ليست المرة الأولى التي يشن فيها رئيس الجمهورية التركية رجب طيب أردوغان انتقادات لاذعة الى ايران ومسؤوليها على خلفية دورها في المنطقة، من اليمن الى سوريا والعراق ولبنان وغيرها.

 وبالنظر الى توقيت التصريحات والمرحلة التي يمر فيها أردوغان شخصياً في الداخل التركي وعلى الصعيد الخارجي، فإن مثل هذه التصريحات تصبح مفهومة من أكثر من زاوية.

 وعشية زيارته لطهران، بعد غد، يعرف أردوغان، وطهران تعرف، أن اهتزاز العلاقات بين الطرفين هو من المحرّمات بمعزل عمّن يكون حاكماً سواء في انقرة أو في طهران.

ومن الأدلة على ذلك ان الزيارات المتبادلة بين مسؤولي البلدين لم تنقطع منذ عقود، حتى في ذروة التوتر بينهما بسبب الوضع في سوريا او العراق او غيرهما.

ويدرك الطرفان الحاجة الماسة لكل منهما للآخر سياسياً واقتصادياً، خصوصا في ظل مرور المنطقة في تموجات غير مسبوقة تهدد الجميع.

ويضع أردوغان هدفين أساسيين له في المرحلة الحالية: الاول داخلي، وهو تحقيق الانتقال الى النظام الرئاسي. والثاني خارجي، وهو الاستمرار في السعي لتحقيق هدف إسقاط الرئيس السوري بشار الأسد.

1- في الداخل، يفصل شهران فقط تركيا عن الانتخابات النيابية في السابع من حزيران المقبل، وهي انتخابات مصيرية ليس لـ «حزب العدالة والتنمية» فحسب، بل أيضا لأردوغان نفسه الذي يريد أن يعدل الدستور لينقل البلاد من النظام البرلماني الى نظام رئاسي يكون فيه رئيس الجمهورية هو المتحكم بالسلطة التنفيذية خارج أي عرقلة جدية من البرلمان.

وكما عادته عشية كل انتخابات نيابية أو بلدية او رئاسية، يصعّد أردوغان في خطابه ومواقفه في اتجاهين قومي ومذهبي، وهذا النهج حقق له نجاحات في الماضي.

ومع أنه رئيس للجمهورية، ويفترض ان يقف على الحياد في صراع الأحزاب في الانتخابات النيابية، الا ان اردوغان يتصرف كما لو أنه هو رئيس «حزب العدالة والتنمية» والحكومة، وليس أحمد داود أوغلو، وهو يتصرف كما لو انه طرف مباشر.

الخطاب القومي لأردوغان تصاعد في الأسابيع الأخيرة، ومع أنه هو مهندس المفاوضات مع زعيم «حزب العمال الكردستاني» عبد الله اوجلان، الا ان عدم حصوله على ما يرضيه من نداء القائد التركي في عيد النوروز من «استسلام» وإلقاء «الكردستاني» لسلاحه، جعله يصعّد موقفه تجاه الأكراد الى درجة القول انه لم تعد هناك مشكلة كردية في تركيا!

في إطار هدفه في تسعير النزعة القومية، وبعدما خاض حربا شعواء ضد المؤسسة العسكرية، وبنى كل صورته «الديموقراطية» على محاربته لنفوذ العسكر في السياسة من خلال محاكمة كبار الجنرالات بتهمة التخطيط لانقلاب عسكري ضده بين العامين 2003 و 2010 في ما عرف بـ «قضية المطرقة» و «قضية أرغينيكون» وقضايا أخرى، ها هو أردوغان يحرك القضاء التركي الذي بات ألعوبة بيد «حزب العدالة والتنمية» ليبرئ دفعة واحدة كل هؤلاء الجنرالات، وعددهم يتجاوز الـ250، وكل ذلك من أجل هدف واحد، وهو إبقاء المؤسسة العسكرية، المعروفة بعدائها الشديد للأكراد، الى جانبه، وتعزيز دعم التيارات القومية المتشددة له أي لـ «حزب العدالة والتنمية».

2- أما في الخارج، فإن أردوغان لم يبرح بوصلة تركيزه على النظام في سوريا والرئيس بشار الأسد تحديدا.

ودائما ما يربط اردوغان بين أي قضية وبين مسألة ضرورة رحيل الرئيس السوري بحيث بات الأسد بمثابة الملح الذي يدخل في كل وجبة طعام أردوغانية.

وتدخُل مواقف أردوغان الأخيرة من المسألة اليمنية ومن السياسة الإيرانية في اليمن وفي المنطقة في عنوانين أساسيين: داخلي وخارجي.

أ- في العنوان الداخلي، يريد أردوغان من مواقفه الأخيرة ضد ايران تأجيج النزعة المذهبية عشية الانتخابات النيابية، وهي بالطبع ليست المرة الأولى التي يستخدم فيها الخطاب المذهبي، بل ان هذا النهج من ثوابته منذ ان وصل الى السلطة لكنه ازداد في السنوات الأخيرة.

ومن خلال توجيه الانتقاد الى ايران ووقوفها الى جانب الحوثيين «الارهابيين» - حرفيا كما وصفهم - بل دعوة الجمهورية الاسلامية الى الانسحاب، كما من اليمن، كذلك من سوريا والعراق، يريد اردوغان ان يظهر كجزء من تحالف "سني"، يجد، عشية الانتخابات النيابية، صدى له في القاعدة الشعبية "السنية الداخلية المعبأة أصلا منذ قرون ضد "العلويين والشيعة.

ب- اما في العنوان الخارجي، فإن توظيف أردوغان لتصريحاته ضد ايران وموقفها في اليمن وسوريا والعراق يهدف الى ثلاثة أمور:

الهدف الأول أن يخفف من العزلة التي وجد نفسه فيها عربيا ودوليا، خصوصاً بعد الخلاف بينه وبين كل من مصر والسعودية ودول الخليج العربي بسبب الموقف من حركة «الإخوان المسلمين» في مصر وتونس وليبيا وحتى في اليمن. لكن هذا الهدف ليس في متناول اليد بالسهولة التي يعتقدها أردوغان، فما بين تركيا والسعودية، أي بين الاسلام التركي وبين الحركة الوهابية من تباينات وخلافات وصراعات وحروب دموية سابقاً، لن يردمه موقف من هنا، او وقفة من هناك. وما يمكن ان يجمع الطرفين سياسيا ليس أكثر من تقاطع مصالح في لحظة ظرفية محددة. ومن الأدلة على ذلك ان الود الأردوغاني للسعودية لم يمنع صحيفة «يني شفق» المؤيدة لأردوغان من نشر صور للضحايا المدنيين في اليمن، والإشارة الى ان الطائرت السعودية لم توفر المدنيين من قصفها. كما لم تمنع رئيس تحرير الصحيفة ابراهيم قره غول من الحديث عن «الأخطاء الكبرى» للسعودية في ضرب «الإخوان المسلمين».

والجدير بالذكر ان حدود الدعم التركي إذا حصل لن يتعدى الدعم اللوجستي والاستخباراتي الذي لا يقدم ولا يؤخر. ويدرك أردوغان ان الفضاء الجيو - استراتيجي لتركيا مختلف عن مثيله السعودي، فتركيا لها مصالح وعلاقات اقتصادية قوية جدا مع روسيا ومع ايران. وبالرغم من أن انقرة ستكون من أكثر القلقين من الاتفاق النووي على صعيد تمدد التأثير السياسي لإيران في المنطقة على حساب قوى اخرى ومنها تركيا، غير أنها ستكون من أكثر المستفيدين منه لجهة انفتاح السوق الايرانية أمام المنتجات والاستثمارات التركية بعد رفع العقوبات التي كانت تكبح المزيد من تطوير العلاقات الاقتصادية الثنائية.

كذلك، فإنّ أردوغان لا يستطيع، خصوصا في ظل الظرف الانتخابي الداخلي في تركيا، أن يتراجع بسهولة عن موقفه من الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي الذي، بكسره «الإخوان المسلمين» في مصر، إنما كان يكسر الجناح الآخر للمشروع العثماني في المنطقة، بعدما كان الجناح الأول قد انكسر في سوريا.

أما الهدف الثاني لأردوغان من تصريحاته ضد ايران، فيفصح عنه القسم الثاني منها، فدعوة أردوغان إيران الى الانسحاب هي و»المجموعات الإرهابية» من اليمن يمكن تفهم ظروفها في ظل الهجمة السعودية على اليمن. لكن ان يوسع دائرة استهدافه لإيران بمطالبته لها بالإنسحاب من سوريا والعراق فهو أمر يتخطى الظرف الآني المتصل باليمن ليعيد تصويب البوصلة اولاً على الأسد، وثانياً على العراق.

ويخشى أردوغان ان تؤدي احداث اليمن الى تراجع الاهتمام بالوضع في سوريا، لأنه في النهاية لكل دولة اولويات. فكما سوريا والعراق أولوية تركية، فإن اليمن في هذه اللحظة تحديدا، أولوية سعودية.

ويريد أردوغان أن يحول دون تراجع التركيز على سوريا. وفي هذا الإطار جاءت معركة أدلب وإسقاط المدينة بدعم مكشوف وواضح من النظام في تركيا، كما الإعلان عن سيطرة «داعش» على مخيم اليرموك.

اما الهدف الثالث، فهو أن أردوغان يريد أن يستبق بعض التطورات في العراق. وبما أن معركة تكريت وتحريرها قد باغتت تركيا، وما كان في يدها حيلة لمنعها، فإن أنقرة تحاول ان تستبق أي اندفاعة جديدة للجيش العراقي و «الحشد الشعبي» في اتجاه مدينة الموصل التي تعتبرها تركيا خطاً احمر لجهة منع أي قوات لها صبغة شيعية ان تساهم في تحريرها، وان تكون على مقربة من الحدود التركية.

ويعتمد اردوغان هنا على أذرعته في الداخل العراقي، لا سيما محافظ النجف أثيل النجيفي وشقيقه أسامة النجيفي فضلاً عن تنظيم «داعش».

أما قول تركيا انها مستعدة للمساهمة في معركة تحرير الموصل، فإنما يندرج في اطار ممارسة تقية مكشوفة، إذ إن الموقف التركي الأصلي هو تفضيل إبقاء الموصل وكل المناطق الأخرى بيد «داعش» على أن تسقط بيد قوى شيعية او حتى كردية، ولو كانت قوات كردية تابعة لمسعود البرزاني حليف أردوغان.

ولكن إذا «وقعت الواقعة» ووجدت تركيا نفسها أمام حتمية التحشيد العراقي لتحرير الموصل، فإنها تريد أن يكون لها حصة بالمشاركة المصطنعة بالمعركة.

لن تكون مهمة أردوغان في الداخل ولا في الخارج سهلة، فالحوادث الأمنية في الداخل التركي تتكاثر، بدءًا بقتل المدعي العام محمد سليم كيراز في اسطنبول، الى الهجوم على مقر لـ «حزب العدالة والتنمية» والمديرية العامة للأمن في المدينة، فضلا عن الفضيحة الكبرى في انقطاع الكهرباء المستمر حتى الآن عن عدد كبير من المحافظات التركية - وقيل لأسباب تقنية في نظام التحكم والتشغيل - وكل هذه الحوادث تؤشر الى ان ربيعاً ساخناً قد بدأ فعلاً في تركيا.

وفي الخارج يمكن القول إن أردوغان اخطأ، كعادته، في تقدير التطورات، اذ كيف له أن يطالب بانسحاب ايران (النفوذ الإيراني) من سوريا والعراق والتضييق عليها، في وقت يذهب الغرب، عبر الاتفاق النووي الجديد الى أوسع انفتاح على الجمهورية منذ ثلاثة عقود؟

وكيف لأردوغان أن يدعو الى المزيد من الضغط على سوريا في وقت تعيد فيه تونس السفير السوري الى تونس وتعيد فتح سفارتها أو تمثيلها الديبلوماسي في دمشق بالذات، بل يتهم فيه وزير خارجية تونس وللمرة الأولى أنقرة بأنها تدعم الإرهابيين الذين يذهبون الى سوريا ؟

المشكلة مع رجب طيب أردوغان وذهنيته المقلوبة ينطبق عليها المثل القائل:» عش رجبا تر عجبا»... ونكداً.

  • فريق ماسة
  • 2015-04-03
  • 10580
  • من الأرشيف

أردوغان بين إيران «الجديدة» والسعودية ...حسابات رئاسية.. وقلق إقليمي!

ليست المرة الأولى التي يشن فيها رئيس الجمهورية التركية رجب طيب أردوغان انتقادات لاذعة الى ايران ومسؤوليها على خلفية دورها في المنطقة، من اليمن الى سوريا والعراق ولبنان وغيرها.  وبالنظر الى توقيت التصريحات والمرحلة التي يمر فيها أردوغان شخصياً في الداخل التركي وعلى الصعيد الخارجي، فإن مثل هذه التصريحات تصبح مفهومة من أكثر من زاوية.  وعشية زيارته لطهران، بعد غد، يعرف أردوغان، وطهران تعرف، أن اهتزاز العلاقات بين الطرفين هو من المحرّمات بمعزل عمّن يكون حاكماً سواء في انقرة أو في طهران. ومن الأدلة على ذلك ان الزيارات المتبادلة بين مسؤولي البلدين لم تنقطع منذ عقود، حتى في ذروة التوتر بينهما بسبب الوضع في سوريا او العراق او غيرهما. ويدرك الطرفان الحاجة الماسة لكل منهما للآخر سياسياً واقتصادياً، خصوصا في ظل مرور المنطقة في تموجات غير مسبوقة تهدد الجميع. ويضع أردوغان هدفين أساسيين له في المرحلة الحالية: الاول داخلي، وهو تحقيق الانتقال الى النظام الرئاسي. والثاني خارجي، وهو الاستمرار في السعي لتحقيق هدف إسقاط الرئيس السوري بشار الأسد. 1- في الداخل، يفصل شهران فقط تركيا عن الانتخابات النيابية في السابع من حزيران المقبل، وهي انتخابات مصيرية ليس لـ «حزب العدالة والتنمية» فحسب، بل أيضا لأردوغان نفسه الذي يريد أن يعدل الدستور لينقل البلاد من النظام البرلماني الى نظام رئاسي يكون فيه رئيس الجمهورية هو المتحكم بالسلطة التنفيذية خارج أي عرقلة جدية من البرلمان. وكما عادته عشية كل انتخابات نيابية أو بلدية او رئاسية، يصعّد أردوغان في خطابه ومواقفه في اتجاهين قومي ومذهبي، وهذا النهج حقق له نجاحات في الماضي. ومع أنه رئيس للجمهورية، ويفترض ان يقف على الحياد في صراع الأحزاب في الانتخابات النيابية، الا ان اردوغان يتصرف كما لو أنه هو رئيس «حزب العدالة والتنمية» والحكومة، وليس أحمد داود أوغلو، وهو يتصرف كما لو انه طرف مباشر. الخطاب القومي لأردوغان تصاعد في الأسابيع الأخيرة، ومع أنه هو مهندس المفاوضات مع زعيم «حزب العمال الكردستاني» عبد الله اوجلان، الا ان عدم حصوله على ما يرضيه من نداء القائد التركي في عيد النوروز من «استسلام» وإلقاء «الكردستاني» لسلاحه، جعله يصعّد موقفه تجاه الأكراد الى درجة القول انه لم تعد هناك مشكلة كردية في تركيا! في إطار هدفه في تسعير النزعة القومية، وبعدما خاض حربا شعواء ضد المؤسسة العسكرية، وبنى كل صورته «الديموقراطية» على محاربته لنفوذ العسكر في السياسة من خلال محاكمة كبار الجنرالات بتهمة التخطيط لانقلاب عسكري ضده بين العامين 2003 و 2010 في ما عرف بـ «قضية المطرقة» و «قضية أرغينيكون» وقضايا أخرى، ها هو أردوغان يحرك القضاء التركي الذي بات ألعوبة بيد «حزب العدالة والتنمية» ليبرئ دفعة واحدة كل هؤلاء الجنرالات، وعددهم يتجاوز الـ250، وكل ذلك من أجل هدف واحد، وهو إبقاء المؤسسة العسكرية، المعروفة بعدائها الشديد للأكراد، الى جانبه، وتعزيز دعم التيارات القومية المتشددة له أي لـ «حزب العدالة والتنمية». 2- أما في الخارج، فإن أردوغان لم يبرح بوصلة تركيزه على النظام في سوريا والرئيس بشار الأسد تحديدا. ودائما ما يربط اردوغان بين أي قضية وبين مسألة ضرورة رحيل الرئيس السوري بحيث بات الأسد بمثابة الملح الذي يدخل في كل وجبة طعام أردوغانية. وتدخُل مواقف أردوغان الأخيرة من المسألة اليمنية ومن السياسة الإيرانية في اليمن وفي المنطقة في عنوانين أساسيين: داخلي وخارجي. أ- في العنوان الداخلي، يريد أردوغان من مواقفه الأخيرة ضد ايران تأجيج النزعة المذهبية عشية الانتخابات النيابية، وهي بالطبع ليست المرة الأولى التي يستخدم فيها الخطاب المذهبي، بل ان هذا النهج من ثوابته منذ ان وصل الى السلطة لكنه ازداد في السنوات الأخيرة. ومن خلال توجيه الانتقاد الى ايران ووقوفها الى جانب الحوثيين «الارهابيين» - حرفيا كما وصفهم - بل دعوة الجمهورية الاسلامية الى الانسحاب، كما من اليمن، كذلك من سوريا والعراق، يريد اردوغان ان يظهر كجزء من تحالف "سني"، يجد، عشية الانتخابات النيابية، صدى له في القاعدة الشعبية "السنية الداخلية المعبأة أصلا منذ قرون ضد "العلويين والشيعة. ب- اما في العنوان الخارجي، فإن توظيف أردوغان لتصريحاته ضد ايران وموقفها في اليمن وسوريا والعراق يهدف الى ثلاثة أمور: الهدف الأول أن يخفف من العزلة التي وجد نفسه فيها عربيا ودوليا، خصوصاً بعد الخلاف بينه وبين كل من مصر والسعودية ودول الخليج العربي بسبب الموقف من حركة «الإخوان المسلمين» في مصر وتونس وليبيا وحتى في اليمن. لكن هذا الهدف ليس في متناول اليد بالسهولة التي يعتقدها أردوغان، فما بين تركيا والسعودية، أي بين الاسلام التركي وبين الحركة الوهابية من تباينات وخلافات وصراعات وحروب دموية سابقاً، لن يردمه موقف من هنا، او وقفة من هناك. وما يمكن ان يجمع الطرفين سياسيا ليس أكثر من تقاطع مصالح في لحظة ظرفية محددة. ومن الأدلة على ذلك ان الود الأردوغاني للسعودية لم يمنع صحيفة «يني شفق» المؤيدة لأردوغان من نشر صور للضحايا المدنيين في اليمن، والإشارة الى ان الطائرت السعودية لم توفر المدنيين من قصفها. كما لم تمنع رئيس تحرير الصحيفة ابراهيم قره غول من الحديث عن «الأخطاء الكبرى» للسعودية في ضرب «الإخوان المسلمين». والجدير بالذكر ان حدود الدعم التركي إذا حصل لن يتعدى الدعم اللوجستي والاستخباراتي الذي لا يقدم ولا يؤخر. ويدرك أردوغان ان الفضاء الجيو - استراتيجي لتركيا مختلف عن مثيله السعودي، فتركيا لها مصالح وعلاقات اقتصادية قوية جدا مع روسيا ومع ايران. وبالرغم من أن انقرة ستكون من أكثر القلقين من الاتفاق النووي على صعيد تمدد التأثير السياسي لإيران في المنطقة على حساب قوى اخرى ومنها تركيا، غير أنها ستكون من أكثر المستفيدين منه لجهة انفتاح السوق الايرانية أمام المنتجات والاستثمارات التركية بعد رفع العقوبات التي كانت تكبح المزيد من تطوير العلاقات الاقتصادية الثنائية. كذلك، فإنّ أردوغان لا يستطيع، خصوصا في ظل الظرف الانتخابي الداخلي في تركيا، أن يتراجع بسهولة عن موقفه من الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي الذي، بكسره «الإخوان المسلمين» في مصر، إنما كان يكسر الجناح الآخر للمشروع العثماني في المنطقة، بعدما كان الجناح الأول قد انكسر في سوريا. أما الهدف الثاني لأردوغان من تصريحاته ضد ايران، فيفصح عنه القسم الثاني منها، فدعوة أردوغان إيران الى الانسحاب هي و»المجموعات الإرهابية» من اليمن يمكن تفهم ظروفها في ظل الهجمة السعودية على اليمن. لكن ان يوسع دائرة استهدافه لإيران بمطالبته لها بالإنسحاب من سوريا والعراق فهو أمر يتخطى الظرف الآني المتصل باليمن ليعيد تصويب البوصلة اولاً على الأسد، وثانياً على العراق. ويخشى أردوغان ان تؤدي احداث اليمن الى تراجع الاهتمام بالوضع في سوريا، لأنه في النهاية لكل دولة اولويات. فكما سوريا والعراق أولوية تركية، فإن اليمن في هذه اللحظة تحديدا، أولوية سعودية. ويريد أردوغان أن يحول دون تراجع التركيز على سوريا. وفي هذا الإطار جاءت معركة أدلب وإسقاط المدينة بدعم مكشوف وواضح من النظام في تركيا، كما الإعلان عن سيطرة «داعش» على مخيم اليرموك. اما الهدف الثالث، فهو أن أردوغان يريد أن يستبق بعض التطورات في العراق. وبما أن معركة تكريت وتحريرها قد باغتت تركيا، وما كان في يدها حيلة لمنعها، فإن أنقرة تحاول ان تستبق أي اندفاعة جديدة للجيش العراقي و «الحشد الشعبي» في اتجاه مدينة الموصل التي تعتبرها تركيا خطاً احمر لجهة منع أي قوات لها صبغة شيعية ان تساهم في تحريرها، وان تكون على مقربة من الحدود التركية. ويعتمد اردوغان هنا على أذرعته في الداخل العراقي، لا سيما محافظ النجف أثيل النجيفي وشقيقه أسامة النجيفي فضلاً عن تنظيم «داعش». أما قول تركيا انها مستعدة للمساهمة في معركة تحرير الموصل، فإنما يندرج في اطار ممارسة تقية مكشوفة، إذ إن الموقف التركي الأصلي هو تفضيل إبقاء الموصل وكل المناطق الأخرى بيد «داعش» على أن تسقط بيد قوى شيعية او حتى كردية، ولو كانت قوات كردية تابعة لمسعود البرزاني حليف أردوغان. ولكن إذا «وقعت الواقعة» ووجدت تركيا نفسها أمام حتمية التحشيد العراقي لتحرير الموصل، فإنها تريد أن يكون لها حصة بالمشاركة المصطنعة بالمعركة. لن تكون مهمة أردوغان في الداخل ولا في الخارج سهلة، فالحوادث الأمنية في الداخل التركي تتكاثر، بدءًا بقتل المدعي العام محمد سليم كيراز في اسطنبول، الى الهجوم على مقر لـ «حزب العدالة والتنمية» والمديرية العامة للأمن في المدينة، فضلا عن الفضيحة الكبرى في انقطاع الكهرباء المستمر حتى الآن عن عدد كبير من المحافظات التركية - وقيل لأسباب تقنية في نظام التحكم والتشغيل - وكل هذه الحوادث تؤشر الى ان ربيعاً ساخناً قد بدأ فعلاً في تركيا. وفي الخارج يمكن القول إن أردوغان اخطأ، كعادته، في تقدير التطورات، اذ كيف له أن يطالب بانسحاب ايران (النفوذ الإيراني) من سوريا والعراق والتضييق عليها، في وقت يذهب الغرب، عبر الاتفاق النووي الجديد الى أوسع انفتاح على الجمهورية منذ ثلاثة عقود؟ وكيف لأردوغان أن يدعو الى المزيد من الضغط على سوريا في وقت تعيد فيه تونس السفير السوري الى تونس وتعيد فتح سفارتها أو تمثيلها الديبلوماسي في دمشق بالذات، بل يتهم فيه وزير خارجية تونس وللمرة الأولى أنقرة بأنها تدعم الإرهابيين الذين يذهبون الى سوريا ؟ المشكلة مع رجب طيب أردوغان وذهنيته المقلوبة ينطبق عليها المثل القائل:» عش رجبا تر عجبا»... ونكداً.

المصدر : السفير/ محمد نور الدين


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة