بينما كنت أتابع البث المباشر لوقفه عرفة من المشاعر المقدسة، حيث أكثر من مليوني حاج جاؤوا من مختلف أصقاع المعمورة لأداء فريضة الحج، في ملابس الاحرام البيضاء بوجوه نضرة طافحة بالسعادة والإيمان معاً، لفت نظري علم الخلافة الأسود الاسلامية يرفرف من بعيد فوق جبل الرحمة، وتتوسطه كلمات "لا اإله إلا الله محمد رسول الله" مكتوب بالابيض.

لا اعرف من رفع هذا العلم، فلم تدم هذه القطة للنظر إلا بضعة ثوان، مثلما لا أعرف، وكيف أعرف، ما حدث لصاحبه، فالسلطات السعودية تمنع أي ممارسة سياسية الطابع في الأماكن المقدسة، ناهيك عن رفع علم "الدولة الاسلامية" التي تكن لها هذه السلطات كل أنواع "العداء"، وتعتبرها قمة "الإرهاب"، وتشارك طائراتها الحربية، جنباً إلى جنب مع نظيراتها الأمريكية في قصف مواقعها وتجمعاتها لإضعافها ومن ثم القضاء عليها في إطار تحالف دولي يضم خمسين بلداً.

الشيخ عبد العزيز آل الشيخ مفتي المملكة العربية السعودية كان معبراً عن موقف هذه السلطات ولسان حال دول التحالف جميعاً، اسلامية أو غير اسلامية، عندما دعا في خطبة الجمعة التي ألقاها من مسجد نمرة في عرفات، قادة الدول الاسلامية إلى ضرب "الدولة الاسلامية"، دون أن يسميها، بيد من حديد، وقال مخاطباً لهم، "دينكم مستهدف.. أمنكم مستهدف.. عقيدتكم مستهدفة"، وأضاف "ابتلينا بأمه سفكوا الدماء.. وقتلوا النفوس المعصومة.. وقدموا بهذا تمثيلاً سيئاً لا يمثل إسلاماً.. هؤلاء إجراميون سفكوا الدماء ونهبوا الأموال وباعوا الحرائر لا خير فيهم".

وخطبة الشيخ آل الشيخ، أعلى مرجعية دينية في المملكة، تعكس حجم القلق السعودي الرسمي من هذه "الدولة" وعقيدتها الدينية والقتالية، وامتدادها إلى العمق الشعبي المهيء جزئياً أو كلياً لكي يكون حاضنة لفكرها الذي يشكل في معظم جوانبه تجسيداً للدعوة الوهابية في نسختها الأولى قبل ثلاثة قرون، مثلما تؤكد دراسات جادة عديدة في الشرق والغرب معاً.

 

***

العاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز حث الدول الغربية على التدخل بسرعة لمحاربة "الدولة الاسلامية" والقضاء عليها محذراً من إنها ستصل إلى أوروبا في غضون شهر، وإلى أمريكا في غضون شهرين، ويبدو أن الولايات المتحدة لبت هذا النداء فوراً، وشكلت الحلف الخمسيني الحالي، وبدأت في غاراتها الجوية على مواقع الدولة في العراق وبعد ذلك في سورية، وكسرت القيادة السعودية قاعدة عسكرية وسياسية التزمت بها أكثر من خمسين عاماً، بإرسال طائراتها الحربية إلى خارج حدودها، والمشاركة في الضربات الجوية الأمريكية، واختارت أميرين طيارين لتنفيذ الطلعات الجوية الأولى أحدهما نجل ولي العهد ووزير الدفاع السعودي الأمير سلمان بن عبد العزيز.

القلق السعودي مشروع ومبرر في نظر السلطة وأنصارها وهم كثر، فـ"الدولة الاسلامية" وقيادتها لا تخفي عدائها للأسرة الحاكمة السعودية ورغبتها في إطاحة النظام، ورفع راية الخلافة فوق الحرم المكي الشريف في مكة، والسيد أبو بكر البغدادي زعيمها يصر على أن يضم اسمه نسبين على درجة كبيرة من الأهمية والغزى الأول "الحسني" (نسبة إلى آل البيت) والثاني القرشي (نسبة إلى قبيلة قريش).

وما أقلق القيادة السعودية أكثر، ما كشفه استطلاع للرأي أجري على وسائل التواصل الاجتماعي، ونشر على نطاق واسع، وأفاد بأن أكثر من 92 بالمئة من الشباب السعودي يؤيدون فكر "الدولة الاسلامية" وعقيدتها، وقد وعدت السلطات في الرياض بإجراء استطلاع رأي علمي رسمي لإثبات بطلان هذا الاستطلاع أو عدم دقته، وحتى الآن لم يصدر على حد علمنا، ولكن ما هو أهم من الاستطلاع ارتفاع عدد المقاتلين السعوديين في صفوف "الدولة الاسلامية" إلى أكثر من ثمانية آلاف مقاتل، ويوصفون بأنهم الأكثر شراسة في القتال والعمليات "الانغماسية" من بين أقرانهم.

أدبيات "الدولة الاسلامية" المتوفرة على شبكة الانترنت تؤكد أن المملكة العربية السعودية، أو أرض الجزيرة العربية والحجاز حسب مصطلحاتها، هي الهدف الثالث بعد سورية والعراق، وهذا ما يفسر دعوة العاهل السعودي لرجال الدين والدعاة في بلاده للتصدي للمنطلقات الفكرية لهذه الظاهرة، لأن الحرب عليها يجب أن تكون حرب "عقول" جنباً إلى جنب مع الحرب العسكرية، ولكن الاستجابة لهذه الدعوة من قبل العلماء والدعاة كانت محدودة، وخاصة مما يطلق عليهم "علماء الصحوة" وأصحاب ملايين المتابعين على شبكات التواصل الاجتماعي، والذي يوصفون بالدعاة "النجوم".

الغارات الجوية على مواقع "الدولة الاسلامية" المستمرة منذ أكثر من شهر، وبأحدث الطائرات المقاتلة من مختلف الأنواع، لم تعط نتائجها حتى الآن، حسب آراء خبراء غربيين، بدليل استمرار "تمددها" وسيطرة قواتها على معظم مدينة "عين العرب" الكردية على الحدود الشمالية السورية، مما يؤكد أن الحرب ستطول أكثر من التوقعات الغربية والاقليمية.

الحكومات الاقليمية، والخليجية منها بالذات، ساهمت بطريقة أو بأخرى بصعود قوة التيارات الاسلامية المتشددة عندما حرضت بعض أوساطها الدينية والدعوية الشباب السعودي على الانخراط في صفوف الجهاد، وجماعاته في كل من سورية والعراق، معتقدة أن عمقها محصن من أخطارها، ليثبت لها العكس، ولتكتشف أنها أخرجت "المارد" من قمقمه، ولم تعد قادرة على السيطرة عليه، وهنا تكمن المعضلة الكبرى.

***

لم نبالغ عندما قلنا في هذا المكان أن عدد المقاتلين تحت لواء "الدولة الاسلامية" يزيد عن مئة ألف، ولا نبالغ مرة أخرى إذا قلنا أن العدد ازداد بمقدار الثلث في البلدين، أي سورية والعراق، بسبب تدفق المتطوعين من الدول الاسلامية في العالم بأسره، ومن الجماعات والتيارات الاسلامية الأخرى التي تريد الانضمام إلى صفوفه في مواجهة "التحالف الصليبي" حسب تعبيرهم، وهذا ما دفع السلطات الأردنية إلى منع الشيخ أبو محمد المقدسي من استخدام هذا "التعبير" في فتاواه ومداخلاته على وسائل التواصل الاجتماعي بسبب مدلولاتها التحريضية ضد هذا التحالف، ودورها في تشجيع الشباب إلى الانضمام إلى صفوف الجماعات الجهادية.

"علم الخلافة" الاسلامية وصل إلى المشاعر المقدسة في مكة المكرمة وجبل عرفة يوم الوقفة، وربما يكون مجرد صدفة، أو من فعل حاج متحمس، أو عمل متعمد جرى التخطيط له بشكل جيد، وأياً كان الأمر فإن هذه الخطوة تنطوي على "رسالة" على درجة كبيرة من الأهمية والخطورة معاً.

 

  • فريق ماسة
  • 2014-10-03
  • 2741
  • من الأرشيف

علم الخلافة غلى جبل "عرفة" .. مالرسالة من ذلك ..؟

بينما كنت أتابع البث المباشر لوقفه عرفة من المشاعر المقدسة، حيث أكثر من مليوني حاج جاؤوا من مختلف أصقاع المعمورة لأداء فريضة الحج، في ملابس الاحرام البيضاء بوجوه نضرة طافحة بالسعادة والإيمان معاً، لفت نظري علم الخلافة الأسود الاسلامية يرفرف من بعيد فوق جبل الرحمة، وتتوسطه كلمات "لا اإله إلا الله محمد رسول الله" مكتوب بالابيض. لا اعرف من رفع هذا العلم، فلم تدم هذه القطة للنظر إلا بضعة ثوان، مثلما لا أعرف، وكيف أعرف، ما حدث لصاحبه، فالسلطات السعودية تمنع أي ممارسة سياسية الطابع في الأماكن المقدسة، ناهيك عن رفع علم "الدولة الاسلامية" التي تكن لها هذه السلطات كل أنواع "العداء"، وتعتبرها قمة "الإرهاب"، وتشارك طائراتها الحربية، جنباً إلى جنب مع نظيراتها الأمريكية في قصف مواقعها وتجمعاتها لإضعافها ومن ثم القضاء عليها في إطار تحالف دولي يضم خمسين بلداً. الشيخ عبد العزيز آل الشيخ مفتي المملكة العربية السعودية كان معبراً عن موقف هذه السلطات ولسان حال دول التحالف جميعاً، اسلامية أو غير اسلامية، عندما دعا في خطبة الجمعة التي ألقاها من مسجد نمرة في عرفات، قادة الدول الاسلامية إلى ضرب "الدولة الاسلامية"، دون أن يسميها، بيد من حديد، وقال مخاطباً لهم، "دينكم مستهدف.. أمنكم مستهدف.. عقيدتكم مستهدفة"، وأضاف "ابتلينا بأمه سفكوا الدماء.. وقتلوا النفوس المعصومة.. وقدموا بهذا تمثيلاً سيئاً لا يمثل إسلاماً.. هؤلاء إجراميون سفكوا الدماء ونهبوا الأموال وباعوا الحرائر لا خير فيهم". وخطبة الشيخ آل الشيخ، أعلى مرجعية دينية في المملكة، تعكس حجم القلق السعودي الرسمي من هذه "الدولة" وعقيدتها الدينية والقتالية، وامتدادها إلى العمق الشعبي المهيء جزئياً أو كلياً لكي يكون حاضنة لفكرها الذي يشكل في معظم جوانبه تجسيداً للدعوة الوهابية في نسختها الأولى قبل ثلاثة قرون، مثلما تؤكد دراسات جادة عديدة في الشرق والغرب معاً.   *** العاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز حث الدول الغربية على التدخل بسرعة لمحاربة "الدولة الاسلامية" والقضاء عليها محذراً من إنها ستصل إلى أوروبا في غضون شهر، وإلى أمريكا في غضون شهرين، ويبدو أن الولايات المتحدة لبت هذا النداء فوراً، وشكلت الحلف الخمسيني الحالي، وبدأت في غاراتها الجوية على مواقع الدولة في العراق وبعد ذلك في سورية، وكسرت القيادة السعودية قاعدة عسكرية وسياسية التزمت بها أكثر من خمسين عاماً، بإرسال طائراتها الحربية إلى خارج حدودها، والمشاركة في الضربات الجوية الأمريكية، واختارت أميرين طيارين لتنفيذ الطلعات الجوية الأولى أحدهما نجل ولي العهد ووزير الدفاع السعودي الأمير سلمان بن عبد العزيز. القلق السعودي مشروع ومبرر في نظر السلطة وأنصارها وهم كثر، فـ"الدولة الاسلامية" وقيادتها لا تخفي عدائها للأسرة الحاكمة السعودية ورغبتها في إطاحة النظام، ورفع راية الخلافة فوق الحرم المكي الشريف في مكة، والسيد أبو بكر البغدادي زعيمها يصر على أن يضم اسمه نسبين على درجة كبيرة من الأهمية والغزى الأول "الحسني" (نسبة إلى آل البيت) والثاني القرشي (نسبة إلى قبيلة قريش). وما أقلق القيادة السعودية أكثر، ما كشفه استطلاع للرأي أجري على وسائل التواصل الاجتماعي، ونشر على نطاق واسع، وأفاد بأن أكثر من 92 بالمئة من الشباب السعودي يؤيدون فكر "الدولة الاسلامية" وعقيدتها، وقد وعدت السلطات في الرياض بإجراء استطلاع رأي علمي رسمي لإثبات بطلان هذا الاستطلاع أو عدم دقته، وحتى الآن لم يصدر على حد علمنا، ولكن ما هو أهم من الاستطلاع ارتفاع عدد المقاتلين السعوديين في صفوف "الدولة الاسلامية" إلى أكثر من ثمانية آلاف مقاتل، ويوصفون بأنهم الأكثر شراسة في القتال والعمليات "الانغماسية" من بين أقرانهم. أدبيات "الدولة الاسلامية" المتوفرة على شبكة الانترنت تؤكد أن المملكة العربية السعودية، أو أرض الجزيرة العربية والحجاز حسب مصطلحاتها، هي الهدف الثالث بعد سورية والعراق، وهذا ما يفسر دعوة العاهل السعودي لرجال الدين والدعاة في بلاده للتصدي للمنطلقات الفكرية لهذه الظاهرة، لأن الحرب عليها يجب أن تكون حرب "عقول" جنباً إلى جنب مع الحرب العسكرية، ولكن الاستجابة لهذه الدعوة من قبل العلماء والدعاة كانت محدودة، وخاصة مما يطلق عليهم "علماء الصحوة" وأصحاب ملايين المتابعين على شبكات التواصل الاجتماعي، والذي يوصفون بالدعاة "النجوم". الغارات الجوية على مواقع "الدولة الاسلامية" المستمرة منذ أكثر من شهر، وبأحدث الطائرات المقاتلة من مختلف الأنواع، لم تعط نتائجها حتى الآن، حسب آراء خبراء غربيين، بدليل استمرار "تمددها" وسيطرة قواتها على معظم مدينة "عين العرب" الكردية على الحدود الشمالية السورية، مما يؤكد أن الحرب ستطول أكثر من التوقعات الغربية والاقليمية. الحكومات الاقليمية، والخليجية منها بالذات، ساهمت بطريقة أو بأخرى بصعود قوة التيارات الاسلامية المتشددة عندما حرضت بعض أوساطها الدينية والدعوية الشباب السعودي على الانخراط في صفوف الجهاد، وجماعاته في كل من سورية والعراق، معتقدة أن عمقها محصن من أخطارها، ليثبت لها العكس، ولتكتشف أنها أخرجت "المارد" من قمقمه، ولم تعد قادرة على السيطرة عليه، وهنا تكمن المعضلة الكبرى. *** لم نبالغ عندما قلنا في هذا المكان أن عدد المقاتلين تحت لواء "الدولة الاسلامية" يزيد عن مئة ألف، ولا نبالغ مرة أخرى إذا قلنا أن العدد ازداد بمقدار الثلث في البلدين، أي سورية والعراق، بسبب تدفق المتطوعين من الدول الاسلامية في العالم بأسره، ومن الجماعات والتيارات الاسلامية الأخرى التي تريد الانضمام إلى صفوفه في مواجهة "التحالف الصليبي" حسب تعبيرهم، وهذا ما دفع السلطات الأردنية إلى منع الشيخ أبو محمد المقدسي من استخدام هذا "التعبير" في فتاواه ومداخلاته على وسائل التواصل الاجتماعي بسبب مدلولاتها التحريضية ضد هذا التحالف، ودورها في تشجيع الشباب إلى الانضمام إلى صفوف الجماعات الجهادية. "علم الخلافة" الاسلامية وصل إلى المشاعر المقدسة في مكة المكرمة وجبل عرفة يوم الوقفة، وربما يكون مجرد صدفة، أو من فعل حاج متحمس، أو عمل متعمد جرى التخطيط له بشكل جيد، وأياً كان الأمر فإن هذه الخطوة تنطوي على "رسالة" على درجة كبيرة من الأهمية والخطورة معاً.  

المصدر : رأي اليوم / عبد الباري عطوان


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة