في توقيت متزامن مع تقدم الجيش السوري في محافظة حلب في شكل لافت، ونجاحه في استرجاع مناطق حساسة تتعلق مباشرة بفصل المعابر التركية عن السورية في المحافظة، ورسمه خريطة عسكرية سورية، يبدو أنها مبرمجة ومشتركة مع حلفاء سورية، تتقدم أنقرة وواشنطن لتوقيع اتفاق تدريب وتجهيز معارضين سوريين معتدلين في قلب الأراضي التركية.

عسكرياً، لا يبدو هذا الاتفاق، بعد أربع سنوات من أزمة دامية استرجع فيها الجيش السوري أراضي أو مناطق كان قد خسرها، خطوة سديدة أو قادرة على إحداث تغيير جذري في المعركة على الأرض السورية. فالمعلن عن الاتفاق هو أنه سيهيئ 1500 مقاتل منهم 300 يحتاج تأهيلهم إلى ستة أشهر، وما سيجهز في هذه المدة، لا يمكن أن تقع القيادة العسكرية الأميركية والتركية، في وهم قدرته على تغيير أي شيء في جبهة يتقاتل فيها عشرات الآلاف من المقاتلين، وتوضع لهذه الزمرة المحدودة مهمّة مقاتلة الفريقين، كما ورد في البيان عن الاتفاق، هذا عدا عن كون التوقيت جاء متاخراً جداً، إذا سلّمنا جدلاً بأنّ تركيا بريئة من أيّ تسليح أو إمداد أو أي شكل من أشكال الدعم للإرهابيين الذين يدخلون سورية، فالحكومة التركية لا تزال حتى الساعة تشكك في كلّ ما يُحكى عن تقارير عسكرية ومعلومات مباشرة حول علاقتها بتسليح إرهابيين من تنظيم «داعش» أو «جبهة النصرة»، إلا أنها لا تنفي أبداً مساعدة من تسمّيهم «معارضين» و»ثواراً» مثل «الجيش الحر» وغيره بالإيواء والدعم اللوجستي وفتح المعابر من وإلى سورية.

 

عسكرياً أيضاً، إذا اعتمدنا الفرضية البديلة التي تقول إنّ الاتفاق هو لتغطية تدخل عسكري تركي مباشر، لا يبدو أنّ القوات التركية الخاصة التي نقلت آخر التقارير الاستخبارية دخولها منطقة القتال في حلب مباشرة لإنقاذ وضع المعارضة المسلحة، قادرة على الغوص جدياً في دماء قد تكلف الحكومة التركية ضريبة باهظة داخلياً، إذا وقع في صفوفها خسائر بشرية كثيرة. لهذا فمن غير المنطقي أن يطول نفس هذه القوات لتستكمل المعركة الطويلة هناك، والتي لا يدفع الدماء فيها غالباً إلا أصحاب الأرض، فكيف الحال في ظلّ أجواء داخلية متشنّجة في تركيا التي تتعرّض لتفجيرات متتالية من مجهولين في مدن رئيسية، أو أعمال شغب أو احتجاجات لا تجعل الحكومة التركية مطمئنة.

وما يؤكد ذلك هو التدخل التركي لنقل قبر سليمان شاه، الذي سبق أن أعلنت الحكومة التركية إرسال أربعين جندياً لحراسته فهو رمز يعني الأتراك لأنه قبر جدّ مؤسس الدولة العثمانية السلطان عثمان الأول، وتفضل حكومة تركيا لغة الرسائل على التورّط، فالقوة التي دخلت وخرجت سريعاً، كشفت أولاً الحرص على مراعاة شعرة رفيعة من العلاقات مع الحكومة السورية، فأبلغت القنصلية السورية في اسطنبول بالعملية، لكنها لم تنتظر الردّ السوري بالموافقة، لتلعب اللعبة المزدوجة فتبلغ ولا تنتظر موافقة، وفي المقابل تنسحب سريعاً. والأهمّ أنّ منطقة الضريح هي تحت سيطرة «داعش»، وهذا ما يدفع إلى التساؤل: لماذا لم تضع «داعش» الجنود الأتراك ضمن جدول أهدافها، ولماذا قبلت تحييد الضريح بعدما استهدفت بالتدمير كلّ الأضرحة والمقامات والمساجد والكنائس؟

هذا ما يوضح حجم العلاقة التركية بـ»داعش» في كلّ أوجه العملية، وصولاً إلى دخول وخروج قوة من عشرات الدبابات والمدرّعات ومئات الجنود، في مناطق نفوذ «داعش» من دون أن يقع أيّ تصادم، وهو ما يبدو مستحيلاً من الزاوية العسكرية من دون التنسيق مع قيادة عمليات «داعش».

إذاً… كلّ ما يجري على الضفة التركية يُدار بطريقة الرموز والرسائل، وليس بطريقة التورّط الميداني، واشنطن تمنح أنقرة دوراً، ولا تحول العلاقة التركية بـ»داعش» دون ذلك، لهذا يبدو الإعلان عن تدريب مسلحين سوريين بموافقة مشتركة بين الولايات المتحدة وتركيا، كتوقيع أميركي رسمي على حجز مقعد لتركيا على مائدة التفاوض حول سورية.

هي رسالة سياسية إلى النظام السوري، لا تمت إلى مكافحة «داعش» أو الإرهاب بأيّ صلة، فالإعلان عن الخطوة مصحوب بأمل من أنقرة التي تعارض الدولة السورية، أن تدرّب فصائل المعارضة «المعتدلة» «لمقاتلة النظام السوري والمتطرفين في «داعش» على حدّ سواء»، والذين يسيطرون على مناطق واسعة من الأراضي في العراق وسورية حتى الحدود التركية.

هذا الاتفاق ليس سوى رسالة مباشرة إلى الرئيس السوري بشار الأسد بأنّ انقرة وواشنطن مستعدّتان لقتال نظامه أو الحشد ضدّه مجدّداً في حلب، ولو تناقض الأمر مع ما يدعو إليه المبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا، والذي يجسّد في شكل أو آخر الموقف الأميركي.

 

تحاول واشنطن تأمين مقعد لتركيا في المفاوضات، وليس أمل أنقرة في قتال الأسد سوى ذريعة لإدخال مسلحين يفرضون توازناً ما على الأرض لكي تتمكن من الاحتفاظ بما يمكّنها من الإمساك بمصير الأزمة السورية، والأهمّ أنّ كلّ هذا التدريب «المتأخر» لا يمت إلى مكافحة الإرهاب بصَلة، ولا يمكن أن يشكل قوة حقيقية تغيّر المعادلات لا في وجه الجيش السوري ولا في وجه «داعش»، فكيف في وجهيهما معاً، في حين لم ينجح التحالف الدولي بمجموع 60 دولة، حسب تقرير لشبكة «سي أن أن» الأميركية، حتى الساعة في إحداث أيّ تقدم أو إثبات رغبة أميركية جدية في قتال «داعش»؟

واشنطن تسلك طريق الحلّ السياسي، لكنها تسعى إلى تحميله أدواراً لحلفائها، وها هي تؤمّن لتركيا مكاناً في المعادلات الجديدة، وليس التدريب المشترك إلا تغطية لمضمون رسالة مباشرة إلى الأسد، كما هي الرسائل المتتالية.

  • فريق ماسة
  • 2015-02-23
  • 7787
  • من الأرشيف

أنقرة تحجز مقعداً للمفاوضات بالتدخل وبالبريد الأميركي

في توقيت متزامن مع تقدم الجيش السوري في محافظة حلب في شكل لافت، ونجاحه في استرجاع مناطق حساسة تتعلق مباشرة بفصل المعابر التركية عن السورية في المحافظة، ورسمه خريطة عسكرية سورية، يبدو أنها مبرمجة ومشتركة مع حلفاء سورية، تتقدم أنقرة وواشنطن لتوقيع اتفاق تدريب وتجهيز معارضين سوريين معتدلين في قلب الأراضي التركية. عسكرياً، لا يبدو هذا الاتفاق، بعد أربع سنوات من أزمة دامية استرجع فيها الجيش السوري أراضي أو مناطق كان قد خسرها، خطوة سديدة أو قادرة على إحداث تغيير جذري في المعركة على الأرض السورية. فالمعلن عن الاتفاق هو أنه سيهيئ 1500 مقاتل منهم 300 يحتاج تأهيلهم إلى ستة أشهر، وما سيجهز في هذه المدة، لا يمكن أن تقع القيادة العسكرية الأميركية والتركية، في وهم قدرته على تغيير أي شيء في جبهة يتقاتل فيها عشرات الآلاف من المقاتلين، وتوضع لهذه الزمرة المحدودة مهمّة مقاتلة الفريقين، كما ورد في البيان عن الاتفاق، هذا عدا عن كون التوقيت جاء متاخراً جداً، إذا سلّمنا جدلاً بأنّ تركيا بريئة من أيّ تسليح أو إمداد أو أي شكل من أشكال الدعم للإرهابيين الذين يدخلون سورية، فالحكومة التركية لا تزال حتى الساعة تشكك في كلّ ما يُحكى عن تقارير عسكرية ومعلومات مباشرة حول علاقتها بتسليح إرهابيين من تنظيم «داعش» أو «جبهة النصرة»، إلا أنها لا تنفي أبداً مساعدة من تسمّيهم «معارضين» و»ثواراً» مثل «الجيش الحر» وغيره بالإيواء والدعم اللوجستي وفتح المعابر من وإلى سورية.   عسكرياً أيضاً، إذا اعتمدنا الفرضية البديلة التي تقول إنّ الاتفاق هو لتغطية تدخل عسكري تركي مباشر، لا يبدو أنّ القوات التركية الخاصة التي نقلت آخر التقارير الاستخبارية دخولها منطقة القتال في حلب مباشرة لإنقاذ وضع المعارضة المسلحة، قادرة على الغوص جدياً في دماء قد تكلف الحكومة التركية ضريبة باهظة داخلياً، إذا وقع في صفوفها خسائر بشرية كثيرة. لهذا فمن غير المنطقي أن يطول نفس هذه القوات لتستكمل المعركة الطويلة هناك، والتي لا يدفع الدماء فيها غالباً إلا أصحاب الأرض، فكيف الحال في ظلّ أجواء داخلية متشنّجة في تركيا التي تتعرّض لتفجيرات متتالية من مجهولين في مدن رئيسية، أو أعمال شغب أو احتجاجات لا تجعل الحكومة التركية مطمئنة. وما يؤكد ذلك هو التدخل التركي لنقل قبر سليمان شاه، الذي سبق أن أعلنت الحكومة التركية إرسال أربعين جندياً لحراسته فهو رمز يعني الأتراك لأنه قبر جدّ مؤسس الدولة العثمانية السلطان عثمان الأول، وتفضل حكومة تركيا لغة الرسائل على التورّط، فالقوة التي دخلت وخرجت سريعاً، كشفت أولاً الحرص على مراعاة شعرة رفيعة من العلاقات مع الحكومة السورية، فأبلغت القنصلية السورية في اسطنبول بالعملية، لكنها لم تنتظر الردّ السوري بالموافقة، لتلعب اللعبة المزدوجة فتبلغ ولا تنتظر موافقة، وفي المقابل تنسحب سريعاً. والأهمّ أنّ منطقة الضريح هي تحت سيطرة «داعش»، وهذا ما يدفع إلى التساؤل: لماذا لم تضع «داعش» الجنود الأتراك ضمن جدول أهدافها، ولماذا قبلت تحييد الضريح بعدما استهدفت بالتدمير كلّ الأضرحة والمقامات والمساجد والكنائس؟ هذا ما يوضح حجم العلاقة التركية بـ»داعش» في كلّ أوجه العملية، وصولاً إلى دخول وخروج قوة من عشرات الدبابات والمدرّعات ومئات الجنود، في مناطق نفوذ «داعش» من دون أن يقع أيّ تصادم، وهو ما يبدو مستحيلاً من الزاوية العسكرية من دون التنسيق مع قيادة عمليات «داعش». إذاً… كلّ ما يجري على الضفة التركية يُدار بطريقة الرموز والرسائل، وليس بطريقة التورّط الميداني، واشنطن تمنح أنقرة دوراً، ولا تحول العلاقة التركية بـ»داعش» دون ذلك، لهذا يبدو الإعلان عن تدريب مسلحين سوريين بموافقة مشتركة بين الولايات المتحدة وتركيا، كتوقيع أميركي رسمي على حجز مقعد لتركيا على مائدة التفاوض حول سورية. هي رسالة سياسية إلى النظام السوري، لا تمت إلى مكافحة «داعش» أو الإرهاب بأيّ صلة، فالإعلان عن الخطوة مصحوب بأمل من أنقرة التي تعارض الدولة السورية، أن تدرّب فصائل المعارضة «المعتدلة» «لمقاتلة النظام السوري والمتطرفين في «داعش» على حدّ سواء»، والذين يسيطرون على مناطق واسعة من الأراضي في العراق وسورية حتى الحدود التركية. هذا الاتفاق ليس سوى رسالة مباشرة إلى الرئيس السوري بشار الأسد بأنّ انقرة وواشنطن مستعدّتان لقتال نظامه أو الحشد ضدّه مجدّداً في حلب، ولو تناقض الأمر مع ما يدعو إليه المبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا، والذي يجسّد في شكل أو آخر الموقف الأميركي.   تحاول واشنطن تأمين مقعد لتركيا في المفاوضات، وليس أمل أنقرة في قتال الأسد سوى ذريعة لإدخال مسلحين يفرضون توازناً ما على الأرض لكي تتمكن من الاحتفاظ بما يمكّنها من الإمساك بمصير الأزمة السورية، والأهمّ أنّ كلّ هذا التدريب «المتأخر» لا يمت إلى مكافحة الإرهاب بصَلة، ولا يمكن أن يشكل قوة حقيقية تغيّر المعادلات لا في وجه الجيش السوري ولا في وجه «داعش»، فكيف في وجهيهما معاً، في حين لم ينجح التحالف الدولي بمجموع 60 دولة، حسب تقرير لشبكة «سي أن أن» الأميركية، حتى الساعة في إحداث أيّ تقدم أو إثبات رغبة أميركية جدية في قتال «داعش»؟ واشنطن تسلك طريق الحلّ السياسي، لكنها تسعى إلى تحميله أدواراً لحلفائها، وها هي تؤمّن لتركيا مكاناً في المعادلات الجديدة، وليس التدريب المشترك إلا تغطية لمضمون رسالة مباشرة إلى الأسد، كما هي الرسائل المتتالية.

المصدر : روزانا رمّال


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة