دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
من جبال تورا بورا إلى رأس الرجاء الصالح وما بينهما، حرب من نوع آخر تخاض هنا لا ترصدها طائرات "التحالف الدولي"، إنها لعبة "التحكم بالعقول"، مفرداتها هذه المرة صناعة علم من تكفير وموت ببضعة أموال وعمامات.. شاهد على ذلك ما يحصل في العراق وسوريا في زمن "فتوحات داعش".
جامعة الموصل(سابقاً) أو "جامعة الدولة الإسلامية في نينوى" حديثاً، أقدم الجامعات العراقية وأكبرها، شاهدة على هذا التغيير.
التاسعة صباحاً، تدخل طالبات منقبات - الخمار ارتدينه كزي رسمي-، وحيدات إلى مبنى الجامعة في أول أيام الدراسة كتكريس لمبدأ عدم الاختلاط بين الجنسين، والتزاماً بقرار تقسيم الدوام إلى جزئين وفق مقررات إسم "ديوان المعارف"، وهي تسمية الجديدة لوزارتي "التربية" و"التعليم العالي" من قبل التنظيم: دوام للطالبات يبدأ من الساعة التاسعة صباحاً وحتى الثانية ظهراً وللطلاب من الثانية إلى السادسة عصراً.
في هذا الصرح الجامعي من سنة 2014، شطبت أسماء كليات كالحقوق والعلوم السياسية والفنون الجميلة والآثار والتربية الرياضية والفلسفة وإدارة المؤسسات السياحية والفندقية .. وألغيت مواد الديمقراطية والحريات والحقوق والرواية والمسرحية بأقسامها الأجنبية .. لأنها مواد تناقض الرؤية الدينية التوسعية لدولة الخلافة بزعم دعاتهم، فاستبدلت بآخريات كمادة "الجهاد" بدل "الرياضة" لأنها ملهاة للطلاب عن دينهم واداء فرائضهم وهي من مؤمرات الكفار!..، يقول هؤلاء. وتشطب "جمهورية العراق" في المناهج وكأن نبوءة الشاعر العراقي أبو تمام قد صدقت هنا حين قال "والسيف أصدق انباءً من الكتب"!.
جامعة الموصل، ليست الوحيدة في أجندة "الثورة التعليمية لتنظيم داعش"، فقد سبقها إعلان عن تغيير في خارطة المناهج التعليمية التي يسيطر عليها التنظيم في الشمال السوري ومن جملتها حذف "سوريا" من المناهج التعليمية، حيث جاء في التعميم الصادر عن "ديوان التعليم" الذي يرأسه "ذو القرنين": "تستبدل كلمة الوطن، أو وطنه، أو سوريا، أو وطني أينما وجدت، بالدولة الإسلامية، أو دولته الإسلامية، أو بلاد المسلمين، أو الدولة الإسلامية، أو ولاية الشام.."، كذلك قيام تنظيم داعش بتغيير المناهج واسم المدرسة في امارة "درنة" الليبية.
لا يقتصر الأمر عند هذا الحد، بل يتعداه إلى "حذف أي مثال في مادة الرياضيات يدل على الربا والفوائد الربوية، أو الديمقراطية، أو الانتخاب"، وحذف عناوين أخرى في العلوم وهنا تأكيد لجميع المعلمين على اعتبار قوانين الكيمياء والفيزياء هي قوانين الله في الخلق.. فنظرية "دوران الأرض حول الشمس" التي أثبتها علماء الفلك اليوم باتت في فلك داعش وقوانيها شرك وكفر!.
أما بخصوص مادة التربية الدينية، فقد فرض التنظيم مناهج التربيّة الدينيّة الرائجة في المملكة العربيّة السعوديّة، من دون تغيير كبير فيها ومنها كتاب "التوحيد والفقه والسلوك" و"كشف الشبهات" و"نواقض الاسلام" لمحمد بن عبد الوهاب، الذي ينسب له فكر السلفية الجهادية والذي تطرق في كتبه إلى "الفرقة الناجية" التي تحدث عنها النبي محمد(ص) وهي وبحسب زعمهم "تنظيم الدولة الإسلامية" استناداً إلى ما رواه بعض علمائهم على أن الفرقة الناجية هم الذين يجتمعون على أمير، في إشارة إلى أميرهم الحالي "أبو بكر البغدادي".
واستتباعاً لهذه الأفكار و "من أجل تحقق دولة الخلافة"، تعتمد هذه المناهج بحسب ما جاء في مضمون تلك الصفحات على وجوب اقامة شرع الله وقتل كل من يخالف تشريعات الدولة، حيث تعد مقاتلة من أسماهم "الخوارج" هي من الأولويات قبل قتل "أهل الكتاب أو أهل الذمة".
كما أنها لم تترك باباً لتكفير الإنسان "الآخر" إلا وطرقته، علمانياً، قومياً، شيوعياً، أيّن يكن...كلهم "كفر بواح مناقض للإسلام مخرج من الملة"، تقول شريعة داعش.
ولإضفاء المعلومة تحت عنوان "مصادر إضافيّة لترغيب الطلاّب بقراءتها، وتوسيع معلوماتهم الدينيّة وفقاً للرؤية السلفيّة"، قامت "داعش" بتوزيع كرّاسات، وكتيّبات ترتبط بعقيدة التنظيم وأحكام الشريعة والتاريخ الإسلاميّ وفقاً لفكرها.
هي لعنة التاريخ تطل مجدداً بثوب "هولاكو الجديد" إذاً، يمحو التاريخ بحرف سيف، ويوطأ لجيل جامعي جديد متعلم بلغة تلامس "حدود العصر" و لا تشبه أبجدياتنا المعروفة، لا ندري كيفية مواجهته: ببيان استنكار؟ بتحالف دولي؟ أم بمواجهة فكرية؟.. وماذا لو انتقل إلى جامعات أخرى؟ فأين نحن من كل هذا؟
إن المشروع الذي قامت به "داعش" ليس جديداً ، بدليل أنها أوجد له مكاناً في التاريخ عندما وطئت له دول وحكومات عربية و قدمت خدمات مجانية لتناميه عبر توفير الحواضن الفكرية ودعمها بالمال والمدارس والجامعات، كما أنها لم تقدم على تصحيح أو تعديل أي خلل في بنية المناهج التربوية، فكانت أن جنت جيلاً متعاطفاً مع داعش وأخواتها.. وها هي اليوم تستشعر الخطر في ساحتها حتى باتت شعار على جدار مدرسة أو "انشقاق" استاذة يقلقها!.
ومن جهة ثانية، يجد هذا الأسلوب له مبرراته في التاريخ، حينما عمد الإحتلال العثماني للدول العربية في القرنين الأخيرين حيث كان التدريس باللغة التركية على ارغام العرب ارسال أبناءهم إذا أرادوا تعلم العربية إلى المدارس الأهلية، حيث تدرس فقط القراءة والكتابة والحساب، وها هي دولة «داعش» تعيدنا إلى ذاك العصر.
بناءً على ذلك، في المدى المنظور لا بد من تقديم قراءة أعمق وأشمل لخطورة "المد الإيدلوجي الداعشي"، وهذا يستدعي اعتماد استراتيجية تتركز على محاربة الفكر بالفكر مقابل هذا التشويه والتكفير للدين الإسلامي، أو ما أسماها الصحافي رافييل كوهين من مؤسسة راند بـ "استراتجية كسب العقول والقلوب" كإحدى أدوات محاربة "داعش".
هذا التشخيص للمسألة لم يعد يكفي، بل يتطلب تقديم قراءة أعمق وأشمل تجاه "الخطر الايدولوجي الجديد لـ "داعش"، والذي تمكن بسياسته من استيلاب عقول الشباب عبر القارات من مختلف الطبقات الإجتماعية واتقانه وسائل التكنولوجيا المتطورة.
لذا فالحرب الفكرية تستجدي حرباً فكرية من نوع آخر مقابل هذا التشويه والتكفير وقد تكون وسائلها أقل ولوقت أكبر، وتشريح هذا الفكر ضرورة ماسة اليوم قبل الغد، لأن خطره كبير يكمن في تصوير الإسلام بمظهر لا يتناسب مع القيم التي جاء بها رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك بالإستناد إلى أحاديث ضعيفة السند، والهدف صياغة دين جديد لا علاقة له بحقيقة الإسلام.
ويحاول هذا الفكر الداعشي إسقاط عقلية سطحية في المنهج التدريسي، تقوم على طمس كل الإكتشافات العلمية والإنسانية، وهذا من شأنه إفراغ المجتمعات من علومها وحضارتها، وخصوصاً أن المنطقة العربية لها إمتداد في التاريخ يعود لآلاف السنين.
المصدر :
طالب جرادي
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة