في عالم العرب اليوم أزمة مركزية وأزمات لا مركزية. الأزمة المركزية ليست جماع الأزمات اللامركزية بل مصدرها.

 هي مركزية بمعنى أنها أساسية ومحورية ومنبع الأزمات القُطرية اللامركزية. أما اللامركزية فتعني عدم تمحّور الأزمة القُطرية حول قضية واحدة، مفردة، بل تشعّبها إلى قضايا ومسارات متعددة.

أزمة العرب المركزية ناجمة عن أسباب وعوامل خمسة رئيسة:

أولها، تعدديةٌ عميقة، شاملة ومرهقة طبعت حال العرب على مرّ الأزمان والعصور. قوام هذه التعددية مكوّنات شتى: قبائل، طوائف، مذاهب، اثنيات، وثقافات متمايزة ومتداخلة في النسيج المجتمعي في مختلف البلدان العربية.

ثانيها، ظاهرةُ التعددية العميقة حالت دون قيام سلطة أو سلطات مركزية قوية الأمر الذي أضعف الجسم العربي وأوجد لديه قابلية الرضوخ لأقوام وسلطات غير عربية. أليس لافتاً أن عمر الإسلام نحو 1434 سنة، حكم العرب خلالها حكام أجانب لمدة ألف سنة؟

ثالثها، هزالُ النظام العربي الناجم عن العامليَن الآنفي الذكر من جهة، وإخفاق العرب في إقامة دول وطنية قادرة وعادلة في مختلف أقطارهم من جهة أخرى مكّنا قوى خارجية طامعة من غزو الوطن العربي، واستغلال موارده وثرواته الطبيعية، واستدخال الكيان الصهيوني في قلبه، والهيمنة على مقدراته.

رابعها، الانهيار المتدرج للنظام العربي منذ هزيمة 1967، أدى لاحقاً إلى انهياره الكامل مع اندلاع انتفاضات ما يسمى «الربيع العربي» ونجاح الولايات المتحدة وتركيا و«إسرائيل» من ناحية وإيران من ناحية مقابلة، في اختراقها وتوجيه معظم تياراتها وقياداتها وجهةً تخدم مخططات كلٍ منها ما أدى إلى استشراء فوضى شاملة واضطرابات أمنية وحروب أهلية وطائفية.

خامسها، افتقارُ العرب منذ 2011 إلى مرجعية مركزية فاعلة أعلى من الكيانات القُطرية اللامركزية الهزيلة المتهافتة الأمر الذي عزز نفوذ قوى خارجية متعددة، ولا سيما الولايات المتحدة، وأتاح لها فرصاً وفيرة للتدخل في الأزمات القُطرية اللامركزية وتوجيه الصراعات الناشبة خلالها وجهةً تخدم مخططاتها ومصالحها.

نتيجةً للأزمة العربية المركزية الراهنة والأزمات القُطرية اللامركزية المتناسلة، لم يبقَ للعرب قضية مركزية. فلسطين فقدت مركزيتها في حياة العرب السياسية تدريجاً منذ حرب «إسرائيل» الأولى على لبنان عام 1982 التي أدت إلى ترحيل منظمة التحرير الفلسطينية بجميع فصائلها إلى تونس. اليوم بات لكلٍ قُطر عربي قضيته المركزية الخاصة في غمرة أزماته اللامركزية المتشعّبة والمتعقّدة.

ثمة أزمات لامركزية قُطرية خمسة: اليمن، العراق، سورية، ليبيا وفلسطين. أخطرُها الصراع في اليمن وعليه بما هو أزمة داخلية متطورة نحو أزمة، وربما حرب، إقليمية. ذلك أن القيادة السعودية استقرت على موقف حاسم من تفاهم لوزان النووي بين إيران ومجموعة دول 1+5 الذي يؤدي، في تقديرها، إلى دعم نفوذ إيران الإقليمي وتشجيعها على التوسع وتعزيز أوضاع حلفائها الإقليميين وبالتالي اتخاذ الشقاق السنّي الشيعي واتخاذه أبعاداً جديدة أكثر عنفاً وتدميراً.

هكذا يتضح أن السعودية اتخذت قراراً استباقياً للحدّ من تنامي قدرات إيران بمحاولة استنزافها في اليمن. في المقابل، تتجه إيران، على ما يبدو، إلى مجابهة الحملة السعودية على خطين: الأول، عسكري بتعزيز قدرات حركة «أنصار الله» وحلفائها. والثاني، دبلوماسي بتشديد الدعوة إلى تسوية الصراعات بين الأطراف اليمنيين سياسياً وحثهم على عقد طاولة حوار وطني جامع في عاصمة دولة لا تشارك في الحرب الدائرة.

«إسرائيل» يُسعدها احتدام الصراع في اليمن واستنزاف إيران. ثمة فريق بين قيادييها المتطرفين يتوقع أن يؤدي استنزافها المفترض إلى إضعافها ما يتيح للولايات المتحدة و«إسرائيل» فرصةً لتدمير منشآتها النووية، خصوصاً إذا ما رفضت الرضوخ، قبل آخر حزيران المقبل، إلى اتفاق نهائي يتضمن ضوابط متشددة، أميركية و«إسرائيلية».

للصراع بين السعودية وإيران بُعد آخر لا يقل خطورة عن بعده اليمني. إنه تأجيج الصراع في كلٍ من سورية والعراق ولبنان بقصد استنزاف إيران وانعكاس ذلك سلباً على حلفائها الإقليميين ولا سيما المقاومة اللبنانية حزب الله والمقاومة الفلسطينية «حماس» و«الجهاد الإسلامي» . في هذا المجال، يُخشى أن تُقدِم «إسرائيل» على خطوة أمنية مؤذية في لبنان أو سورية أو في كليهما بقصد تخريب تفاهم لوزان النووي بين أميركا وإيران.

حزب الله استشعر خطورة الخطوة الأمنية «الإسرائيلية» المحتملة فردّ، بلسان أمينه العام السيد حسن نصر الله، بتأجيج الحملة السياسية والإعلامية ضد السعودية ولمّح إلى احتمال قيام حركة «أنصار الله» والجيش اليمني وحلفاؤهما بالرد عسكرياً داخل الأراضي السعودية.

لئن يبدو التدخل البري السعودي احتمالاً مُستبعَداً في الوقت الحاضر، فإنه ليس أمراً مستحيلاً. ذلك أن القيادة السعودية أعطت نفسها هامشاً واسعاً للمناورة والحركة، بالتفاهم مع واشنطن أو من دونه، ما قد يؤدي إلى تطورات بالغة الحدّة والخطورة.

في موازاة هذه الصراعات المحتدمة، يندلع صراع صامت بين الرئيس باراك أوباما ومعارضيه الجمهوريين في الكونغرس. فقد نجح الجمهوريون في إقناع بعض الأعضاء الديمقراطيين في لجنة الشؤون الخارجية لمجلس الشيوخ بمساندة تسوية محورها قرار يعطي الكونغرس الحق بالتصويت على أي صفقة دولية تتعلق بكبح البرنامج النووي الإيراني.

كيف سيردّ أوباما؟ هل يرضخ لإرادة الغالبية الجمهورية في الكونغرس الممالئة لـ «إسرائيل» أم ينتهج سياسة أقل عداء وأكثر ليونة تجاه خصوم السعودية و»إسرائيل» في اليمن والعراق وسورية كونهم يواجهون في الداخل عدواً مشتركاً شرساً اسمه الإرهاب الأعمى متمثلاً بتنظيميّ «داعش» و«جبهة النصرة» اللذين تعتبرهما واشنطن عدوين لدودين؟

الصراع مفتوح على شتى الاحتمالات، وكذلك أزمة العرب المركزية وأزماتهم القُطرية اللامركزية المتناسلة.

  • فريق ماسة
  • 2015-04-19
  • 9376
  • من الأرشيف

أزمة عربية مركزية أنجبت أزمات قُطرية لا مركزية

في عالم العرب اليوم أزمة مركزية وأزمات لا مركزية. الأزمة المركزية ليست جماع الأزمات اللامركزية بل مصدرها.  هي مركزية بمعنى أنها أساسية ومحورية ومنبع الأزمات القُطرية اللامركزية. أما اللامركزية فتعني عدم تمحّور الأزمة القُطرية حول قضية واحدة، مفردة، بل تشعّبها إلى قضايا ومسارات متعددة. أزمة العرب المركزية ناجمة عن أسباب وعوامل خمسة رئيسة: أولها، تعدديةٌ عميقة، شاملة ومرهقة طبعت حال العرب على مرّ الأزمان والعصور. قوام هذه التعددية مكوّنات شتى: قبائل، طوائف، مذاهب، اثنيات، وثقافات متمايزة ومتداخلة في النسيج المجتمعي في مختلف البلدان العربية. ثانيها، ظاهرةُ التعددية العميقة حالت دون قيام سلطة أو سلطات مركزية قوية الأمر الذي أضعف الجسم العربي وأوجد لديه قابلية الرضوخ لأقوام وسلطات غير عربية. أليس لافتاً أن عمر الإسلام نحو 1434 سنة، حكم العرب خلالها حكام أجانب لمدة ألف سنة؟ ثالثها، هزالُ النظام العربي الناجم عن العامليَن الآنفي الذكر من جهة، وإخفاق العرب في إقامة دول وطنية قادرة وعادلة في مختلف أقطارهم من جهة أخرى مكّنا قوى خارجية طامعة من غزو الوطن العربي، واستغلال موارده وثرواته الطبيعية، واستدخال الكيان الصهيوني في قلبه، والهيمنة على مقدراته. رابعها، الانهيار المتدرج للنظام العربي منذ هزيمة 1967، أدى لاحقاً إلى انهياره الكامل مع اندلاع انتفاضات ما يسمى «الربيع العربي» ونجاح الولايات المتحدة وتركيا و«إسرائيل» من ناحية وإيران من ناحية مقابلة، في اختراقها وتوجيه معظم تياراتها وقياداتها وجهةً تخدم مخططات كلٍ منها ما أدى إلى استشراء فوضى شاملة واضطرابات أمنية وحروب أهلية وطائفية. خامسها، افتقارُ العرب منذ 2011 إلى مرجعية مركزية فاعلة أعلى من الكيانات القُطرية اللامركزية الهزيلة المتهافتة الأمر الذي عزز نفوذ قوى خارجية متعددة، ولا سيما الولايات المتحدة، وأتاح لها فرصاً وفيرة للتدخل في الأزمات القُطرية اللامركزية وتوجيه الصراعات الناشبة خلالها وجهةً تخدم مخططاتها ومصالحها. نتيجةً للأزمة العربية المركزية الراهنة والأزمات القُطرية اللامركزية المتناسلة، لم يبقَ للعرب قضية مركزية. فلسطين فقدت مركزيتها في حياة العرب السياسية تدريجاً منذ حرب «إسرائيل» الأولى على لبنان عام 1982 التي أدت إلى ترحيل منظمة التحرير الفلسطينية بجميع فصائلها إلى تونس. اليوم بات لكلٍ قُطر عربي قضيته المركزية الخاصة في غمرة أزماته اللامركزية المتشعّبة والمتعقّدة. ثمة أزمات لامركزية قُطرية خمسة: اليمن، العراق، سورية، ليبيا وفلسطين. أخطرُها الصراع في اليمن وعليه بما هو أزمة داخلية متطورة نحو أزمة، وربما حرب، إقليمية. ذلك أن القيادة السعودية استقرت على موقف حاسم من تفاهم لوزان النووي بين إيران ومجموعة دول 1+5 الذي يؤدي، في تقديرها، إلى دعم نفوذ إيران الإقليمي وتشجيعها على التوسع وتعزيز أوضاع حلفائها الإقليميين وبالتالي اتخاذ الشقاق السنّي الشيعي واتخاذه أبعاداً جديدة أكثر عنفاً وتدميراً. هكذا يتضح أن السعودية اتخذت قراراً استباقياً للحدّ من تنامي قدرات إيران بمحاولة استنزافها في اليمن. في المقابل، تتجه إيران، على ما يبدو، إلى مجابهة الحملة السعودية على خطين: الأول، عسكري بتعزيز قدرات حركة «أنصار الله» وحلفائها. والثاني، دبلوماسي بتشديد الدعوة إلى تسوية الصراعات بين الأطراف اليمنيين سياسياً وحثهم على عقد طاولة حوار وطني جامع في عاصمة دولة لا تشارك في الحرب الدائرة. «إسرائيل» يُسعدها احتدام الصراع في اليمن واستنزاف إيران. ثمة فريق بين قيادييها المتطرفين يتوقع أن يؤدي استنزافها المفترض إلى إضعافها ما يتيح للولايات المتحدة و«إسرائيل» فرصةً لتدمير منشآتها النووية، خصوصاً إذا ما رفضت الرضوخ، قبل آخر حزيران المقبل، إلى اتفاق نهائي يتضمن ضوابط متشددة، أميركية و«إسرائيلية». للصراع بين السعودية وإيران بُعد آخر لا يقل خطورة عن بعده اليمني. إنه تأجيج الصراع في كلٍ من سورية والعراق ولبنان بقصد استنزاف إيران وانعكاس ذلك سلباً على حلفائها الإقليميين ولا سيما المقاومة اللبنانية حزب الله والمقاومة الفلسطينية «حماس» و«الجهاد الإسلامي» . في هذا المجال، يُخشى أن تُقدِم «إسرائيل» على خطوة أمنية مؤذية في لبنان أو سورية أو في كليهما بقصد تخريب تفاهم لوزان النووي بين أميركا وإيران. حزب الله استشعر خطورة الخطوة الأمنية «الإسرائيلية» المحتملة فردّ، بلسان أمينه العام السيد حسن نصر الله، بتأجيج الحملة السياسية والإعلامية ضد السعودية ولمّح إلى احتمال قيام حركة «أنصار الله» والجيش اليمني وحلفاؤهما بالرد عسكرياً داخل الأراضي السعودية. لئن يبدو التدخل البري السعودي احتمالاً مُستبعَداً في الوقت الحاضر، فإنه ليس أمراً مستحيلاً. ذلك أن القيادة السعودية أعطت نفسها هامشاً واسعاً للمناورة والحركة، بالتفاهم مع واشنطن أو من دونه، ما قد يؤدي إلى تطورات بالغة الحدّة والخطورة. في موازاة هذه الصراعات المحتدمة، يندلع صراع صامت بين الرئيس باراك أوباما ومعارضيه الجمهوريين في الكونغرس. فقد نجح الجمهوريون في إقناع بعض الأعضاء الديمقراطيين في لجنة الشؤون الخارجية لمجلس الشيوخ بمساندة تسوية محورها قرار يعطي الكونغرس الحق بالتصويت على أي صفقة دولية تتعلق بكبح البرنامج النووي الإيراني. كيف سيردّ أوباما؟ هل يرضخ لإرادة الغالبية الجمهورية في الكونغرس الممالئة لـ «إسرائيل» أم ينتهج سياسة أقل عداء وأكثر ليونة تجاه خصوم السعودية و»إسرائيل» في اليمن والعراق وسورية كونهم يواجهون في الداخل عدواً مشتركاً شرساً اسمه الإرهاب الأعمى متمثلاً بتنظيميّ «داعش» و«جبهة النصرة» اللذين تعتبرهما واشنطن عدوين لدودين؟ الصراع مفتوح على شتى الاحتمالات، وكذلك أزمة العرب المركزية وأزماتهم القُطرية اللامركزية المتناسلة.

المصدر : د. عصام نعمان- البناء


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة