دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
بعد لعبة شدّ حبال استغرقت أسابيع عدة، تراجعت أنقرة عن موقفها السابق وقررت المشاركة في «التحالف الدولي» ضد تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» - «داعش».
وبرغم أن القرار التركي كان متوقعاً، إلا ان التداعيات التي يمكن أن تترتب عليه مفتوحة على كثير من الاحتمالات التي لا يمكن توقع مآلاتها، خصوصاً أن العلاقة بين أنقرة من جهة وبين «داعش» من جهة ثانية شديدة التعقيد والتشابك، وكل طرف يملك أوراق قوة في مواجهة الطرف الثاني، الأمر الذي ينذر بمواجهة شرسة في حال ذهبت العلاقة بينهما إلى الانفجار، وهو ما يعتبر القرار التركي صاعق حدوثه.
وهددت تركيا على لسان رئيس وزرائها أحمد داود أوغلو بأنها لن تسمح بسقوط عين العرب بيد تنظيم «داعش» وأنها «ستعمل كل ما يلزم لمنع ذلك». كما شدد وزير الخارجية مولود جاويش أوغلو على أن «داعش سيدفع ثمن اختطافه الديبلوماسيين الأتراك» الذين أفرج عنهم في وقت سابق من الشهر الماضي. أما رئيس هيئة الأركان نجدت أوزال فقد وعد حراس ضريح سليمان شاه بأن القوات المسلحة التركية «ستكون إلى جانبهم فوراً بمجرد سماع خبر عنهم». وتأتي هذه التهديدات، التي يسمع قرع طبول الحرب منها، لتطوي صفحة «المرونة» التركية في العلاقة مع التنظيم المتشدد وفتح صفحة جديدة عنوانها «إعلان الحرب».
وكانت السلطات التركية، طوال الأعوام الثلاثة الماضية، تمارس سياسة الدعم والتسليح عبر غض الطرف عن نشاط المقاتلين الأجانب على حدودها والسماح لهم بالدخول والخروج من دون أي قيود أو اعتراضات، بالإضافة إلى تحويل المعابر الحدودية إلى مستودعات أسلحة ضخمة مثل معبر باب الهوى الذي كانت تصل اليه شحنات الأسلحة من ليبيا وأوكرانيا عبر الأراضي التركية.
وكان تنظيم «الدولة الإسلامية» يستفيد من هذه الإجراءات التركية من دون أن يكون مقصوداً بذاته للاستفادة منها، حيث عمل في ظل التهاون الحكومي التركي، على تشكيل شبكات واسعة لتجنيد المقاتلين وتأمين عبورهم الحدود إلى مناطق سيطرته في سوريا، كما عقد اتفاقات شراكة مع عدد من عصابات المافيا التركية المتخصصة بالتهريب سواء السلاح أو النفط أو آليات المصانع التي استولى عليها، وإذا كانت أجهزة الاستخبارات التركية تراقب قسماً من هذه الأنشطة فلا شك في أن قسماً آخر كان يجري بعيداً عن أنظارها، لكنها في الحالين لم تكن تمانع مثل هذه الأنشطة ما دامت تصب في خانة إسقاط النظام السوري ولا تسبب أي ضرر مباشر لأمنها ومصالحها، خصوصاً أن تنظيم «داعش» لم يظهر للعيان إلا في نيسان 2013 حيث كان حتى ذلك التاريخ يقاتل تحت اسم «جبهة النصرة» التي كانت تعتبر من قبل طيف واسع من المعارضة السورية وبعض الدول الداعمة لها جزءاً مما كانوا يسمونه «الحراك الثوري»، لذلك لا يمكن لأحد تقدير حجم الدعم والمساعدات التي تلقاها «داعش» تحت ذلك المسمى.
والجدير بالذكر هنا أن السيطرة على معبر باب الهوى، وهو أول معبر يسقط بأيدي المسلحين، في الشهر التاسع من العام 2012 جرت من قبل فصيل ثبت أنه تابع لـ«الدولة الإسلامية» وكان يدعى «مجلس شورى المجاهدين» بقيادة محمد العبسي شقيق أبي أثير العبسي الذي شغل في ما بعد منصب والي «داعش على حلب».
لكن الأمور اختلفت بعد الظهور العلني لتنظيم «الدولة الإسلامية» ورفض زعيم «جبهة النصرة» أبو محمد الجولاني الاندماج معه في كيان واحد، وتراوحت العلاقة بين تقاطع المصالح وبين التوتر والعداء، حيث بدا جلياً أن السلطات التركية وإن لم تتخذ أي إجراءات لمنع «داعش» من الاستفادة من الدعم والمساعدات وشحنات الأسلحة، إلا انها أعطت إشارات واضحة تدل على حذرها منه وعدم ثقتها به، ومثال ذلك رفضها فتح معبر تل الأبيض الحدودي بسبب سيطرة الأخير عليه، واشترطت أن يكون المعبر تحت إدارة «حركة أحرار الشام» برغم أن السيطرة على مدينة تل ابيض كانت بيده.
وأثناء أحداث مدينة أعزاز بين «داعش» و«لواء عاصفة الشمال» في أيلول العام الماضي، قامت المدفعية التركية بقصف مواقع لـ«داعش» بعد سقوط قذائف في أرضها اتهمت التنظيم المتشدد بإطلاقها، وفي الشهر الأول من هذا العام قامت طائرات تركية بقصف رتل لـ«داعش» كان متوجهاً إلى بلدة الراعي الحدودية ودمرت عدة آليات منه.
وكان متوقعاً أن يتصاعد التوتر بين الطرفين بعد سيطرة «داعش» على محافظة الرقة وأرياف دير الزور ومدن جرابلس ومنبج والباب في ريف حلب، إلا ان ما جرى هو العكس تماماً.
فقد فتحت تركيا معبر جرابلس الحدودي الذي يديره مقاتلون من «داعش»، وعقدت صفقة مع قيادة التنظيم المتشدد تتيح لها تبديل حرس ضريح سليمان شاه بشكل دوري، بل نُشرت صور للحرس التركي وهو يتنقل بحماية عناصر من «داعش»، فضلاً عن أن تجارة النفط لم تتوقف وسارت كسابق عهدها مع «أحرار الشام» و«جبهة النصرة». وحتى بعد اختطاف الديبلوماسيين الأتراك عقب سيطرة «داعش» على مدينة الموصل واقتحام القنصلية التركية، لم يظهر ما يشير إلى توتر العلاقة بين الطرفين، وتعاملت تركيا مع ملف اختطاف ديبلوماسييها بأعصاب باردة ريثما جرى إطلاق سراحهم في صفقة غامضة لم تكشف أسرارها بعد.
وجاء إطلاق سراح الديبلوماسيين الأتراك مع بداية الحديث عن تشكيل تحالف دولي لمحاربة «داعش»، وكانت تركيا ترفض الانضمام إلى هذا التحالف بذريعة ما يشكله ذلك من خطر على مختطفيها، ليحدث انقلاب تام في مواقف أنقرة بعد إطلاق سراح الديبلوماسيين، حيث قررت الانضمام إلى «التحالف»، بل زايدت عليه بانتقادها القصف الجوي ومطالبتها بالتدخل البري وإقامة منطقة عازلة.
وفي حال كانت أنقرة جادة في محاربة «داعش» ومنعه من السيطرة على عين العرب، وهو ما ترجحه الوقائع حتى الآن، فإن ذلك يعني أن المنطقة مقبلة على حرب ضروس لا يعرف أحد كيف يمكن أن تنتهي، خصوصا أن تركيا تملك ترسانة قوية من الأسلحة الحديثة يمكنها إحداث دمار هائل في بنية «داعش» العسكرية وغير العسكرية، إضافة إلى أن بين يديها معلومات استخبارية لا يستهان بها عن قيادات «داعش» وعدد من أمرائه البارزين تستطيع استخدامها لتنفيذ عمليات اغتيال، بالإضافة إلى قدرتها على تضييق الخناق على «داعش» بعدة طرق وأساليب منها إغلاق المعابر الحدودية وما يمثله ذلك من منع إدخال الكثير من المواد اللازمة لاستمرار المعيشة في مناطق سيطرته، فضلاً عن تقليل أعداد المقاتلين الأجانب عبر اعتقال من يقع بين يديها منهم، وكذلك قطع مياه نهر الفرات أو تخفيض منسوبها وتأثير ذلك في توليد الكهرباء وري المزروعات، وكذلك منع الاتجار معه أو بالمختصر تنفيذ قراري مجلس الأمن 2170 و2178 بما يتعلق مع «داعش» فقط.
ولكن ذلك لا يعني أن «داعش» لا يملك أوراقاً من شأنها إيلام السلطات التركية. فهناك حوالي ثلاثين جندياً تركياً يقومون بحراسة ضريح سليمان شاه في ريف مدينة منبج التي يسيطر عليها وبالتالي سيكون اختطافهم أمراً سهلاً بالنسبة إليه، فهل يمكن أن تضحي تركيا بجنودها مع أول طلقة تطلقها باتجاه التنظيم المتشدد؟
كذلك هددت قيادات من «داعش» بضرب الاستقرار في تركيا عبر تنفيذ عمليات انتحارية، مشددة على أن ذلك من شأنه إنهاء موسم السياحة في تركيا الذي يدر عليها أكثر من 30 مليار دولار. وما زال «داعش» يملك شبكة علاقات واسعة داخل تركيا سواء مع الخلايا النائمة التابعة له أو مع عصابات المافيا التي يتعامل معها، الأمر الذي قد يمكنه من توجيه ضربات مؤلمة ضد الداخل التركي، خصوصاً في ضوء وجود حوالي ألف مقاتل تركي في صفوفه.
يضاف إلى كل ذلك أن قوة «داعش» التي تهاجم مدينة عين العرب تتألف قوتها الضاربة من حوالي 400 كردي، فهل ستكون تركيا مستعدة لأن يكون إلى جوارها «أكراد داعشيون»، وهي التي عانت الويلات بسبب «الكردستانيين»؟ وماذا عن الدبابات والمدفعية التي يصل مداها إلى العديد من المناطق المسكونة داخل تركيا والتي تتمركز على مسافة قريبة من الحدود سواء في ريف حلب أو ريف الحسكة أو ريف الرقة؟.
هذا ولم يجر التطرق إلى «حزب العمال الكردستاني» وموقفه من تركيا في حال سقوط مدينة عين العرب بين يدي «داعش»، لا سيما أن زعيمه عبد الله أوجلان هدد بإنهاء عملية السلام، وبالتالي عودة حالة الحرب، فهل ستكون تركيا مستعدة للمحاربة على جبهتين؟ وإذا فعلت فماذا سيكون المآل بالنسبة إليها؟
المصدر :
السفير /عبد الله سليمان علي
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة