على جبهة أوكرانيا وعلى جبهة نشر الأسلحة الاستراتيجية في المدى الأوروبي تبدو العلاقات الأميركية الروسية في إطار شدّ للحبال عالي الوتيرة، فهل يوحي هذا بالتصعيد العام في المناخات الدولية، بالتالي دعوة للاستعداد لتعقيدات تحيط بكلّ الملفات الإقليمية المرتبطة والمتأثرة بهذا المناخ الدولي؟ أو بالأحرى هل طرأ على الملفات الإقليمية ما يسمح للأميركي الذي كان يمهّد لترتيبات وتسويات في علاقته بروسيا تأخذ في الحسبان تطلعاتها وحساباتها، ما صار يسمح له بالعودة إلى المربّع الأول والاستغناء عن التفاهم مع روسيا كعنوان لاستراتيجيته الجديدة، باعتبار أنه لم يعد بحاجة إلى تسويات في ملفات تستدعي شراكة روسيا؟ فهل هناك في هذه الملفات ما تغيّر بما يسمح بالرهان على كسبها في الميدان وبلا تسويات وبلا تنسيق مع موسكو؟  

- كلّ وقائع التجاذب الأميركي الروسي خلال السنوات الخمس الماضية، بما فيها التصعيد الذي رعته واشنطن وحرّضت على مجاراتها فيه حلفاءها الأوروبيين في المسألة الأوكرانية وأخذها إلى التفجير، كانت دائماً على إيقاع القراءة الأميركية لموازين القوى المحيطة بمشاريعها الشرق الأوسطية وتسليمها بالحاجة إلى موسكو لكن بشروطها هي، وليس بالشروط الروسية العالية السقوف كما رسمها الرئيس فلاديمير بوتين صاحب الدعوة إلى تطبيق قاعدة الندية والتكافؤ في إدارة الملفات العالمية، والتصعيد لم يكن بالتالي ذهاباً إلى مكاسرة مفتوحة مع موسكو ولا التمهيد للتفاهم كان انهزاماً أمامها، بل كانت كلها عمليات تفاوض ساخن أو تفاوض بارد وفقاً للقراءات الأميركية للموازين، فكلما شعرت واشنطن أنّ خصومها في الشرق الأوسط أقوياء ولا قدرة على تعديل الموازين في وجههم، بدأت تخاطب موسكو بوقائع الاسترضاء في أوكرانيا وملفات الأمن الاستراتيجي في أوروبا، لأنّ هذه هي ملفات الرئيس بوتين، ومن خلالها ينظر إلى مكانة روسيا، وكلما شعرت واشنطن أنها تملك مع حلفائها رهانات على تغيير التوازنات الشرق الأوسطية، كانت تذهب إلى التصعيد في وجه موسكو، مرة لإشغالها وإرباكها بهمومها واهتماماتها، ومرة ثانية لإفهامها أنّ دورها في تسويات الشرق الأوسط يرتبط بتسويات تخصّ ملفات تعنيها أكثر، وعليها التفكير في المقايضات لا بالربح في كلّ الجبهات.

 

- حدث أكثر من مرة أن شاهدنا كيف كانت العلاقات الروسية الأميركية تتجه نحو التصعيد بخلفية الرهان الأميركي على فرض تنازلات روسية، وعبر روسيا تنازلات من حلفائها، والقصد دائماً ملفات الشرق الأوسط، ومتتبّع الحرب الأميركية على سورية وموقعها الحاسم بذاتها سعياً إلى تغيير موقع سورية في الجغرافيا السياسية للشرق الأوسط، أو بتداعيات هذا التغيير على كلّ من المقاومة وميزان الردع الذي أقامته في وجه «إسرائيل» أو على إيران وموقعها من الملفات الإقليمية، سيكتشف أنه مع كلّ يأس أميركي من نصر تحققه مباشرة أو تفرضه عبر مراهناتها بما في ذلك ما يتخطى أدوار حلفائها المباشرين إلى رهانها على تنظيم «القاعدة»، كان التصعيد يصير سيد الموقف في العلاقة الأميركية الروسية، وأنه في كلّ مرة تصل واشنطن إلى خلاصة مفادها أنه لم يعد بالإمكان أفضل مما كان، كانت تتجه واشنطن إلى الحلحلة مع روسيا، أملاً بإنقاذ ما يمكن إنقاذه عبر التفاوض طالما النصر وتسجيل النقاط لم يعد أمامهما من سبيل.

- هذه المرة تبدو مختلفة، فواشنطن تستهلك رهاناتها على حرب السعودية على اليمن، ومثلها على موقع الرئيس التركي رجب أردوغان في تشكيل حاضنة لتبييض «جبهة النصرة» ومحاولة فرضها في المعادلة السياسية السورية، كعنوان معتمد للمعارضة المعتدلة التي تمخضت كلّ محاولات تشكيلها عن فشل ذريع، وتستنفد الرهان على «النصرة» مرة وعلى «داعش» مرات، بعد إدخال قوات التنظيم برعاية أميركية مفضوحة إلى تدمر والرمادي، وبدأ بتلقي الضربات من تشكيلات النخبة في المقاومة، وعلى ضفة موازية يبدو سقف الخلخلة التي تتوقعها واشنطن لمناطق الحدود السورية الشمالية والجنوبية، سواء عبر اللعب شمالاً على وتر الانفصالية الكردية أو الخوف والذعر من المجازر لدى الدروز في منطقة الجنوب، محكوم بمحدودية قدرة شريط حدودي رقيق على الحياة، ولو قدّمت له واشنطن الغطاء كمشروع استقلال كردي، بينما يبدو المشروع الذي فوّض وليد جنبلاط بإدارته تحت عنوان «الحياد الدرزي» يجابَه برفض شديد في جبل العرب من القادة والفاعليات والأهالي، الذين توافقوا على خيار خوض المواجهة ضدّ «النصرة» و«داعش» ضمن تشكيلات الدولة السورية وجيشها، فعلام يمكن لواشنطن أن تراهن؟

- يبدو الأقرب ضمن المشهد الإجمالي الذي تنشأ فيه منصة التفاوض حول الملف اليمني، وتنشأ مثلها منصة التفاوض حول الأزمة السورية، ويجري تفعيل المنصتين بتحريك كلّ من المبعوثين الأمميّين إليهما إسماعيل ولد شيخ احمد وستيفان دي ميستورا، وفي الوقت الذي يقترب الملف النووي الإيراني من لحظات خط النهاية، ويعلن وزير الخارجية الأميركي جون كيري استعداد إدارته لرفع العقوبات عن إيران، قبل إنجاز التحقق من الشكوك القديمة حول الملف النووي ووجود بعد عسكري له، وهو ما تصرّ دول الغرب على تفتيش المنشآت العسكرية الإيرانية واستجواب العلماء الإيرانيين لأجله، ما يعني حركة أميركية استباقية لرفض فرنسي بريطاني لبلورة تفاهم نهائي من دون قبول إيران بهذه المطالب الغربية، وإعلاناً أميركياً بالرغبة في تسهيل التفاهم، ما يشير إلى أنّ المنصات التفاوضية المكتملة لا تنقصها إلا المنصة الروسية.

- التصعيد الأميركي محسوب، وطابعه كلامي، لكنه في الجوهر، تراجع عن خيار التصعيد في أوكرانيا عبر التأكيد على الحلّ التفاوضي، وفي الشق العسكري نشر قوات أميركية في أوروبا يبدو بديلاً عن الدرع الصاروخية من جهة، وبديلاً عن الدعوات لضمّ دول تعترض موسكو على انضمامها إلى الحلف الأطلسي، ويبدو أنّ الردّ الروسي بنشر صواريخ نووية إضافية في المجال الأوروبي جواباً متوقعاً من الأميركيين، لإطلاق منصة تفاوض روسية أميركية تواكب المنصات التفاوضية الأخرى.

- إشارة إلى فتح مسارات التفاوض وليست إشارة إلى إغلاقها.

  • فريق ماسة
  • 2015-06-17
  • 9034
  • من الأرشيف

توتر وارتباك أميركي مع روسيا

  على جبهة أوكرانيا وعلى جبهة نشر الأسلحة الاستراتيجية في المدى الأوروبي تبدو العلاقات الأميركية الروسية في إطار شدّ للحبال عالي الوتيرة، فهل يوحي هذا بالتصعيد العام في المناخات الدولية، بالتالي دعوة للاستعداد لتعقيدات تحيط بكلّ الملفات الإقليمية المرتبطة والمتأثرة بهذا المناخ الدولي؟ أو بالأحرى هل طرأ على الملفات الإقليمية ما يسمح للأميركي الذي كان يمهّد لترتيبات وتسويات في علاقته بروسيا تأخذ في الحسبان تطلعاتها وحساباتها، ما صار يسمح له بالعودة إلى المربّع الأول والاستغناء عن التفاهم مع روسيا كعنوان لاستراتيجيته الجديدة، باعتبار أنه لم يعد بحاجة إلى تسويات في ملفات تستدعي شراكة روسيا؟ فهل هناك في هذه الملفات ما تغيّر بما يسمح بالرهان على كسبها في الميدان وبلا تسويات وبلا تنسيق مع موسكو؟   - كلّ وقائع التجاذب الأميركي الروسي خلال السنوات الخمس الماضية، بما فيها التصعيد الذي رعته واشنطن وحرّضت على مجاراتها فيه حلفاءها الأوروبيين في المسألة الأوكرانية وأخذها إلى التفجير، كانت دائماً على إيقاع القراءة الأميركية لموازين القوى المحيطة بمشاريعها الشرق الأوسطية وتسليمها بالحاجة إلى موسكو لكن بشروطها هي، وليس بالشروط الروسية العالية السقوف كما رسمها الرئيس فلاديمير بوتين صاحب الدعوة إلى تطبيق قاعدة الندية والتكافؤ في إدارة الملفات العالمية، والتصعيد لم يكن بالتالي ذهاباً إلى مكاسرة مفتوحة مع موسكو ولا التمهيد للتفاهم كان انهزاماً أمامها، بل كانت كلها عمليات تفاوض ساخن أو تفاوض بارد وفقاً للقراءات الأميركية للموازين، فكلما شعرت واشنطن أنّ خصومها في الشرق الأوسط أقوياء ولا قدرة على تعديل الموازين في وجههم، بدأت تخاطب موسكو بوقائع الاسترضاء في أوكرانيا وملفات الأمن الاستراتيجي في أوروبا، لأنّ هذه هي ملفات الرئيس بوتين، ومن خلالها ينظر إلى مكانة روسيا، وكلما شعرت واشنطن أنها تملك مع حلفائها رهانات على تغيير التوازنات الشرق الأوسطية، كانت تذهب إلى التصعيد في وجه موسكو، مرة لإشغالها وإرباكها بهمومها واهتماماتها، ومرة ثانية لإفهامها أنّ دورها في تسويات الشرق الأوسط يرتبط بتسويات تخصّ ملفات تعنيها أكثر، وعليها التفكير في المقايضات لا بالربح في كلّ الجبهات.   - حدث أكثر من مرة أن شاهدنا كيف كانت العلاقات الروسية الأميركية تتجه نحو التصعيد بخلفية الرهان الأميركي على فرض تنازلات روسية، وعبر روسيا تنازلات من حلفائها، والقصد دائماً ملفات الشرق الأوسط، ومتتبّع الحرب الأميركية على سورية وموقعها الحاسم بذاتها سعياً إلى تغيير موقع سورية في الجغرافيا السياسية للشرق الأوسط، أو بتداعيات هذا التغيير على كلّ من المقاومة وميزان الردع الذي أقامته في وجه «إسرائيل» أو على إيران وموقعها من الملفات الإقليمية، سيكتشف أنه مع كلّ يأس أميركي من نصر تحققه مباشرة أو تفرضه عبر مراهناتها بما في ذلك ما يتخطى أدوار حلفائها المباشرين إلى رهانها على تنظيم «القاعدة»، كان التصعيد يصير سيد الموقف في العلاقة الأميركية الروسية، وأنه في كلّ مرة تصل واشنطن إلى خلاصة مفادها أنه لم يعد بالإمكان أفضل مما كان، كانت تتجه واشنطن إلى الحلحلة مع روسيا، أملاً بإنقاذ ما يمكن إنقاذه عبر التفاوض طالما النصر وتسجيل النقاط لم يعد أمامهما من سبيل. - هذه المرة تبدو مختلفة، فواشنطن تستهلك رهاناتها على حرب السعودية على اليمن، ومثلها على موقع الرئيس التركي رجب أردوغان في تشكيل حاضنة لتبييض «جبهة النصرة» ومحاولة فرضها في المعادلة السياسية السورية، كعنوان معتمد للمعارضة المعتدلة التي تمخضت كلّ محاولات تشكيلها عن فشل ذريع، وتستنفد الرهان على «النصرة» مرة وعلى «داعش» مرات، بعد إدخال قوات التنظيم برعاية أميركية مفضوحة إلى تدمر والرمادي، وبدأ بتلقي الضربات من تشكيلات النخبة في المقاومة، وعلى ضفة موازية يبدو سقف الخلخلة التي تتوقعها واشنطن لمناطق الحدود السورية الشمالية والجنوبية، سواء عبر اللعب شمالاً على وتر الانفصالية الكردية أو الخوف والذعر من المجازر لدى الدروز في منطقة الجنوب، محكوم بمحدودية قدرة شريط حدودي رقيق على الحياة، ولو قدّمت له واشنطن الغطاء كمشروع استقلال كردي، بينما يبدو المشروع الذي فوّض وليد جنبلاط بإدارته تحت عنوان «الحياد الدرزي» يجابَه برفض شديد في جبل العرب من القادة والفاعليات والأهالي، الذين توافقوا على خيار خوض المواجهة ضدّ «النصرة» و«داعش» ضمن تشكيلات الدولة السورية وجيشها، فعلام يمكن لواشنطن أن تراهن؟ - يبدو الأقرب ضمن المشهد الإجمالي الذي تنشأ فيه منصة التفاوض حول الملف اليمني، وتنشأ مثلها منصة التفاوض حول الأزمة السورية، ويجري تفعيل المنصتين بتحريك كلّ من المبعوثين الأمميّين إليهما إسماعيل ولد شيخ احمد وستيفان دي ميستورا، وفي الوقت الذي يقترب الملف النووي الإيراني من لحظات خط النهاية، ويعلن وزير الخارجية الأميركي جون كيري استعداد إدارته لرفع العقوبات عن إيران، قبل إنجاز التحقق من الشكوك القديمة حول الملف النووي ووجود بعد عسكري له، وهو ما تصرّ دول الغرب على تفتيش المنشآت العسكرية الإيرانية واستجواب العلماء الإيرانيين لأجله، ما يعني حركة أميركية استباقية لرفض فرنسي بريطاني لبلورة تفاهم نهائي من دون قبول إيران بهذه المطالب الغربية، وإعلاناً أميركياً بالرغبة في تسهيل التفاهم، ما يشير إلى أنّ المنصات التفاوضية المكتملة لا تنقصها إلا المنصة الروسية. - التصعيد الأميركي محسوب، وطابعه كلامي، لكنه في الجوهر، تراجع عن خيار التصعيد في أوكرانيا عبر التأكيد على الحلّ التفاوضي، وفي الشق العسكري نشر قوات أميركية في أوروبا يبدو بديلاً عن الدرع الصاروخية من جهة، وبديلاً عن الدعوات لضمّ دول تعترض موسكو على انضمامها إلى الحلف الأطلسي، ويبدو أنّ الردّ الروسي بنشر صواريخ نووية إضافية في المجال الأوروبي جواباً متوقعاً من الأميركيين، لإطلاق منصة تفاوض روسية أميركية تواكب المنصات التفاوضية الأخرى. - إشارة إلى فتح مسارات التفاوض وليست إشارة إلى إغلاقها.

المصدر : ناصر قنديل


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة