دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
هل يهّم حقاً أين تقع المجازر وأحداث العنف؟ أم أن المحصّلة هي ذاتها، وللضحايا حقوقٌ متساوية في كسب التعاطف أينما كانوا؟ يبدو أن إجابات الأسئلة السابقة تأتي بالنفي، إذ أنّ لكادر الصورة سطوته، ولمسرح الحدث أهمية مركزية في كسب تعاطف المشاهدين. تلك فرضيّة يحفّزها أسلوب التغطية الإخباريّة لحادثة الهجوم على فندق «مرحبا» في مدينة سوسة السياحية الواقعة شرق تونس (الجمعة 26 حزيران الماضي)، والذي راح ضحيته 39 قتيلاً وأكثر من 80 جريحاً، بينهم سياحٌ أجانب بريطانيون وروس وفرنسيون وايرلنديون.
ليست الحادثة الأولى من نوعها، إذ لقي 21 سائحاً حتفهم في المتحف الوطني في منطقة باردو في العاصمة التونسية قبل ثلاثة أشهر. ولكن يبقى لما يجري اليوم في «لؤلؤة الساحل» تأثيرٌ عاطفيٌ مركّب بالنظر إليه من منحى إعلامي، ولا يمكن فهمه من دون استعادة رمزية الشاطئ كمكانٍ للانعتاق والاسترخاء وقضاء الوقت الممتع، وانقلابه إلى مكان مرعب وخطير.
سارت التقارير الإخبارية الأسبوع الماضي على نهجٍ يشابه في بنيته أفلام الرعب التي تتحول فيها أكثر الأماكن إلفة وحميمية إلى مسرح للجريمة. انعكس ذلك في المشاهد التي اختارت قنوات الإعلام الغربي أن تعرضها بعد ساعاتٍ من الحادثة، والتي أعادت مراراً صور الدماء على الكراسي البلاستيكية، وجثث السيّاح المغطاة بالأقمشة، إلى جانب لقطات للفندق المترف بأشجاره وبحيراته. وفي مشهد تمّ تداوله بكثرة، نرى امرأة بثوب سباحة تبكي وهي تعانق سائحاً وسط مجموعة سيّاح لوّحت أجسادهم آثار الشمس.
بقي الشاطئ حاضناً أساسيّاً للحدث، حتّى في الأخبار الخاصّة بطقوس الجنازات وتكريم الضحايا. إذ نرى في تقارير «سي أن أن» و «بي بي سي» وفداً ديبلوماسياً بريطانياً وألمانياً وفرنسياً يقدم التعازي ويضع الورود على جثامين الضحايا المدفونين تحت رمل البحر، وهم متشحون بالسواد، فيما تظهر خلفهم صفحة الماء والمظلّات الملوّنة.
المشاهد القليلة التي شكلت استثناءً في ابتعادها عن الشاطئ، كانت تلك التي التُقطت في البرلمان البريطاني أثناء الحداد على أرواح 22 بريطانياً قضوا في الحادثة. نرى دايفيد كاميرون وهو يتحدّث عن السياح البريطانيين الأبرياء الذين حاولوا أن يستمتعوا بوقتهم مع أصدقائهم، قبل أن يصبحوا ضحية أعنف الهجمات الإرهابية ضد بريطانيا. ثم نراه في مشاهد أخرى يعلن بحزم ما يجب القيام به في سوريا والعراق للتصدي للتطرف. كل ما في التغطية الإخبارية يوظّف الصورة لإثبات مظلوميّة «الغرب» في المشهد.
وبالرغم من التقارير المطوّلة التي بثّتها كل من «روسيا اليوم» و «بي بي سي» وغيرها من المنابر الإعلاميّة وناقشت حجم الضرر الذي أصاب الاقتصاد التونسي، والمآلات التي قد تلحق بالبلاد، بدت تونس مجرد مسرح. فالضحيّة كما صوّرها الإعلام بعد نشر عشرات التقارير عن الحادثة، كانت السائح الذي اختار قضاء إجازته في دولة متوسطية، قبل أن يقطعها عليه المتطرفون. ولذلك لا بد على الغرب / الضحيّة أن يخلع ثوب السباحة ويرتدي ثياب المعركة استعداداً للتصدي للإرهاب.
وضمن سلسلة تقارير تكبّدت «سي أن أن» عناء الابتعاد خطواتٍ عن الشاطئ لتكتشف الحي حيث ترعرع سيف الدين رزقي المتهّم بتنفيذ العملية. وهناك، تصوّر الكاميرا تفاصيل المنزل المتواضع للقاتل، وتلتقي بأفراد عائلته، وصولاً إلى تقليب صفحة «فايسبوك» الخاصة به، لتكتشف أنه قبل سنوات عدة فقط كان شاباً يحب كرة القدم ويستمع إلى مغني الراب الأميركي «إمنيم»، قبل أن يأخذ منهجاً متشدّداً. وبذلك تصبح صفحة «فايسبوك» كافية بنظر القناة لرصد الانقلابات والتحولات نحو«الإرهاب». وبعد تقصٍّ متعجّل تعود الشبكة الأميركيّة لإجراء المزيد من اللقاءات مع ناجين اختاروا البقاء لإكمال إجازتهم الصيفيّة في فندق «مرحبا».
للمفارقة، لم يكن شاطئ سوسة المسرح الرملي الوحيد الذي احتضن حوادث عنف مؤخراً، إذ يمكن اليوم استعادة صورة أطفال آل بكر الأربعة الذين كانوا يركضون على شاطئ غزة قبل أن يتعرضوا لهجوم من سلاح الجو الإسرائيلي في 12 حزيران 2014. المشهد الذي بدا حينها مُقتطعاً من فيلمٍ سينمائي حدث للمصادفة أمام عدسات أهم الوكالات الإعلامية في فندقٍ للصحافيين، وغيّر للأبد التصوّر حول اللعب بالكرة على الشاطئ في فلسطين، لكن الذاكرة الغربية سريعة النسيان، لا تكترث سوى بالأحداث التي ترى أنها تستهدفها مباشرة.
في النهاية تبقى الآلية التي تؤثر بها الرسائل الإعلامية على الجمهور معقدة، وتحديداً فيما يخص تغطية حوادث العنف، لكن المؤكد أن وسائل الإعلام تحاول أن تستفيد للأقصى من جميع التفاصيل ذات الشحنات العاطفية لإيصال رسائل ممزوجة بالخوف حول المصير الذي يتهدد الغرب.
بالتأكيد الضحايا الأجانب في مدينة سوسة، لا ذنب لهم. هم ماتوا كغيرهم عبثاً، في مسرحيات سياسية واقتصادية، تخرجها الدول الغربية المتصارعة على مناطق النفوذ، بعد أن تحدد كما تشاء كوادرها وأماكن تصويرها، شطآن كانت أم بلدان بأكملها.
المصدر :
السفير/ نور أبو فرّاج
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة