صارت «حلب أولاً» عنوان المرحلة السورية الحالية. تهيمن على العناوين والحراك السياسي، ما بين دمشق وبروكسل وروما وموسكو.

البعض يراها ضرورة إنسانية بحتة، ومهمة حضارية ودينية، وآخرون يرون فيها محاولة مريبة تخفي عناوين خطيرة، والبعض الآخر يريد منها أن تتحوّل بداية لسياق تسوية، اكثر شمولاً.

ولأن الأفق السياسي في المشهد السوري دخل في مرحلة انسداد واضحة في مرحلة ما بعد مؤتمر «جنيف 2» المنعقد في بداية العام 2014، وتسبّب من ضمن عوامل أخرى في خروج الأخضر الابراهيمي من مهمته السورية، فإن خليفته، المبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا، وجد في خيار «حلب أولاً» خطة يتيمة يلقي عليها كل في ما جعبته من رهانات لإنجاح حركته الديبلوماسية الشاقة، ربما إلى أن تلوح من ميادين الجبهات السورية المتعددة، ما يملي تعديلاً في اولويات العواصم وخياراتها.

«حلب أولاً»! هكذا كبرت الفكرة بعد أكثر من عامين على معاناة المدينة التي استفاق عليها العالم فجأة بعدما جلب عليها مسلحو الارياف و«جهاديو التكفير» غزوة الخراب باسم «تحريرها»، فإذا هي تستحيل شطرين، في اكثر الضربات ايلاماً لمفهوم التعايش السوري اولاً، والديني ثانياً والقائم منذ اكثر من الف سنة، لتتبعها في معاناتها مدينة الموصل العراقية في بداية حزيران الماضي.

ثم قرعت أجراس الخطر... ولكن كيف أطلقت الفكرة؟ ومن أطلقها، وماذا قيل فيها؟

بخلاف ما هو شائع هذه الايام، فان دي ميستورا لم يكن صاحب المبادرة. كما انها ليست للأتراك ولا الفرنسيين. هؤلاء سعوا الى ترويج فكرة «المنطقة العازلة» لتشمل الريف الشمالي لحلب، بما يتصل بالحدود التركية، وبما يعنيه ذلك من نيات مبيتة للمس بتطورات المشهد العسكري المحيط بالعاصمة الاقتصادية والثقافية لسوريا.

خرجت فكرة «حلب اولاً» بمفهوم «تجميد القتال»، من روما، وتحديداً من دير تراتستيفيري، مقر جماعة «سانت ايجيديو»، التي باتت سمعتها تسبقها في لبنان والمنطقة العربية والعالم عموماً بجهود الوساطات والمصالحة والديبلوماسية الهادئة التي قامت بها لتسوية النزاعات في مختلف أنحاء العالم.

ففي 22 حزيران 2014، وجّه مؤسس «سانت ايجيديو» اندريا ريكاردي نداء عالمياً خلص فيه الى «أن الناس في حلب يموتون، ويجب أن يحل السلام باسم هؤلاء الذين يعانون لتكريس حلب مدينة مفتوحة».

 

والآن يقول ريكاردي لـ «السفير» إن الهدف من الفكرة ليس المسّ بسيادة دمشق، ولا تعديل موازين القوى على الارض.

يتحدث ريكاردي بلهجة تصالحية أكثر اتزاناً من الخطاب الغربي عموماً. يرى ان هناك حتمية طبيعية في التفاوض مع دمشق. يرى ايضاً ان لإيران دورها الذي لا يمكن تجاهله. ويرى لتركيا دورها وانما يقولها بوضوح ارتباطها بالمجموعات المسلحة. يسمّي الاشياء بأسمائها. وعندما يتحدث عن الاسلاميين المسلحين يراهم بمثابة «متعطشين للدماء». لكن الأهم هنا، أنه يعتبر، كما يقول لـ «السفير»، إن حلب يمكن أن تكون «مختبراً للسلام» في سوريا عامة.

وكي يوضع كلام ريكاردي في السياق الملائم، لا بد من التذكير بالدور والرمزية اللذين تمثلهما «سانت ايجيديو» خصوصاً من خلال «ديبلوماسيتها الصامتة» والتي يعتبرها البعض بمثابة ذراع سياسي للفاتيكان.

هذه الجماعة الكاثوليكية تأسّست في العام 1968 وتعاظم دورها «العلماني» الطابع تدريجياً، لتكتسب بذلك قبولاً عالمياً يتخطى حدود عاصمة الكثلكة نحو مناطق الصراعات في العالم، سواء في البلقان او افريقيا كما في ساحل العاج وبوروندي وليبيريا وموزامبيق وجنوب السودان والجزائر، او في اميركا الجنوبية كما في غواتيمالا، او في لبنان من خلال الاتفاق مع وليد جنبلاط في العام 1982 بشان أوضاع المسيحيين في منطقة الشوف.

«الديبلوماسية الصامتة» من ميزات حركة «سانت ايجيديو». ولهذا فإن نداء مؤسس الجماعة يعطي الصرخة بشأن حلب دوياً أكبر. اعاد ريكاردي في 18 تشرين الثاني الماضي إطلاق ندائه، واعلن عن تنظيم ملتقى لرجال الدين المسيحيين والمسلمين وشخصيات سياسية وحكومية في قبرص في الخامس من آذار المقبل، للبحث أيضاً في مستقبل المسيحيين في الشرق الاوسط الذي وصفه بأنه «حساس»، وخلاص حلب التي وصفها بأنها مدينة الحوار والتعايش.

ودق ريكاردي ناقوس الخطر قائلاً: «إذا انتهى الموزاييك التاريخي للحضارات والاديان في سوريا والعراق، فإن الحضارات القديمة التي لا تتواجد في أي مكان آخر في العالم، والتي ندين لها بالكثير، ستختفي مرة واحدة».

وتابع قائلاً إن «الرحيل النهائي للمسيحيين من الشرق الاوسط، يعني فقدان فرادة التعددية والديموقراطية في المنطقة برمتها، لانه بعد رحيل المسيحيين، فإن المسلمين أنفسهم وغيرهم من المكونات في هذا المشهد الفريد بالنسبة للبشرية، سينتهون. بلاد ما بين النهرين القديمة، ستموت.. ستكون إبادة عرقية، أي إبادة حضارية.. ومذبحة».

الكلام منمّق. لكن ماذا عن الوقائع؟ يقول مصدر إيطالي مطلع على حركة «سانت ايجيديو» بشأن حلب لـ «السفير»، إن «هناك إدراكاً لدور تركيا وعلاقتها بداعش... ونعلم أن تركيا وقطر والسعودية تقوم بتسليح المعارضة. وهناك إدراك بشأن ضرورة التحدث مع الجميع، بما في ذلك طبعاً حكومة دمشق... ثم لماذا يتجاهلون إيران في البحث عن حلول لسوريا؟!».

ويتساءل المصدر الإيطالي «لماذا تجاهلوا المعارضة الداخلية خلال السنوات الماضية؟! لماذا تعاملوا مع الائتلاف السوري المعارض على أنه الجهة الوحيدة الممثلة للمعارضة؟! ائتلاف اسطنبول هذا لم يكن ممثلاً للسوريين. لقد تسببوا في تفاقم الأزمة السورية بسلوكهم هذا».

ويضيف المصدر لـ «السفير» أن المبادرة «لا تسعى الى تغيير الوضع في حلب. هي مدينة رمز للتعايش. المسيحيون هناك منذ ألفي سنة. انظر ماذا حصل في الموصل. المكاسب هنا لا تستهدف التدخل لتعديل الجبهات. المكسب يكون بإنقاذ المدينة».

يحرص المصدر الايطالي على القول إن مبادرة حلب في بعدها الأوسع، لا تتعلق بالمسيحيين وحدهم.. الأقليات كلها مهددة في المنطقة. التعايش القائم منذ مئات السنين، يجري ضربه في الصميم».

وقد تلقف دي ميستورا فكرة «حلب أولاً». وقبل زيارته الأولى إلى دمشق كمبعوث أممي، في التاسع من تشرين الثاني الماضي، دعا الى «تجميد» القتال في حلب. وفي العاصمة السورية، قدّم اقتراحه شفوياً الى المسؤولين السوريين، اولاً الى وزير الخارجية وليد المعلم ثم إلى الرئيس بشار الاسد الذي استقبله لاحقاً. وقد حرصت دمشق على التسريب الى الاعلام ان الرئيس السوري وافق بشكل مبدئي على الفكرة، لكن السوريين كانوا حريصين على الاشارة الى انهم بانتظار اقتراحات مكتوبة تجيب على العديد من التساؤلات والظنون التي لا مفر منها بشأن حلب، برغم قناعتهم أن «نموذج حمص» هو الأكثر ملاءمة لهم.

وفي ختام زيارته الى دمشق، قال دي ميستورا إن «خطة تجميد القتال ترتكز على بضع نقاط أساسية، من بينها التركيز الحقيقي على التهديد المتمثل بالإرهاب، تقليص العنف ومحاولة التوصل إلى تخفيف العنف قدر الإمكان».

ثم تابع موضحاً «هي مقاربة جديدة لوقف تصعيد العنف، مختلفة عن وقف إطلاق النار، ومن المهم جداً البدء في حلب... إن وقف القتال يعني أن لا أحد يتحرك من مكانه، ويهدف إلى إيجاد إشارة أمل وشكل معين من أشكال الاستقرار».

وبهذا المعنى تبدو «حلب أولاً» خياراً مختلفاً تماماً عما تراه أنقرة وباريس اللتان حاولتا خلال الأسابيع الماضية وضع مشهد المدينة في سياق خطر مزدوج يمثله كل من «داعش» والدولة السورية »، وإن أي تحرك، خصوصاً لو جاء من جانب قوات «التحالف»، يجدر به التحرك وفق منظور الخطر هذا.

لكن «سانت ايجيديو» صاحبة الفكرة الأصلية، ودي ميستورا الذي تبناها وأعاد تعليبها لتسويقها باسم الامم المتحدة، والعواصم التي ساندتها كموسكو وروما وغيرها من عواصم اوروبية، تحرص على التأكيد طوال الوقت أن الخطة «انسانية» الطابع، وربما تقود في مرحلة لاحقة الى قطف ثمار سياسية لها على المستوى السوري العام.

«السفير» كان لها لقاء مطول مع مصدر سياسي إيطالي آخر واسع الاطلاع، تحدث بإسهاب عن الخيارات السورية. ولكلام هذا المصدر أهميته نظراً الى تولي روما الرئاسة الدورية للاتحاد الاوروبي.

يقول المصدر إنه «في ظل الانسداد السياسي القائم في سوريا، فإن خطوات حلب، قد تساهم في خلق منطقة خالية من العنف، وهو ما من شأنه الدفع باتجاه إشراك الاطراف على الارض في ادارة شؤون حياة الناس في المدينة... سيكون ذلك بمثابة مختبر للحوار، ويكون تطوراً مثمراً للعملية السياسية التي لا أفق لها حتى الآن».

وبعد سنوات الغليان والدم في سوريا والمنطقة عموماً، يقول المصدر الايطالي الآن، إنه لم يعد ممكناً الاستمرار على هذا النحو وانتهاج «سياسة العدم»، وإن الوجهة الاوروبية العامة ترتكز الآن على افكار «الحفاظ على النظام السياسي، وصيانة حدود الدول ووحدتها، من خلال عملية سياسية تدمج الجميع». يتحدث هنا تأكيداً على كلامه عن اجتماعات نظمتها ايطاليا لإعداد خطة مع «اليونيسكو» للحفاظ على ما تبقى من تراث حلب، وعن استعداد روما للتواصل مع جميع الأطراف من اجل صيانة آثار المدينة، وما تبقى منها، حفاظاً كما يقول على «الهوية الوطنية الجامعة».

لا يريد المصدر الايطالي الحديث عن الماضي، في رد منه على أسئلة حول «أخطاء» السلوك الغربي في التعامل مع الازمة السورية، وما وصلت اليه الأمور في سوريا تحديداً. يقول باختصار إن كلمة «إذا» هذه لا تفيد في المراجعة السياسية للمواقف والاحداث. التطلع الايطالي الآن الى الامام. يقول ذلك وهو يشير الى «جنيف 1» وضرورة دعم دي ميستورا في مهمته، مع تحريره من القيود التي تعرقل تقدم المبادرة من أجل تطبيقها بمرونة اكبر.

واذا كان المصدر يرفض اقتصار تقييم الحرب السورية وفق منطق «المتطرفين وغير المتطرفين»، باعتبار انهم على جانبي الصراع، إلا أنه يقر في الوقت ذاته بأن خطأ الاوروبيين ربما في المرحلة الأولى انهم أظهروا نوعاً من اللامبالاة بشأن الحريق السوري، معللاً ذلك باحتمال انهماكهم بالازمات الاقتصادية التي كانت تمر بها دولهم.

والآن، تريد روما، كما غيرها من العواصم الاوروبية، العمل بالتحرك من «القاعدة صعوداً الى القمة». حلب هي النموذج الضروري بالنسبة اليهم. الانشغال بتفاصيل ترتيب التجميد في المدينة يبدأ على الأرض ومن خلال القوى المحلية، صعوداً بما يقود ربما الى تسويات سياسية اكثر شمولاً في المستقبل. ومن أجل إنجاح الخطوة، يقر الايطاليون بضرورة التحدث بصراحة الى رجب طيب اردوغان، الذي من خلال ارتباطه بالعديد من التنظيمات المسلحة في الأرياف الحلبية، وانفتاح حدوده بلا ضوابط امام عمليات التسليح والعبور وغيرها، سيكون عائقاً لا امام التسوية المحتملة في حلب فقط، وانما أيضاً في جعل دمشق تثق بالخطة واصحابها.

يتفق المصدر مع المنطق القائل إن «العراق وسوريا تمثلان جبهة واحدة في الحرب على الإرهاب، اذ لا يمكن الانتصار في إحداهما من دون النجاح في الثانية».

وفي هذا السياق، يقول لـ «السفير» إن «خطة حلب أولاً، يمكن ان تفيد في الحرب على الارهاب وداعش في العراق»، لأنها تعزز مفهوم التعايش والتسوية على الارض، في مقابل منطق التكفير والإبادة الحضارية.

 

إلا أن كل ذلك يظل رهناً بالتفاصيل، وبكل ما تخبئه من شياطين، من شكل تجميد القتال في حلب، ومساحته، واللاعبين على الأرض وولاءاتهم، وطبيعة الإدارة المحلية لشؤون الناس، والجهة التي ستشكل المرجعية لأي سلطة قائمة، واستعداد «الدول الممولة» للمسلحين للقبول بمبدأ عودة العاصمة السورية الثانية كاملة الى سيادة الدولة السورية... والأهم ماذا سيحدث على الأرض من تداعيات بعدما استردّ الجيش السوري مخيم حندرات، آخر معقل للمسلحين، ما يستكمل الطوق العسكري حولها، وحول المسلحين في داخلها، إيذاناً بمرحلة عسكرية حاسمة في المشهد السوري، وسياق سياسي يقرأ في هذه اللحظات بإمعان في «سانت ايجيديو» وروما وبروكسل وأنقرة!

  • فريق ماسة
  • 2014-12-19
  • 10733
  • من الأرشيف

هكذا وُلدت فكرة «حلب أولاً».. ولماذا؟

صارت «حلب أولاً» عنوان المرحلة السورية الحالية. تهيمن على العناوين والحراك السياسي، ما بين دمشق وبروكسل وروما وموسكو. البعض يراها ضرورة إنسانية بحتة، ومهمة حضارية ودينية، وآخرون يرون فيها محاولة مريبة تخفي عناوين خطيرة، والبعض الآخر يريد منها أن تتحوّل بداية لسياق تسوية، اكثر شمولاً. ولأن الأفق السياسي في المشهد السوري دخل في مرحلة انسداد واضحة في مرحلة ما بعد مؤتمر «جنيف 2» المنعقد في بداية العام 2014، وتسبّب من ضمن عوامل أخرى في خروج الأخضر الابراهيمي من مهمته السورية، فإن خليفته، المبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا، وجد في خيار «حلب أولاً» خطة يتيمة يلقي عليها كل في ما جعبته من رهانات لإنجاح حركته الديبلوماسية الشاقة، ربما إلى أن تلوح من ميادين الجبهات السورية المتعددة، ما يملي تعديلاً في اولويات العواصم وخياراتها. «حلب أولاً»! هكذا كبرت الفكرة بعد أكثر من عامين على معاناة المدينة التي استفاق عليها العالم فجأة بعدما جلب عليها مسلحو الارياف و«جهاديو التكفير» غزوة الخراب باسم «تحريرها»، فإذا هي تستحيل شطرين، في اكثر الضربات ايلاماً لمفهوم التعايش السوري اولاً، والديني ثانياً والقائم منذ اكثر من الف سنة، لتتبعها في معاناتها مدينة الموصل العراقية في بداية حزيران الماضي. ثم قرعت أجراس الخطر... ولكن كيف أطلقت الفكرة؟ ومن أطلقها، وماذا قيل فيها؟ بخلاف ما هو شائع هذه الايام، فان دي ميستورا لم يكن صاحب المبادرة. كما انها ليست للأتراك ولا الفرنسيين. هؤلاء سعوا الى ترويج فكرة «المنطقة العازلة» لتشمل الريف الشمالي لحلب، بما يتصل بالحدود التركية، وبما يعنيه ذلك من نيات مبيتة للمس بتطورات المشهد العسكري المحيط بالعاصمة الاقتصادية والثقافية لسوريا. خرجت فكرة «حلب اولاً» بمفهوم «تجميد القتال»، من روما، وتحديداً من دير تراتستيفيري، مقر جماعة «سانت ايجيديو»، التي باتت سمعتها تسبقها في لبنان والمنطقة العربية والعالم عموماً بجهود الوساطات والمصالحة والديبلوماسية الهادئة التي قامت بها لتسوية النزاعات في مختلف أنحاء العالم. ففي 22 حزيران 2014، وجّه مؤسس «سانت ايجيديو» اندريا ريكاردي نداء عالمياً خلص فيه الى «أن الناس في حلب يموتون، ويجب أن يحل السلام باسم هؤلاء الذين يعانون لتكريس حلب مدينة مفتوحة».   والآن يقول ريكاردي لـ «السفير» إن الهدف من الفكرة ليس المسّ بسيادة دمشق، ولا تعديل موازين القوى على الارض. يتحدث ريكاردي بلهجة تصالحية أكثر اتزاناً من الخطاب الغربي عموماً. يرى ان هناك حتمية طبيعية في التفاوض مع دمشق. يرى ايضاً ان لإيران دورها الذي لا يمكن تجاهله. ويرى لتركيا دورها وانما يقولها بوضوح ارتباطها بالمجموعات المسلحة. يسمّي الاشياء بأسمائها. وعندما يتحدث عن الاسلاميين المسلحين يراهم بمثابة «متعطشين للدماء». لكن الأهم هنا، أنه يعتبر، كما يقول لـ «السفير»، إن حلب يمكن أن تكون «مختبراً للسلام» في سوريا عامة. وكي يوضع كلام ريكاردي في السياق الملائم، لا بد من التذكير بالدور والرمزية اللذين تمثلهما «سانت ايجيديو» خصوصاً من خلال «ديبلوماسيتها الصامتة» والتي يعتبرها البعض بمثابة ذراع سياسي للفاتيكان. هذه الجماعة الكاثوليكية تأسّست في العام 1968 وتعاظم دورها «العلماني» الطابع تدريجياً، لتكتسب بذلك قبولاً عالمياً يتخطى حدود عاصمة الكثلكة نحو مناطق الصراعات في العالم، سواء في البلقان او افريقيا كما في ساحل العاج وبوروندي وليبيريا وموزامبيق وجنوب السودان والجزائر، او في اميركا الجنوبية كما في غواتيمالا، او في لبنان من خلال الاتفاق مع وليد جنبلاط في العام 1982 بشان أوضاع المسيحيين في منطقة الشوف. «الديبلوماسية الصامتة» من ميزات حركة «سانت ايجيديو». ولهذا فإن نداء مؤسس الجماعة يعطي الصرخة بشأن حلب دوياً أكبر. اعاد ريكاردي في 18 تشرين الثاني الماضي إطلاق ندائه، واعلن عن تنظيم ملتقى لرجال الدين المسيحيين والمسلمين وشخصيات سياسية وحكومية في قبرص في الخامس من آذار المقبل، للبحث أيضاً في مستقبل المسيحيين في الشرق الاوسط الذي وصفه بأنه «حساس»، وخلاص حلب التي وصفها بأنها مدينة الحوار والتعايش. ودق ريكاردي ناقوس الخطر قائلاً: «إذا انتهى الموزاييك التاريخي للحضارات والاديان في سوريا والعراق، فإن الحضارات القديمة التي لا تتواجد في أي مكان آخر في العالم، والتي ندين لها بالكثير، ستختفي مرة واحدة». وتابع قائلاً إن «الرحيل النهائي للمسيحيين من الشرق الاوسط، يعني فقدان فرادة التعددية والديموقراطية في المنطقة برمتها، لانه بعد رحيل المسيحيين، فإن المسلمين أنفسهم وغيرهم من المكونات في هذا المشهد الفريد بالنسبة للبشرية، سينتهون. بلاد ما بين النهرين القديمة، ستموت.. ستكون إبادة عرقية، أي إبادة حضارية.. ومذبحة». الكلام منمّق. لكن ماذا عن الوقائع؟ يقول مصدر إيطالي مطلع على حركة «سانت ايجيديو» بشأن حلب لـ «السفير»، إن «هناك إدراكاً لدور تركيا وعلاقتها بداعش... ونعلم أن تركيا وقطر والسعودية تقوم بتسليح المعارضة. وهناك إدراك بشأن ضرورة التحدث مع الجميع، بما في ذلك طبعاً حكومة دمشق... ثم لماذا يتجاهلون إيران في البحث عن حلول لسوريا؟!». ويتساءل المصدر الإيطالي «لماذا تجاهلوا المعارضة الداخلية خلال السنوات الماضية؟! لماذا تعاملوا مع الائتلاف السوري المعارض على أنه الجهة الوحيدة الممثلة للمعارضة؟! ائتلاف اسطنبول هذا لم يكن ممثلاً للسوريين. لقد تسببوا في تفاقم الأزمة السورية بسلوكهم هذا». ويضيف المصدر لـ «السفير» أن المبادرة «لا تسعى الى تغيير الوضع في حلب. هي مدينة رمز للتعايش. المسيحيون هناك منذ ألفي سنة. انظر ماذا حصل في الموصل. المكاسب هنا لا تستهدف التدخل لتعديل الجبهات. المكسب يكون بإنقاذ المدينة». يحرص المصدر الايطالي على القول إن مبادرة حلب في بعدها الأوسع، لا تتعلق بالمسيحيين وحدهم.. الأقليات كلها مهددة في المنطقة. التعايش القائم منذ مئات السنين، يجري ضربه في الصميم». وقد تلقف دي ميستورا فكرة «حلب أولاً». وقبل زيارته الأولى إلى دمشق كمبعوث أممي، في التاسع من تشرين الثاني الماضي، دعا الى «تجميد» القتال في حلب. وفي العاصمة السورية، قدّم اقتراحه شفوياً الى المسؤولين السوريين، اولاً الى وزير الخارجية وليد المعلم ثم إلى الرئيس بشار الاسد الذي استقبله لاحقاً. وقد حرصت دمشق على التسريب الى الاعلام ان الرئيس السوري وافق بشكل مبدئي على الفكرة، لكن السوريين كانوا حريصين على الاشارة الى انهم بانتظار اقتراحات مكتوبة تجيب على العديد من التساؤلات والظنون التي لا مفر منها بشأن حلب، برغم قناعتهم أن «نموذج حمص» هو الأكثر ملاءمة لهم. وفي ختام زيارته الى دمشق، قال دي ميستورا إن «خطة تجميد القتال ترتكز على بضع نقاط أساسية، من بينها التركيز الحقيقي على التهديد المتمثل بالإرهاب، تقليص العنف ومحاولة التوصل إلى تخفيف العنف قدر الإمكان». ثم تابع موضحاً «هي مقاربة جديدة لوقف تصعيد العنف، مختلفة عن وقف إطلاق النار، ومن المهم جداً البدء في حلب... إن وقف القتال يعني أن لا أحد يتحرك من مكانه، ويهدف إلى إيجاد إشارة أمل وشكل معين من أشكال الاستقرار». وبهذا المعنى تبدو «حلب أولاً» خياراً مختلفاً تماماً عما تراه أنقرة وباريس اللتان حاولتا خلال الأسابيع الماضية وضع مشهد المدينة في سياق خطر مزدوج يمثله كل من «داعش» والدولة السورية »، وإن أي تحرك، خصوصاً لو جاء من جانب قوات «التحالف»، يجدر به التحرك وفق منظور الخطر هذا. لكن «سانت ايجيديو» صاحبة الفكرة الأصلية، ودي ميستورا الذي تبناها وأعاد تعليبها لتسويقها باسم الامم المتحدة، والعواصم التي ساندتها كموسكو وروما وغيرها من عواصم اوروبية، تحرص على التأكيد طوال الوقت أن الخطة «انسانية» الطابع، وربما تقود في مرحلة لاحقة الى قطف ثمار سياسية لها على المستوى السوري العام. «السفير» كان لها لقاء مطول مع مصدر سياسي إيطالي آخر واسع الاطلاع، تحدث بإسهاب عن الخيارات السورية. ولكلام هذا المصدر أهميته نظراً الى تولي روما الرئاسة الدورية للاتحاد الاوروبي. يقول المصدر إنه «في ظل الانسداد السياسي القائم في سوريا، فإن خطوات حلب، قد تساهم في خلق منطقة خالية من العنف، وهو ما من شأنه الدفع باتجاه إشراك الاطراف على الارض في ادارة شؤون حياة الناس في المدينة... سيكون ذلك بمثابة مختبر للحوار، ويكون تطوراً مثمراً للعملية السياسية التي لا أفق لها حتى الآن». وبعد سنوات الغليان والدم في سوريا والمنطقة عموماً، يقول المصدر الايطالي الآن، إنه لم يعد ممكناً الاستمرار على هذا النحو وانتهاج «سياسة العدم»، وإن الوجهة الاوروبية العامة ترتكز الآن على افكار «الحفاظ على النظام السياسي، وصيانة حدود الدول ووحدتها، من خلال عملية سياسية تدمج الجميع». يتحدث هنا تأكيداً على كلامه عن اجتماعات نظمتها ايطاليا لإعداد خطة مع «اليونيسكو» للحفاظ على ما تبقى من تراث حلب، وعن استعداد روما للتواصل مع جميع الأطراف من اجل صيانة آثار المدينة، وما تبقى منها، حفاظاً كما يقول على «الهوية الوطنية الجامعة». لا يريد المصدر الايطالي الحديث عن الماضي، في رد منه على أسئلة حول «أخطاء» السلوك الغربي في التعامل مع الازمة السورية، وما وصلت اليه الأمور في سوريا تحديداً. يقول باختصار إن كلمة «إذا» هذه لا تفيد في المراجعة السياسية للمواقف والاحداث. التطلع الايطالي الآن الى الامام. يقول ذلك وهو يشير الى «جنيف 1» وضرورة دعم دي ميستورا في مهمته، مع تحريره من القيود التي تعرقل تقدم المبادرة من أجل تطبيقها بمرونة اكبر. واذا كان المصدر يرفض اقتصار تقييم الحرب السورية وفق منطق «المتطرفين وغير المتطرفين»، باعتبار انهم على جانبي الصراع، إلا أنه يقر في الوقت ذاته بأن خطأ الاوروبيين ربما في المرحلة الأولى انهم أظهروا نوعاً من اللامبالاة بشأن الحريق السوري، معللاً ذلك باحتمال انهماكهم بالازمات الاقتصادية التي كانت تمر بها دولهم. والآن، تريد روما، كما غيرها من العواصم الاوروبية، العمل بالتحرك من «القاعدة صعوداً الى القمة». حلب هي النموذج الضروري بالنسبة اليهم. الانشغال بتفاصيل ترتيب التجميد في المدينة يبدأ على الأرض ومن خلال القوى المحلية، صعوداً بما يقود ربما الى تسويات سياسية اكثر شمولاً في المستقبل. ومن أجل إنجاح الخطوة، يقر الايطاليون بضرورة التحدث بصراحة الى رجب طيب اردوغان، الذي من خلال ارتباطه بالعديد من التنظيمات المسلحة في الأرياف الحلبية، وانفتاح حدوده بلا ضوابط امام عمليات التسليح والعبور وغيرها، سيكون عائقاً لا امام التسوية المحتملة في حلب فقط، وانما أيضاً في جعل دمشق تثق بالخطة واصحابها. يتفق المصدر مع المنطق القائل إن «العراق وسوريا تمثلان جبهة واحدة في الحرب على الإرهاب، اذ لا يمكن الانتصار في إحداهما من دون النجاح في الثانية». وفي هذا السياق، يقول لـ «السفير» إن «خطة حلب أولاً، يمكن ان تفيد في الحرب على الارهاب وداعش في العراق»، لأنها تعزز مفهوم التعايش والتسوية على الارض، في مقابل منطق التكفير والإبادة الحضارية.   إلا أن كل ذلك يظل رهناً بالتفاصيل، وبكل ما تخبئه من شياطين، من شكل تجميد القتال في حلب، ومساحته، واللاعبين على الأرض وولاءاتهم، وطبيعة الإدارة المحلية لشؤون الناس، والجهة التي ستشكل المرجعية لأي سلطة قائمة، واستعداد «الدول الممولة» للمسلحين للقبول بمبدأ عودة العاصمة السورية الثانية كاملة الى سيادة الدولة السورية... والأهم ماذا سيحدث على الأرض من تداعيات بعدما استردّ الجيش السوري مخيم حندرات، آخر معقل للمسلحين، ما يستكمل الطوق العسكري حولها، وحول المسلحين في داخلها، إيذاناً بمرحلة عسكرية حاسمة في المشهد السوري، وسياق سياسي يقرأ في هذه اللحظات بإمعان في «سانت ايجيديو» وروما وبروكسل وأنقرة!

المصدر : السفير/ خليل حرب


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة