بالتأكيد دخلت فرنسا، ومعها أوروبا، مرحلةً جديدة على المستويات كافّة. فالأولوية الأمنية ستَطغى على سياسات هذه الدوَل بعد صراع داخليّ طويل في شأن طريقة التعاطي مع الأحداث التي عصفَت بالدوَل الإسلامية والعربية منذ انطلاق ما اصطُلِح على تسميته «الربيع العربي».

الأولوية الأمنية ستَطغى على الأولوية السياسية لدى فرنسا

وإذا كانت الولايات المتحدة الاميركية قد حسمَت خيارها باكراً لصالح وجهة نظر الدوائر الأمنية وعلى حساب وجهة نظر الدوائر السياسية والديبلوماسية، فإنّ أوروبا، وخصوصاً فرنسا، بقيَت تتأرجح بين منطق الديبلوماسيين الداعي إلى مواكبة وتشجيع الحالات الاسلامية الصاعدة على اساس تطويعها واستيعابها ومن ثمّ إدارتها لاحقاً، وبين منطق الأمنيين المحذّر بقوّة من خطر انفلات الاسلاميين واستهدافهم أمنَ ومصالحَ القارّة الأوروبية المتجاورة مع بلدان «الربيع العربي».

وفيما باشرَت واشنطن إجراءَ قراءة جديدة لسياستها عقبَ النموّ السريع للتيارات الدينية المتطرّفة وقتل سفيرها في ليبيا، استمرّت فرنسا في سياستها ولو بوتيرة أخَفّ من السابق.

وفي سابقة فرنسية، نشرَ المسؤول السابق عن الاستخبارات الفرنسية برنار سكوارزيني كتاباً موثّقاً عن هذه المجموعات ومصادر تمويلها والخطر الذي تُمثّله على رغم مضيّ بضعة أشهر على مغادرته موقعَه.

فسكورارزيني الذي مثّلَ المرجع الأمني خلال وجود الرئيس نيكولا ساركوزي في الإيليزيه كان يعتبر أنّه بات خطيراً ترك مساحات جغرافية تحتضن نموّ التيارات المتطرفة، وأنّه بات من مصلحة فرنسا والدوَل الغربية التفاوض مع النظام السوري  ، وفق سقفٍ جديد، ودفعُه رويداً رويداً لإدخال الديموقراطية الى بلاده، وفي الوقت نفسه إعادة توثيق التعاون الأمني مع أجهزته لحماية المصالح الغربية.

ومع مضيّ الوقت بدأت العواصم الأوروبّية تَعي الخطر القادم مع انتقال الآف «المجاهدين» الذين يحملون الجنسيات الاوروبية للقتال في سوريا والعراق، حيث كانت خلايا تتوَلّى عمليات التجنيد والسفر، وكان مركز بعضها في بلجيكا. لكنّ أكثر ما أقلقَ باريس كان ظهور فرنسيين من أصول فرنسية يقاتلون ويشاركون في عمليات الذبح في سوريا.

فإذا كان احتواء خطر الفرنسيين من أصول إسلامية وعربية قد بدأ من خلال منعِهم من شَغل وظائف حسّاسة (قيادة الطائرات والقطارات وصهاريج المحروقات ألخ...) فكيف يمكن احتواء الفرنسيين المتحدّرين من أصول فرنسية؟

إشارات الخطر بدأت في الصيف الماضي مع اكتشاف عمليات تخريب خطيرة في عدد من المنشآت الحيوية لم يُكشَف عنها. مثل محاولة تسميم خزّان المياه الذي تشرَب منه الدوائر 8 و15 و16 في باريس، كما بدأت سلسلة طعن فرنسيين عاديّين بالسكاكين. في الحقيقة كان تنظيم «داعش» قد قرّر التحرّك والبدء بهزّ أوروبّا أمنياً.

وبعد بَدء الحرب في سوريا، حاولَت الدولة السورية التواصل بأيّ طريقة مع باريس. إلّا أنّ السلطات الفرنسية التي كانت قد أرسَلت عدداً من ضبّاط مخابراتها الى شمال لبنان للمساهمة في التواصل مع المعارضة وتأمين خبرات لها، رفضَت أيّ تواصل بشكل قاطع. وحذّرَت فريقَ السفارة الذي انتقلَ من سوريا إلى الاردن من إجراء أيّ اتصال مباشَر أو حتّى غير مباشر.

ألمانيا كانت أكثر مرونةً وفتحت خطوط تواصل أمنية مع دمشق نهاية العام 2013، وزار مسؤولون أمنيّون ألمان سوريا عبر لبنان.

وحين شعرَت باريس بالخطر، الصيف الماضي، رأت أنّها أصبحت بحاجة لإعادة تنشيط التعاون الامني مع دمشق التي تملك معلومات كثيرة جرّاء التحقيقات مع إسلاميين اعتقَلتهم.

لكنّ المفاجأة أنّ دمشق وضعَت شروطاً تعجيزية، مثل إعادة فتح السفارة الفرنسية وزيارة وفد فرنسي رسمي إلى دمشق وطلب ذلك، ألخ...

فهمَت باريس الجواب السوري.

لكن جاء مَن يبلّغها (وهو لبناني وعلى علاقة ممتازة بدمشق)، أنّ السلطات السورية مستعدّة لاستقبال المسؤول الأمني السابق برنارد سكوارزيني بلا شروط مسبَقة. وقد حُدّد موعد الزيارة في أيلول، لكنّ الاجتياح الذي نفّذه «داعش» وطاوَلَ العراق وسوريا فرضَ تأجيل الزيارة.

 

أمّا كيف ستتصرّف فرنسا من الآن وصاعداً؟

 

بالتأكيد ستستعين بالتجربة الأميركية على صعيد الإجراءات الأمنية الداخلية. وستكون أشدَّ صرامةً وستسنّ قوانين تسمَح لها بفرز حامِلي الجنسية الفرنسية، بحيث تكون التدابير المسبَقة أكثر صرامة مع الآتين من أصول عربية أو إسلامية. إضافةً إلى إجراءات أشدّ فعالية للحدّ من الهجرة غير الشرعية، وتكثيف التعاون مع الدول الاوروبية وكلّ مَن له علاقة بأيّ نشاط أو تواصل مع المتطرّفين.

لكنّ الأهمّ ما بدأ يتردّد في الأروقة الديبلوماسية، ولو همساً، عن إعادة رسم سياسة جديدة لفرنسا من خلال بوّابة إجراء تغيير حكومي يطيح بوزير الخارجية لوران فابيوس.

فالعواصم الاوروبية تخشى فعلياً من ذهاب الفرنسيين في اتّجاه اليمين المتشدّد، المعروف عنه عصبيّته الفرنسية العالية، ما سيدفع الامور في اتّجاهات دراماتيكية تؤثّر على استقرار كامل الرقعة الأوروبية. ما يستوجب إجراءَ تغيير حكومي وتنفيذ ضربة أمنية سريعة تسمح باستيعاب الشارع الفرنسي الهائج.

كذلك ستذهب فرنسا في اتّجاه إعادة إحياء التعاون الأمني مع دمشق طالما إنّ النظام باقٍ أقلُّه في هذه المرحلة، مستعينةً بدور روسيّ في هذا الإطار.

لكنّ باريس ستتمسّك اكثر بالانظمة والقوى "السُنّية" المناهضة للمتطرّفين، ووفق القاعدة التي تؤكّد أنّ المواجهة الحقيقية للمتطرفين لا يمكن أن تحصل إلّا من خلال قوى  أخرى، تماماً كما أثبتَت الحكومة اللبنانية الحاليّة في المواجهات التي حصَلت في طرابلس أخيراً.

 

  • فريق ماسة
  • 2015-01-11
  • 8637
  • من الأرشيف

باريس تُعيد رسمَ سياستها

بالتأكيد دخلت فرنسا، ومعها أوروبا، مرحلةً جديدة على المستويات كافّة. فالأولوية الأمنية ستَطغى على سياسات هذه الدوَل بعد صراع داخليّ طويل في شأن طريقة التعاطي مع الأحداث التي عصفَت بالدوَل الإسلامية والعربية منذ انطلاق ما اصطُلِح على تسميته «الربيع العربي». الأولوية الأمنية ستَطغى على الأولوية السياسية لدى فرنسا وإذا كانت الولايات المتحدة الاميركية قد حسمَت خيارها باكراً لصالح وجهة نظر الدوائر الأمنية وعلى حساب وجهة نظر الدوائر السياسية والديبلوماسية، فإنّ أوروبا، وخصوصاً فرنسا، بقيَت تتأرجح بين منطق الديبلوماسيين الداعي إلى مواكبة وتشجيع الحالات الاسلامية الصاعدة على اساس تطويعها واستيعابها ومن ثمّ إدارتها لاحقاً، وبين منطق الأمنيين المحذّر بقوّة من خطر انفلات الاسلاميين واستهدافهم أمنَ ومصالحَ القارّة الأوروبية المتجاورة مع بلدان «الربيع العربي». وفيما باشرَت واشنطن إجراءَ قراءة جديدة لسياستها عقبَ النموّ السريع للتيارات الدينية المتطرّفة وقتل سفيرها في ليبيا، استمرّت فرنسا في سياستها ولو بوتيرة أخَفّ من السابق. وفي سابقة فرنسية، نشرَ المسؤول السابق عن الاستخبارات الفرنسية برنار سكوارزيني كتاباً موثّقاً عن هذه المجموعات ومصادر تمويلها والخطر الذي تُمثّله على رغم مضيّ بضعة أشهر على مغادرته موقعَه. فسكورارزيني الذي مثّلَ المرجع الأمني خلال وجود الرئيس نيكولا ساركوزي في الإيليزيه كان يعتبر أنّه بات خطيراً ترك مساحات جغرافية تحتضن نموّ التيارات المتطرفة، وأنّه بات من مصلحة فرنسا والدوَل الغربية التفاوض مع النظام السوري  ، وفق سقفٍ جديد، ودفعُه رويداً رويداً لإدخال الديموقراطية الى بلاده، وفي الوقت نفسه إعادة توثيق التعاون الأمني مع أجهزته لحماية المصالح الغربية. ومع مضيّ الوقت بدأت العواصم الأوروبّية تَعي الخطر القادم مع انتقال الآف «المجاهدين» الذين يحملون الجنسيات الاوروبية للقتال في سوريا والعراق، حيث كانت خلايا تتوَلّى عمليات التجنيد والسفر، وكان مركز بعضها في بلجيكا. لكنّ أكثر ما أقلقَ باريس كان ظهور فرنسيين من أصول فرنسية يقاتلون ويشاركون في عمليات الذبح في سوريا. فإذا كان احتواء خطر الفرنسيين من أصول إسلامية وعربية قد بدأ من خلال منعِهم من شَغل وظائف حسّاسة (قيادة الطائرات والقطارات وصهاريج المحروقات ألخ...) فكيف يمكن احتواء الفرنسيين المتحدّرين من أصول فرنسية؟ إشارات الخطر بدأت في الصيف الماضي مع اكتشاف عمليات تخريب خطيرة في عدد من المنشآت الحيوية لم يُكشَف عنها. مثل محاولة تسميم خزّان المياه الذي تشرَب منه الدوائر 8 و15 و16 في باريس، كما بدأت سلسلة طعن فرنسيين عاديّين بالسكاكين. في الحقيقة كان تنظيم «داعش» قد قرّر التحرّك والبدء بهزّ أوروبّا أمنياً. وبعد بَدء الحرب في سوريا، حاولَت الدولة السورية التواصل بأيّ طريقة مع باريس. إلّا أنّ السلطات الفرنسية التي كانت قد أرسَلت عدداً من ضبّاط مخابراتها الى شمال لبنان للمساهمة في التواصل مع المعارضة وتأمين خبرات لها، رفضَت أيّ تواصل بشكل قاطع. وحذّرَت فريقَ السفارة الذي انتقلَ من سوريا إلى الاردن من إجراء أيّ اتصال مباشَر أو حتّى غير مباشر. ألمانيا كانت أكثر مرونةً وفتحت خطوط تواصل أمنية مع دمشق نهاية العام 2013، وزار مسؤولون أمنيّون ألمان سوريا عبر لبنان. وحين شعرَت باريس بالخطر، الصيف الماضي، رأت أنّها أصبحت بحاجة لإعادة تنشيط التعاون الامني مع دمشق التي تملك معلومات كثيرة جرّاء التحقيقات مع إسلاميين اعتقَلتهم. لكنّ المفاجأة أنّ دمشق وضعَت شروطاً تعجيزية، مثل إعادة فتح السفارة الفرنسية وزيارة وفد فرنسي رسمي إلى دمشق وطلب ذلك، ألخ... فهمَت باريس الجواب السوري. لكن جاء مَن يبلّغها (وهو لبناني وعلى علاقة ممتازة بدمشق)، أنّ السلطات السورية مستعدّة لاستقبال المسؤول الأمني السابق برنارد سكوارزيني بلا شروط مسبَقة. وقد حُدّد موعد الزيارة في أيلول، لكنّ الاجتياح الذي نفّذه «داعش» وطاوَلَ العراق وسوريا فرضَ تأجيل الزيارة.   أمّا كيف ستتصرّف فرنسا من الآن وصاعداً؟   بالتأكيد ستستعين بالتجربة الأميركية على صعيد الإجراءات الأمنية الداخلية. وستكون أشدَّ صرامةً وستسنّ قوانين تسمَح لها بفرز حامِلي الجنسية الفرنسية، بحيث تكون التدابير المسبَقة أكثر صرامة مع الآتين من أصول عربية أو إسلامية. إضافةً إلى إجراءات أشدّ فعالية للحدّ من الهجرة غير الشرعية، وتكثيف التعاون مع الدول الاوروبية وكلّ مَن له علاقة بأيّ نشاط أو تواصل مع المتطرّفين. لكنّ الأهمّ ما بدأ يتردّد في الأروقة الديبلوماسية، ولو همساً، عن إعادة رسم سياسة جديدة لفرنسا من خلال بوّابة إجراء تغيير حكومي يطيح بوزير الخارجية لوران فابيوس. فالعواصم الاوروبية تخشى فعلياً من ذهاب الفرنسيين في اتّجاه اليمين المتشدّد، المعروف عنه عصبيّته الفرنسية العالية، ما سيدفع الامور في اتّجاهات دراماتيكية تؤثّر على استقرار كامل الرقعة الأوروبية. ما يستوجب إجراءَ تغيير حكومي وتنفيذ ضربة أمنية سريعة تسمح باستيعاب الشارع الفرنسي الهائج. كذلك ستذهب فرنسا في اتّجاه إعادة إحياء التعاون الأمني مع دمشق طالما إنّ النظام باقٍ أقلُّه في هذه المرحلة، مستعينةً بدور روسيّ في هذا الإطار. لكنّ باريس ستتمسّك اكثر بالانظمة والقوى "السُنّية" المناهضة للمتطرّفين، ووفق القاعدة التي تؤكّد أنّ المواجهة الحقيقية للمتطرفين لا يمكن أن تحصل إلّا من خلال قوى  أخرى، تماماً كما أثبتَت الحكومة اللبنانية الحاليّة في المواجهات التي حصَلت في طرابلس أخيراً.  

المصدر : الجمهورية / جوني منير


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة