اظهار الولاء للتوجهات الاميريكية والاسرائيلية منح الاميريكيين لجاما للثوار الذين أحرقوا كل سفنهم ولم يعودوا قادرين على العودة وركوب مراكب أخرى .. ولم يعودوا قادرين حتى على ابتزاز الأميركيين بالتهديد بالميل نحو روسيا لأن الروس وجدوهم مجرد معارضة تعمل على البطارية الأميريكية لدرجة أن المعارضين تعهدوا بتسليم كل مصالح بلادهم الى الاميركيين لتنسجم مع مطالب اميريكية واسرائيلية خالصة دون مناقشة أو حذر لأن قيادة المعارضة تعتبر أن هذه الصكوك والتعهدات مكر سياسي وحنكة ثورية .. تماما كما كان المعارضون السياسيون العراقيون يمارسون نفس الحنكة والمكر بقبول الغزو حتى يسقط النظام وبعدها يضحكون على الاميريكيين ويأخذون العراق ملفوفا بأشرطة حمراء كالهدايا من غير حزب البعث ومن غير صدام .. وكان هذا المكر في منتهى السذاجة لأن الاميركيين سلموهم عراقا بلا بعث وبلا صدام .. بالمعنى الحرفي للكلمة "بلا بعث" .. فلم "يبعث" العراق منذ ذلك اليوم لأنه تم تسليمه للطوائف والمذاهب والدواعش والوهابية ..وكل أجهزة مخابرات العالم .. وخلا العراق من صدام حسين واحد .. وحل محله عشرة آلاف صدام حسين يقتتلون .. الى أن وصل زمن أبي بكر البغدادي ..  اليوم يجب احضار المعارضين السوريين الى حفلة توقيع الاتفاق النووي مع ايران ليكونوا شهودا على الاتفاق وعلى غبائهم وخيبتهم وليصفقوا وليرقصوا طربا لأن صاحب البطارية يريد ذلك منهم .. وهذه الدعوة لهم - وبالعودة الى تصريحاتهم وتعهداتهم - تعني أنهم كانوا لعبة على طاولة المفاوضات ودمية من دمى الغرب في المناروات ولعبة عض الأصابع والابتزاز مع ايران .. والأخطر أن من ارادوا قصم ظهرها من أجل اميريكا قامت أميريكا بقصم ظهرهم من أجل الاتفاق مع ايران .. وسيضيف المعارضون الى رصيد طيشهم وحماقتهم غباء جديدا اذا صدقوا أنهم لم يكونوا جزءا من صفقة النووي (بشكل غير مباشر) التي اهتمت بها روسيا والصين والغرب، ليس من أجل المصالح الاقتصادية بل ايضا من أجل المصالح السياسية التي تحملها المصالح الاقتصادية .. فالاتفاق يعني ان أميريكا والغرب ليسا معنيين بعد اليوم بقصم ظهر ايران ومحورها والصدام معهم .. وهذا يعني أن مرحلة الصراع مع الهلال الشيعي قد انتهت بسبب ظهور الهلال النووي من ايران .. بل ان قوة الاتفاق تعني أن أميريكا ستقصم ظهر من يريد تهديد الاتفاق لأنه حصيلة جهد ولعب بالدم والخرائط .. رغم أن الذي ساعدها في لعبة الدم والخرائط هم الثوار السوريون بحماقتهم والمجاهدون الاسلاميون الذين مكنوها من الحصول على بعض المكاسب الضرورية ولو المؤقتة ..  وكما تذكرون فانني قلت بأن الاتفاق الكيماوي مع سورية تضمن تعهد اميريكا وغربيا يشبه تعهد أميريكا في أزمة خليج الخنازير التي قطعت عهدا بعدم غزو كوبا ان تخلت عن الصواريخ السوفييتة وان بقيت تحت الحصار .. وكان ماتعهدت به الادارة الاميركية والغرب للسوريين والروس في الاتفاق الكيماوي هو عدم التورط في أي عمل عسكري مباشر ضد الدولة الوطنية السورية مهما كانت الظروف .. ولكن الاتفاق النووي الايراني لاشك سيلد اتفاقات سياسية تعمل في خدمة الوضع الجديد .. وصار الحفاظ على الاتفاق اليوم مصلحة أميريكية لن تسمح لأحد بالمساس به ليس لأن انفتاح اقتصادات العالم مع اقتصاد ايران سينعشها كلها .. بل لأن مشروع أميريكا القادم (البديل عن مشروع اقتحام ايران وروسيا من سورية) هو استرداد ايران من الداخل عبر تسرب اميريكا الى المجتمع الايراني وبناء طبقة من التجار والمصالح والقوى الثقافية والنخبوية بحجة الانفتاح على ايران لبناء قاعدة اجتماعية واقتصادية مرتبطة بالغرب وهي موجودة أصلا انما يجب تقويتها .. ولكن الأهم من ذلك هو استكمال اضعاف روسيا بمواجهة الغاز الروسي في اوروبة باستحضار الغاز الايراني الى اسواق اوروبة بحيث تعتمد اوربا على غاز ايران لا غاز روسيا .. وستكون هناك قوى اقتصادية ونخبوية وسياسية في ايران لاتقدر على مقاومة هذا الاغراء والانحياز الطبيعي لمصالحها .. فالمشروع الأميركي الآن هو الاستغناء عن تحطيم ايران بالمواجهة المباشرة بل بدفعها دفعا الى تنافس مع روسيا التي ستحس أن ايران الآن هي التهديد الاقتصادي لها اذا اختارت اوروبا الغاز الايراني بدل الروسي .. وقد يعني ذلك ضرب الحلفاء وتخريب المحور الروسي الايراني من داخله .. وقد ينتهي بأن الروس سيجدون قريبا أن الافتراق عن ايران حتمي .. وقد يدفع ذلك ايران للاقتراب أكثر من الغرب وربما العودة اليه ..وتسقط في سلته من غير حرب .. وغني عن القول بأن الروس والايرانيين يدركون ذلك ويضعون آليات مشتركة تحصنهما من الفخ الغربي ..  الاتفاق النووي يعني أن اسقاط ايران صار مشروعا مؤجلا لسنوات ومتروكا للقوة الناعمة والتغلغل .. وأن مشروع اسقاطها من سورية انتهى .. وأن من قصم ظهره في هذه المعركة هو مشروع الثورة السورية التي ومع هذا الاتفاق ستجد أن ظهيرها الرئيسي التركي مضطر وفي ظروف الضعف السياسي لحزب العدالة والتنمية لبيع الثورة السورية لأنه يريد شيئا من الكعكة الاقتصادية في ايران وأن الرهان على اسقاط سورية وليّ ذراع ايران بالتحكم بالنافذة الاقتصادية لايران عبر البنوك التركية لم يعد مجديا لأن ايران التي كانت تركيا تبتزها عبر نافذة بنوكها وقنواتها الاقتصادية قد تخلصت من هذا الابتزاز ولم تعد بحاجة لتركيا ..وهذا سيعني أن التنظيمات الاسلامية ربما انتهى دورها الحالي مع التوصل الى الاتفاق النووي ولكن لن يتم التخلص منها بل ستتم اعادة انتشارها وفق منظور اميركي جديد .. ولمهمة جديدة وأهداف جديدة لاندري وجهتها التي قد تكون شمال افريقيا .. لايبدو أن انتظارنا سيطول كثيرا كي نسمع جو بايدن يقول باصرار وتحد بأنه سيقصم ظهر الثورات الارهابية أو من يهدد الاتفاق النووي مع ايران .. وبرغم أن الغرب لن يرمي بعظام الثورة كلها الى الأرض بل سيبقي جسمها السياسي في ثلاجاته لأنه سيمكنه شحن بطارياتها ساعة يشاء كما فعل مع بطارية الحريري و14 آذار التي وضعها في المخازن واقفل مفاتيحها لفترة وأرسل الشخصيات السياسية اللبنانية ببطاريات غير مشحونة الى دمشق التي استقبلت جنبلاط من غير بطارية والحريري من غير بطارية وكل رهط المستقبل كان مفرغا من شحناته ويسير من دون بطاريات معتمدا على قوة الرياح السياسية واتجاهها واتجاه الشراع الأميريكي .. وعندما حانت الساعة وضع فيلتمان البطاريات المشحونة وبرم الزنبرك وأطلق الدمى اللبنانية التي صارت فجأة تريد اسقاط الأسد وتحرير الشعب السوري وليس اللبناني .. ولذلك ربما ستجدون قريبا معارضة سورية من غير بطاريات وتسير بقوة الرياح السياسية ..وربما رياحها الذاتية الدفع ..  لاأريد التنبؤ بما يحمله المستقبل لأنني لاأعرف مابين ثنايا الاتفاق النووي لكن يبدو جليا أن السيناريو السوري سيتغير في غير صالح اللحى ويبدو جليا أن ايران أمسكت بحليفها خوفا من قصم ظهرها وتمكنت من ايجاد معادلة قصمت ظهر من أراد قصم ظهرها .. لكن العودة الى جذور الاشياء تساهم في فهم الأشياء المستعصية .. ولايبدو ان الأشهر القادمة تحمل مفاجآت سارة للمعارضين والثورجيين ..وان زمن حلاقة اللحى يقترب .. وأن الشباب سيكونون بلا بطاريات .. ربما بعد هذه الرحلة في عوالم السياسة لم يعد يفتنني فضاء الوجود ولا يدوّخني اتساع الكون .. وربما لم يعد يؤرقني سرير الزمن الطويل ولا يبهرني مسار الضوء .. وربما لن يشغلني البحث عن جذر الوجود .. ولن أتابع بحثي الابدي عن جذر الزمن .. وجذر الكون وجذر الضوء وجذور الأنهار وجذور البحار .. فيكفيني أنني عرفت أن أهم جذر للانسان هو الوطن .. وطننا كاد ان يضيع منا وهو يعاني من الخيانات والعمالات والحماقات ومراهقي السياسة ..  ويكفيني اليوم ادراكي لهذا الجذر العظيم الذي يمتد من روحي وينتهي في قلبي ويتمدد في فضاء نفسي كالضوء .. انه جذر الجذور .. ولاجذر بعده ..

المصدر : الماسة السورية


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة