يُرجع الدكتور فوزي منصور، في كتابه «خروج العرب من التاريخ»، سلسلة الأحداث التي أدت إلى تشكّل «قطب الرجعية العربية»، المملكة العربية السعودية،

  إلى ثلاثة أحداث تاريخية مفصلية، أولها، في القرن السابع الميلادي، يتمثل في انتقال عاصمة الخلافة من المدينة إلى دمشق، ما أدى إلى تهميش جزيرة العرب، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، في ظل استمرار النزيف السكاني منها إلى الشام والعراق وبلاد الامبراطورية العربية الأخرى، حتى تحوّل قلبها إلى فراغ متروك استعاد النمط القبلي البدائي لما قبل «الجاهلية»، واستمر حتى القرن العشرين؛

 وثانيها، في القرنين السابع عشر والثامن عشر، حين أحكمت بريطانيا سيطرتها على المنافذ البحرية للجزيرة، ومشيخاتها المحلية، ما أدى إلى كبح ما بقي من حيوية اقتصادية واجتماعية وسياسية على السواحل، والانكفاء إلى الداخل، حيث تعايشت قرى زراعية في الواحات في فضاء بدوي. هنا، في قرية العيينة في نجد، وبتأثير الاختناق الاقتصادي والتهميش السياسي والعزلة الطويلة عن التطور الثقافي والحضاري في العالم العربي الإسلامي، نشأت الوهابية، فأصبحت السلاح الايديولوجي للقوة القبلية الطموحة لآل سعود، وثالثها ظهور الثروة النفطية في دولة كهذه.

الوهابية ليست مذهباً إسلامياً، وإنما نزعة دينية محلية غير مثقّفة، منبتة الصلة بما عرفه الفكر الإسلامي من انجازات على مدى قرون؛ ورغم ادعائها العودة إلى القرآن والسنّة، فإنها تظل بعيدة عن حيوية الوحي والرسالة بأبعادها التاريخية، ومحكومة، بسبب بيئتها، للضحالة الفكرية وأولوية الشكليات والتعصب الأعمى وتسويغ العنف، مما كان يلائم طموح السعوديين للتوسع والسيطرة في رحاب الجزيرة العربية، وإنما في الحدود التي رسمها الانكليز لمحمياتهم الساحلية؛ الخرق الوحيد لتلك الحدود حدث في الحجاز التي كان حاكمها، الحسين بن علي، متطلّباً على المستوى الإقليمي (على خلفية تحالفه مع بريطانيا في الثورة العربية الكبرى) وفاشلاً في تنظيم الإدارة المحلية.

لكن الحجاز كان متطوراً نسبياً ومختلفاً عن نجد؛ إذ حافظ على صلة أكبر بالعالم العربي والإسلامي، بسبب الحج، كما بسبب الميناء. وبقي، لدى الحجازيين، على مرّ العقود، منذ 1925، ذلك الشعور الممض بخضوعهم لاحتلال نجدي ـ سعودي، بينما ظلّ الهاشميون يراودهم الأمل بالعودة؛ سنة 1990، حين بدا أن الرئيس صدام حسين قد خلخل، باحتلاله الكويت، النظام الإقليمي، بادر الملك حسين، إلى إعلان نفسه «شريفاً»، لقب حاكم مكة الهاشمي.

الآن، نعيش مرحلة تخلخل وتصدّع في النظام الإقليمي، طويل المدى؛ وسنرى أن أي فوضى أمنية ـ سياسية في السعودية، ستطلق دينامية حجازية استقلالية. وقد بدأتُ بالحجاز لأنها خارج التداول في نقاشات النزعات الانفصالية عن المملكة؛ فالتهديد الأول الممكن يأتي من جهة اليمن التي اغتصب آل سعود منها، عام 1934، بالحرب، نجران (الاسماعيلية) وجيزان وعسير (الزيديتين). وهي مناطق لم تبرح وجدان اليمنيين، حتى علي عبدالله صالح، لم يجرؤ، قبل سنة 2000، على الاعتراف بالحدود مع السعودية. وعلى كل حال، فإن الخزّان البشري اليمني المضغوط في أزمة اقتصادية خانقة، مهيأ للانفجار باتجاه السعودية، على الرغم من جدار الفصل العنصري الذي تقيمه على الحدود. ولا ننسى، هنا، أن مليونيّ يمني كانت السعودية قد طردتهم منها، بسبب وقوف صنعاء مع صدام حسين في أزمة الكويت، يبيّتون ثأر العودة.

في اليمن، يُعاد، الآن، تشكيل اللوحة السياسية من خلال قوة الحوثيين الصاعدة. والنهوض اليمني سيفيد من أي تخلخل أمني في المملكة، لاسترداد الأراضي اليمنية المحتلة من قبل آل سعود.

يعيش حوالي أربعة ملايين من الشيعة الاثني عشرية في المنطقة الشرقية من المملكة، القطيف والإحساء ـ المتصلة مع نجران وعسير وجازان ـ ويواجه هؤلاء سياسات الرياض الاستبدادية المذهبية، والتهميش السياسي والحرمان التنموي مع أن معظم الثروة النفطية تقبع في أراضيهم. ولطالما كان شرق الجزيرة منفصلا عن داخلها، ولا يربط بينهما رابط حضاري أو ثقافي منذ أقدم الأزمنة حتى الحاقه قسرا بالسعودية؛ إنه جزء من البحرين الكبرى، موئل حضارة دلمون. وهي حضارة رافدانية لا جزيرية.

نجد التي كانت منطلق آل سعود، هي أيضاً موضع نزاع عميق مع قبيلة شمّر التي أطاح السعوديون إمارتهم ـ وحكامها آل الرشيد ـ العام 1921، أما تبوك والجوف، فهما جزء من حضارة البتراء وامتداد للبادية الأردنية. وقد اضطرت عمان للتنازل عن وادي السرحان والقريات للسعوديين للكفّ عن مطالبها التوسعية في العقبة ومعان.

هذه التركيبة المعقدة تشبه مرجلاً يسده نظام أمني قمعي مسنود بالرعاية الأميركية، وشمولية وهابية مسيطرة على الفضاء التربوي والثقافي. الأخيرة هي، بالضبط، ثقافة «داعش» التي تؤيدها أغلبية "سنية" في المملكة، ومنحتها الكثير من المال والرجال؛ وتمثّل المملكة، في الواقع، البيئة الأكثر خصوبة للدواعش الذين يحفرون قبر آل سعود بالمعول الأيديولوجي نفسه الذي ساعد على قمع مناطق الجزيرة، والاستيلاء على ثرواتها واضطهاد شعبها، وخصوصا «الأغيار» مذهبياً.

أخطر ما ستفعله «داعش» في السعودية، أنها ستكسر الغطاء عن المرجل.

  • فريق ماسة
  • 2014-10-17
  • 9045
  • من الأرشيف

السعودية؛ فرضية الانهيار ....ناهض حتر

يُرجع الدكتور فوزي منصور، في كتابه «خروج العرب من التاريخ»، سلسلة الأحداث التي أدت إلى تشكّل «قطب الرجعية العربية»، المملكة العربية السعودية،   إلى ثلاثة أحداث تاريخية مفصلية، أولها، في القرن السابع الميلادي، يتمثل في انتقال عاصمة الخلافة من المدينة إلى دمشق، ما أدى إلى تهميش جزيرة العرب، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، في ظل استمرار النزيف السكاني منها إلى الشام والعراق وبلاد الامبراطورية العربية الأخرى، حتى تحوّل قلبها إلى فراغ متروك استعاد النمط القبلي البدائي لما قبل «الجاهلية»، واستمر حتى القرن العشرين؛  وثانيها، في القرنين السابع عشر والثامن عشر، حين أحكمت بريطانيا سيطرتها على المنافذ البحرية للجزيرة، ومشيخاتها المحلية، ما أدى إلى كبح ما بقي من حيوية اقتصادية واجتماعية وسياسية على السواحل، والانكفاء إلى الداخل، حيث تعايشت قرى زراعية في الواحات في فضاء بدوي. هنا، في قرية العيينة في نجد، وبتأثير الاختناق الاقتصادي والتهميش السياسي والعزلة الطويلة عن التطور الثقافي والحضاري في العالم العربي الإسلامي، نشأت الوهابية، فأصبحت السلاح الايديولوجي للقوة القبلية الطموحة لآل سعود، وثالثها ظهور الثروة النفطية في دولة كهذه. الوهابية ليست مذهباً إسلامياً، وإنما نزعة دينية محلية غير مثقّفة، منبتة الصلة بما عرفه الفكر الإسلامي من انجازات على مدى قرون؛ ورغم ادعائها العودة إلى القرآن والسنّة، فإنها تظل بعيدة عن حيوية الوحي والرسالة بأبعادها التاريخية، ومحكومة، بسبب بيئتها، للضحالة الفكرية وأولوية الشكليات والتعصب الأعمى وتسويغ العنف، مما كان يلائم طموح السعوديين للتوسع والسيطرة في رحاب الجزيرة العربية، وإنما في الحدود التي رسمها الانكليز لمحمياتهم الساحلية؛ الخرق الوحيد لتلك الحدود حدث في الحجاز التي كان حاكمها، الحسين بن علي، متطلّباً على المستوى الإقليمي (على خلفية تحالفه مع بريطانيا في الثورة العربية الكبرى) وفاشلاً في تنظيم الإدارة المحلية. لكن الحجاز كان متطوراً نسبياً ومختلفاً عن نجد؛ إذ حافظ على صلة أكبر بالعالم العربي والإسلامي، بسبب الحج، كما بسبب الميناء. وبقي، لدى الحجازيين، على مرّ العقود، منذ 1925، ذلك الشعور الممض بخضوعهم لاحتلال نجدي ـ سعودي، بينما ظلّ الهاشميون يراودهم الأمل بالعودة؛ سنة 1990، حين بدا أن الرئيس صدام حسين قد خلخل، باحتلاله الكويت، النظام الإقليمي، بادر الملك حسين، إلى إعلان نفسه «شريفاً»، لقب حاكم مكة الهاشمي. الآن، نعيش مرحلة تخلخل وتصدّع في النظام الإقليمي، طويل المدى؛ وسنرى أن أي فوضى أمنية ـ سياسية في السعودية، ستطلق دينامية حجازية استقلالية. وقد بدأتُ بالحجاز لأنها خارج التداول في نقاشات النزعات الانفصالية عن المملكة؛ فالتهديد الأول الممكن يأتي من جهة اليمن التي اغتصب آل سعود منها، عام 1934، بالحرب، نجران (الاسماعيلية) وجيزان وعسير (الزيديتين). وهي مناطق لم تبرح وجدان اليمنيين، حتى علي عبدالله صالح، لم يجرؤ، قبل سنة 2000، على الاعتراف بالحدود مع السعودية. وعلى كل حال، فإن الخزّان البشري اليمني المضغوط في أزمة اقتصادية خانقة، مهيأ للانفجار باتجاه السعودية، على الرغم من جدار الفصل العنصري الذي تقيمه على الحدود. ولا ننسى، هنا، أن مليونيّ يمني كانت السعودية قد طردتهم منها، بسبب وقوف صنعاء مع صدام حسين في أزمة الكويت، يبيّتون ثأر العودة. في اليمن، يُعاد، الآن، تشكيل اللوحة السياسية من خلال قوة الحوثيين الصاعدة. والنهوض اليمني سيفيد من أي تخلخل أمني في المملكة، لاسترداد الأراضي اليمنية المحتلة من قبل آل سعود. يعيش حوالي أربعة ملايين من الشيعة الاثني عشرية في المنطقة الشرقية من المملكة، القطيف والإحساء ـ المتصلة مع نجران وعسير وجازان ـ ويواجه هؤلاء سياسات الرياض الاستبدادية المذهبية، والتهميش السياسي والحرمان التنموي مع أن معظم الثروة النفطية تقبع في أراضيهم. ولطالما كان شرق الجزيرة منفصلا عن داخلها، ولا يربط بينهما رابط حضاري أو ثقافي منذ أقدم الأزمنة حتى الحاقه قسرا بالسعودية؛ إنه جزء من البحرين الكبرى، موئل حضارة دلمون. وهي حضارة رافدانية لا جزيرية. نجد التي كانت منطلق آل سعود، هي أيضاً موضع نزاع عميق مع قبيلة شمّر التي أطاح السعوديون إمارتهم ـ وحكامها آل الرشيد ـ العام 1921، أما تبوك والجوف، فهما جزء من حضارة البتراء وامتداد للبادية الأردنية. وقد اضطرت عمان للتنازل عن وادي السرحان والقريات للسعوديين للكفّ عن مطالبها التوسعية في العقبة ومعان. هذه التركيبة المعقدة تشبه مرجلاً يسده نظام أمني قمعي مسنود بالرعاية الأميركية، وشمولية وهابية مسيطرة على الفضاء التربوي والثقافي. الأخيرة هي، بالضبط، ثقافة «داعش» التي تؤيدها أغلبية "سنية" في المملكة، ومنحتها الكثير من المال والرجال؛ وتمثّل المملكة، في الواقع، البيئة الأكثر خصوبة للدواعش الذين يحفرون قبر آل سعود بالمعول الأيديولوجي نفسه الذي ساعد على قمع مناطق الجزيرة، والاستيلاء على ثرواتها واضطهاد شعبها، وخصوصا «الأغيار» مذهبياً. أخطر ما ستفعله «داعش» في السعودية، أنها ستكسر الغطاء عن المرجل.

المصدر : الماسة السورية/ الأخبار


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة