في مواجهة ما يجري في المنطقة والمتغيّرات المتسارعة في ميدانها، تختلط الأمور ويشتبه على البعض تفسير هذا الموقف أو ذاك، سواء على صعيد ما تتخذه مكونات العدوان أو ما تبديه من ردات فعل ومواجهة تلتزمها مكونات محور المقاومة والدفاع عن المنطقة.

وتصاعدت في الآونة الأخيرة أسئلة وارتسمت علامات استفهام حول هذا السلوك أو ذاك، ما يفرض التصدي لها بموضوعية وشفافية من أجل معرفة أين نحن وفي أي اتجاه نسير، ثم ما هو المطلوب لاستمرار هذه المواجهة التي نحدد بصددها.

بداية نعود إلى المبادئ العامة التي تفرض أن يكون المدخل إلى علاج معضلة ما منطلقاً من تشخيص الحال وتحديد واقع المعالج وقدراته ومناعته. في حالتنا العربية والإقليمية ليس ابتكاراً أو كشف سر عظيم أن نقول إن المنطقة الآن في خضم حريق شامل أضرم فيها بقرار خارجي ويد محلية ـ إقليمية، ابتغت إسقاطها وإعادة صياغتها بما يناسب المخطط المعتدي، ووجدت المنطقة نفسها أمام خيارين: الاستسلام للمخطط وعودة الاستعمار بالصيغ الجديدة التي يحددها أو المقاومة لامتلاك القرار المستقل والسيادة.

وفي الخيارات، انقسم أهل المنطقة بين الخيارين فأضيف إلى البعد الدولي الرئيسي للعدوان بعد محلي إقليمي اشتبهت على البعض أهميته، حتى ساوى بينه وبين أساسه الدولي وهذا خطأ فادح، لأن الحقيقة برأينا أن المنطقة تتعرض لعدوان خارجي اتخذ من عناصر محلية أدوات له، أما الجوهر فهو صراع بين مشروعين مشروع أجنبي استعماري ومشروع إقليمي تحرري. وكل كلام آخر يحف النقاش ويشتت الجهد، إذ يجب أن نعلم أن هناك عدواناً وهناك دفاعاً في مواجهته، دفاع يقوده محور المقاومة الإقليمي مستفيداً من دعم وتأييد يظهر أحياناً من جهات دولية فاعلة، جهات تقدر حجم تدخلها وفقاً لمصالحها وقدرتها على المبادرة والتحمل.

وعلى هذا الأساس، خطط محور المقاومة دفاعه بعد أن تبين أو كشف استراتيجية العدو ومخططه، وهو سلوك منهجي في تخطيط أي دفاع، وعلى الصعيد الأول أي الاستراتيجية ظهر جلياً أن العدو يعتمد استراتيجية القوة الناعمة التي تقوم على أركان خمسة:

فرز الشعوب على أساس إثني متعدد العناوين ونشر التخويف والخلاف بين الأقسام المحدثة.

منع الحوار بين المكونات المجزأة وإفشال أي مسعى يهدف إلى إرساء تفاهم أو اتفاق بينها.

دفع المكونات المجزأة إلى الاحتراب والتناحر حتى الاستنزاف والتآكل ومنع حسم المعركة لمواصلة النزيف جهداً وبشراً وثروة.

المحافظة على الإمساك بمفاتيح التحكم بالمسرح ولعب دور الحكم المنقذ الذي يلجأ إليهم المحتربون ليفصل بينهم أو ليساعد أحدهم الآخر.

عودة الأجنبي ليبسط السيطرة على الأجزاء المتآكلة، عودة بثوب المنقذ شكلاً وبحقيقة المستعمر فعلاً.

لقد أدرك محور المقاومة منذ البدء استراتيجية العدوان كما أدرك مشروعه الذي انقلب من مشروع التقسيم/ التفتيت الامتلاكي أو التملكي، الهادف إلى إنشاء دول واهنة صغيرة يكون قرارها جميعها بيد الأجنبي أميركا و«إسرائيل» ، انقلب الآن إلى مشروع تفتيتي احترابي تناحري يقوم على الفرز بين منطقتين أو فئتين واحدة قرارها بيد الغرب وواحدة تقاومه ثم دفع الجميع إلى الاحتراب الدائم، ولهذا يسمى المشروع الجديد بمشروع الحرب الدائمة، ومن أجل حماية إسرائيل من لظى النار المستعرة في الإقليم وخطر المقاومة، اتجه المخطط لإقامة حزام أمني درزي في جنوب سورية ولبنان.

ولأن محور المقاومة يعمل على بينة من الأمر ولأنه أدرك ذلك منذ البدء وتابع متغيرات وتقلبات العدوان في خططه، فإنه كان يضع في كل مرة استراتيجية دفاعية تناسب المقتضى لإجهاض الخطة التنفيذية للعدوان، وبهذا استطاع المحور إجهاض أربع خطط متتالية عمل بها خلال الأشهر الاثنين والخمسين من عمر العدوان، والآن كما يبدو أن العدوان اعتمد خطة جديدة جوهرها الحرب الصاخبة ذات الجبهات المتعددة، حرب يزج فيها وقود جديد يتم اختياره وفقاً لاستراتيجية القوة الناعمة التي ذكرنا. وبهذا الأمر نفسر سلوكيات متسارعة قام بها أركان العدوان أو خططوا لها كالتالي:

استقبال أوباما لسليم جبوري العراقي السني رئيس مجلس النواب، استقبال رؤساء الدول ووعده بتسليح وتدريب العشائر السنية دون المرور بالحكومة المركزية.

تدخل الأردن على خط تسليح العشائر السنية في شرق سورية وجنوب شرقي العراق.

عرض «إسرائيل» الحماية للدروز بإنشاء منطقة آمنة لهم تحت سيطرتها ونارها مستغلة المجزرة التي ارتكبتها جبهة النصرة في قلب لوزة في سورية والجبهة كما هو معروف تخضع للقرار «الإسرائيلي» أصلاً.

ارتكاب المجازر الوحشية في كل من حلب وحمص ودمشق في الآن نفسه في سياق الحرب الصاخبة للترويع.

وفي تقييم عام أو درس علمي عسكري استراتيجي عام للمشهد الدولي والمسرح الاستراتيجي الذي يدور حوله الصراع، يمكن القول بأن المواجهة أو الصراع ومع أفول شمس حزيران الجاري، تدخل دورتها الرابعة التي قد تكون الأخيرة ولكن الدورة لا تقل عن سنة كما سبق وظهر خلال الدورات السابقة وقد تصل إلى 20 شهراً ، دورة ستلقي فيها قيادة العدوان كل ما يمكن من أوراق قاسية وفاعلة من أجل تحقيق أهدافه ولهذا فإننا نرى كيف تكيف محور المقاومة مع المتغيرات ووضع خططه الدفاعية التي تناسبها وتضمن انتصاره النهائي في المحصلة، ونذكر أن الانتصار الذي نتحدث عنه هو انتصار مدافع يسعى إلى منع المهاجم المعتدي من تحقيق أهدافه وليس شيئاً آخر كما يظن البعض، أنه انتصار إرادة الحياة والسيادة والاستقلال بصرف النظر عن حجم الخسائر والثمن الذي يستلزم دفعه لتحقيقه.

وبهذا يجب أن نفهم حركة الميدان وجدول أوليات المواجهة التي يعتمدها محور المقاومة والقائمة على قواعد ثلاث:

تجنب المعارك الهامشية ذات المردود الضعيف والكلفة العالية أي التي لا تتناسب جدواها مع كلفتها.

المواجهة بذهنية القتال بالنفس الطويل انطلاقاً من أن المواجهة هي مع خصم لا يهزم بالانهيار الميداني الكلي أي بتدمير قوته العسكرية أميركا وحلفها وقادر على إبدال خطة فشلت بخطة توضع. ويكون المطلوب إفشال خطة وليس تدمير خصم.

المحافظة على المجتمع القادر على الحركة والإنتاج من أجل مد الحرب الدفاعية الطويلة باحتياجاتها بالقدر الممكن.

 

مداخلة ألقيت في 15/6/2015 في مركز طبارة ـ بيروت.

 

  • فريق ماسة
  • 2015-06-17
  • 12118
  • من الأرشيف

كيف نخرج من المحنة؟

في مواجهة ما يجري في المنطقة والمتغيّرات المتسارعة في ميدانها، تختلط الأمور ويشتبه على البعض تفسير هذا الموقف أو ذاك، سواء على صعيد ما تتخذه مكونات العدوان أو ما تبديه من ردات فعل ومواجهة تلتزمها مكونات محور المقاومة والدفاع عن المنطقة. وتصاعدت في الآونة الأخيرة أسئلة وارتسمت علامات استفهام حول هذا السلوك أو ذاك، ما يفرض التصدي لها بموضوعية وشفافية من أجل معرفة أين نحن وفي أي اتجاه نسير، ثم ما هو المطلوب لاستمرار هذه المواجهة التي نحدد بصددها. بداية نعود إلى المبادئ العامة التي تفرض أن يكون المدخل إلى علاج معضلة ما منطلقاً من تشخيص الحال وتحديد واقع المعالج وقدراته ومناعته. في حالتنا العربية والإقليمية ليس ابتكاراً أو كشف سر عظيم أن نقول إن المنطقة الآن في خضم حريق شامل أضرم فيها بقرار خارجي ويد محلية ـ إقليمية، ابتغت إسقاطها وإعادة صياغتها بما يناسب المخطط المعتدي، ووجدت المنطقة نفسها أمام خيارين: الاستسلام للمخطط وعودة الاستعمار بالصيغ الجديدة التي يحددها أو المقاومة لامتلاك القرار المستقل والسيادة. وفي الخيارات، انقسم أهل المنطقة بين الخيارين فأضيف إلى البعد الدولي الرئيسي للعدوان بعد محلي إقليمي اشتبهت على البعض أهميته، حتى ساوى بينه وبين أساسه الدولي وهذا خطأ فادح، لأن الحقيقة برأينا أن المنطقة تتعرض لعدوان خارجي اتخذ من عناصر محلية أدوات له، أما الجوهر فهو صراع بين مشروعين مشروع أجنبي استعماري ومشروع إقليمي تحرري. وكل كلام آخر يحف النقاش ويشتت الجهد، إذ يجب أن نعلم أن هناك عدواناً وهناك دفاعاً في مواجهته، دفاع يقوده محور المقاومة الإقليمي مستفيداً من دعم وتأييد يظهر أحياناً من جهات دولية فاعلة، جهات تقدر حجم تدخلها وفقاً لمصالحها وقدرتها على المبادرة والتحمل. وعلى هذا الأساس، خطط محور المقاومة دفاعه بعد أن تبين أو كشف استراتيجية العدو ومخططه، وهو سلوك منهجي في تخطيط أي دفاع، وعلى الصعيد الأول أي الاستراتيجية ظهر جلياً أن العدو يعتمد استراتيجية القوة الناعمة التي تقوم على أركان خمسة: فرز الشعوب على أساس إثني متعدد العناوين ونشر التخويف والخلاف بين الأقسام المحدثة. منع الحوار بين المكونات المجزأة وإفشال أي مسعى يهدف إلى إرساء تفاهم أو اتفاق بينها. دفع المكونات المجزأة إلى الاحتراب والتناحر حتى الاستنزاف والتآكل ومنع حسم المعركة لمواصلة النزيف جهداً وبشراً وثروة. المحافظة على الإمساك بمفاتيح التحكم بالمسرح ولعب دور الحكم المنقذ الذي يلجأ إليهم المحتربون ليفصل بينهم أو ليساعد أحدهم الآخر. عودة الأجنبي ليبسط السيطرة على الأجزاء المتآكلة، عودة بثوب المنقذ شكلاً وبحقيقة المستعمر فعلاً. لقد أدرك محور المقاومة منذ البدء استراتيجية العدوان كما أدرك مشروعه الذي انقلب من مشروع التقسيم/ التفتيت الامتلاكي أو التملكي، الهادف إلى إنشاء دول واهنة صغيرة يكون قرارها جميعها بيد الأجنبي أميركا و«إسرائيل» ، انقلب الآن إلى مشروع تفتيتي احترابي تناحري يقوم على الفرز بين منطقتين أو فئتين واحدة قرارها بيد الغرب وواحدة تقاومه ثم دفع الجميع إلى الاحتراب الدائم، ولهذا يسمى المشروع الجديد بمشروع الحرب الدائمة، ومن أجل حماية إسرائيل من لظى النار المستعرة في الإقليم وخطر المقاومة، اتجه المخطط لإقامة حزام أمني درزي في جنوب سورية ولبنان. ولأن محور المقاومة يعمل على بينة من الأمر ولأنه أدرك ذلك منذ البدء وتابع متغيرات وتقلبات العدوان في خططه، فإنه كان يضع في كل مرة استراتيجية دفاعية تناسب المقتضى لإجهاض الخطة التنفيذية للعدوان، وبهذا استطاع المحور إجهاض أربع خطط متتالية عمل بها خلال الأشهر الاثنين والخمسين من عمر العدوان، والآن كما يبدو أن العدوان اعتمد خطة جديدة جوهرها الحرب الصاخبة ذات الجبهات المتعددة، حرب يزج فيها وقود جديد يتم اختياره وفقاً لاستراتيجية القوة الناعمة التي ذكرنا. وبهذا الأمر نفسر سلوكيات متسارعة قام بها أركان العدوان أو خططوا لها كالتالي: استقبال أوباما لسليم جبوري العراقي السني رئيس مجلس النواب، استقبال رؤساء الدول ووعده بتسليح وتدريب العشائر السنية دون المرور بالحكومة المركزية. تدخل الأردن على خط تسليح العشائر السنية في شرق سورية وجنوب شرقي العراق. عرض «إسرائيل» الحماية للدروز بإنشاء منطقة آمنة لهم تحت سيطرتها ونارها مستغلة المجزرة التي ارتكبتها جبهة النصرة في قلب لوزة في سورية والجبهة كما هو معروف تخضع للقرار «الإسرائيلي» أصلاً. ارتكاب المجازر الوحشية في كل من حلب وحمص ودمشق في الآن نفسه في سياق الحرب الصاخبة للترويع. وفي تقييم عام أو درس علمي عسكري استراتيجي عام للمشهد الدولي والمسرح الاستراتيجي الذي يدور حوله الصراع، يمكن القول بأن المواجهة أو الصراع ومع أفول شمس حزيران الجاري، تدخل دورتها الرابعة التي قد تكون الأخيرة ولكن الدورة لا تقل عن سنة كما سبق وظهر خلال الدورات السابقة وقد تصل إلى 20 شهراً ، دورة ستلقي فيها قيادة العدوان كل ما يمكن من أوراق قاسية وفاعلة من أجل تحقيق أهدافه ولهذا فإننا نرى كيف تكيف محور المقاومة مع المتغيرات ووضع خططه الدفاعية التي تناسبها وتضمن انتصاره النهائي في المحصلة، ونذكر أن الانتصار الذي نتحدث عنه هو انتصار مدافع يسعى إلى منع المهاجم المعتدي من تحقيق أهدافه وليس شيئاً آخر كما يظن البعض، أنه انتصار إرادة الحياة والسيادة والاستقلال بصرف النظر عن حجم الخسائر والثمن الذي يستلزم دفعه لتحقيقه. وبهذا يجب أن نفهم حركة الميدان وجدول أوليات المواجهة التي يعتمدها محور المقاومة والقائمة على قواعد ثلاث: تجنب المعارك الهامشية ذات المردود الضعيف والكلفة العالية أي التي لا تتناسب جدواها مع كلفتها. المواجهة بذهنية القتال بالنفس الطويل انطلاقاً من أن المواجهة هي مع خصم لا يهزم بالانهيار الميداني الكلي أي بتدمير قوته العسكرية أميركا وحلفها وقادر على إبدال خطة فشلت بخطة توضع. ويكون المطلوب إفشال خطة وليس تدمير خصم. المحافظة على المجتمع القادر على الحركة والإنتاج من أجل مد الحرب الدفاعية الطويلة باحتياجاتها بالقدر الممكن.   مداخلة ألقيت في 15/6/2015 في مركز طبارة ـ بيروت.  

المصدر : العميد أمين حطيط


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة