هل تصدّقون أن السعودية التي تنهمر ملياراتها، هنا وهناك، وبلا حساب، لتحقيق أهداف التحالف الأميركي ــــ السعودي، لا تزال تمتنع عن تمويل الخزينة الأردنية؟ ولا متليك!

ليس هذا بخلاً بالطبع، بل هو تعبير عن نهج سياسي غامض تتبعه واشنطن والرياض حيال دولة «حليفة»؛ هل تريدان إخضاعها بالكامل لخططهما الخاصة بالمعارضة السورية وإسرائيل، أم دفعها إلى الحافّة أم إلى الهامش الأخير، أم حتى إسقاطها؟

اقتربت المديونية الأردنية، أثناء كتابة هذه السطور، من 27 مليار دولار؛ قد يكون المبلغ غداً أضخم وأضخم. المملكة تمارس الاقتراض بلا توقّف للإيفاء بالتزاماتها، والقروض متاحة سواء من البنوك المحلية أو بسندات الدين الدولية المدعومة أميركياً. تبدو هذه الغواية، في نظر المسؤولين الأردنيين، الحل السهل للأزمة المالية المتفاقمة والجمود الاقتصادي معاً. هناك، بالطبع، في مكان ما من النقاش الداخلي في غرف القرار، محرك لشراهة الاقتراض يكمن في الأمل في مساعدات سخية تغطي المأزق المالي. لكن الأيام تمرّ، والآمال تتبخّر، والورطة تكبر.

تحت الطاولة، هناك عرض سعودي مستمر لشراء غزوة عبر الحدود الأردنية ــــ السورية، بل قل حرباً بين البلدين الشقيقين. عرضٌ رفضته عمّان دائماً. الآن، يقترح الرئيس الأميركي، باراك أوباما، نصف مليار دولار لتدريب مقاتلين سوريين «معتدلين» على نطاق واسع في الأردن؛ ستأخذ عمّان حصتها الهزيلة لقاء تحويل البلاد إلى ثكنة تعجّ بالمسلحين من سورية والمدربين من أميركا؛ الملك عبد الله الثاني أبدى لنائب الرئيس الأميركي، جون بايدن، تحفّظه عن الخطة. وفي عمّان، نقلت وكالات الأنباء عن مسؤولين مجهولي الهوية، مواقف متباينة. أحدهم صرّح: «لم نعتذر بعد»، وثانٍ أبدى تخوّفه من «رد سوري عنيف»؛ فما كان يحدث من تدريب المئات من المسلحين على أيدي مئات من الجنود الأميركيين، سراً وبحذر، شيءٌ، والتورّط في خطة واسعة النطاق لتدريب آلاف المسلحين السوريين مع وجود عسكري أميركي كثيف، شيءٌ آخر. يعني ذلك الانزلاق نحو الحرب والفوضى، وخصوصاً أن الكثيرين من المسلحين الذين تأكدت تحقيقات السي آي إيه من «اعتدالهم»، ودرّبتهم في الأردن، التحقوا، حالما حلوا في سورية من طريق إسطنبول، بصفوف «داعش».

«داعش» ــــ «الدولة الإسلامية» ــــ «الخلافة»، لها أرضية اجتماعية ــــ سياسية ملائمة في الأردن، ولها تنظيم ومؤيدون علنيون وسريون؛ ومن هؤلاء، عدا الإخوان المسلمين والبعثيين العراقيين، معارضون وطنيون علمانيون يئسوا من كسر الجدار الصلب لمؤسسة الفساد والسياسات النيوليبرالية والمتأسرلة؛ أصبحوا يفكرون كالآتي: فلننسحب، وندع الدواعش يسقطون أو يهزّون نظاماً رفض كل العروض للتسويات الوطنية الاجتماعية، بينما يتعاطى، في السياسة، مع الليبراليين اللاوطنيين، وفي الترتيبات الأمنية، مع إرهابيين («القاعدة» و«النصرة») ضد إرهابيين («داعش»).

تسيطر «داعش» اليوم على مناطق أكبر من الأردن مساحة، وتتمتع، بخلاف هذا البلد الفقير، بثروات النفط والمياه والزراعة، بل وتملك فائضاً مالياً لا تحلم به المملكة، ثم إنها قادرة على التنظيم والحشد الداخلي، والتحرك، وما ينقصها هو بطاقة خضراء أميركية ــــ إسرائيلية ــــ سعودية؛ ومع ذلك يتبجّح وزير الخارجية، ناصر جودة، بأن خطر «داعش» يمكن السيطرة عليه ببضع آليات مسلحة!

يستند ذلك التبجح إلى حرير ينام عليه العقل الأمني الأردني يكمن في ما بناه من اختراقات في المجموعات الإرهابية، من دون الالتفات إلى أن صيرورة الظواهر الاجتماعية السياسية، لا يعرقلها اختراق مخابراتي، ولا يمنعها التدخل الأمني.

خطأ العمر ارتكبته عمّان في العراق، حين قدمت الدعم لبعثيي عزة الدوري والعشائر والفصائل الإسلامية «المعتدلة» ضد حكومة نوري المالكي؛ كانت لديها طمأنات وتقديرات زائفة بهامشيّة الدواعش إزاء كل هؤلاء المعتدلين؛ ما حدث أن جند الخليفة أبو بكر البغدادي هم الذين سيطروا على الموقف، بل إن أفضل ما حصل عليه «الرفيق المجاهد عزة الدوري»، هو السماح له بإعلان البيعة للدولة الإسلامية، لا للخليفة شخصياً، وبخطابٍ مسجل على الطريقة الصدامية، لكنه يضع «الدولة» في مقامها القيادي، ويمتدح إعلانها «العفو العام» ــــ القائم على الاختيار بين التوبة والذبح ــــ وهو ما تمّ تطبيقه على ضباط بعثيين وقيادات قبلية فعلاً.

خسرت عمان، بمغامرتها العراقية الفاشلة، بغداد والمشاريع الكبرى مع المالكي، ولم تربح المناطق السنية التي تحولت مصدراً للتهديد السياسي والأمني، أما التحالف مع كردستان، فليس له مستقبل، ما دامت أربيل تحوّلت إلى مساحة نفوذ مشتركة بين تركيا المعادية للأردن وإسرائيل التي تريد فرض حمايتها على البلد، وإخضاعه لبرنامج الوطن البديل.

فشل مغامرة العراق، يدعو عمّان إلى النفور من خطة باراك أوباما لتدريب المسلحين السوريين، وتحشيدهم لغزوة ستنقلب حرباً ثنائية، مع الجيش السوري من جهة، و«المعتدلين» المتحوّلين حتماً إلى دواعش، من جهة أخرى.

المشهد الأردني، باختصار، يتلخّص في الآتي: أزمة مالية بنيوية، وجمود اقتصادي عميق، واختناقات اجتماعية ــــ سياسية متعاظمة، وانشقاق جذري في الهوية الوطنية، ونموّ سريع للظاهرة الجهادية، ومخاطر جدية محتملة من الحدود الشرقية والشمالية، ونخبة سياسية مشلولة، وطبقة حاكمة ترفض تقديم أي تنازلات داخلية لقيام تحالف وطني اجتماعي يواجه التحديات واستحقاقاتها.

المشهد مغرٍ لإسرائيل، لكي تنقضّ على البلاد تحت لافتة «الدعم» و«الحماية» وإخضاع «الضفتين» لبرنامجها في تصفية القضية الفلسطينية، بينما تضرب غزة حتى الدمار أو تفرض عليها وعلى مصر السيسي، العودة إلى تفاهمات حسني مبارك ــــ محمد مرسي.

البديل الأردني الجدي الوحيد الممكن الآن يكمن في تفاهمين استراتيجيين: داخلي مع الحركة الوطنية والمحافظات والعشائر، وخارجي مع سوريا. موضوعياً، يستطيع الملك عبد الله الثاني أن يخرج من شبكة الحلفاء ــــ الأعداء، نحو هذين التفاهمين.

المسافة بين المفرق ودمشق تكفيها مروحية، يمكن أن تكون حاضرة لتنطلق بالملك من لقاء وطني في مضارب البادية الأردنية إلى لقاء حان وقته مع الرئيس بشار الأسد في العاصمة السورية؛ أليس هذا، بالضبط، ما فعله الملك حسين مع الرئيس حافظ الأسد، مرتين: في السبعينيات لمواجهة استحقاقات مع بعد أيلول 1970، وفي أواسط الثمانينيات للخروج من مأزق مشروع «الكونفدرالية»؟

كان الملك حسين، حليف الولايات المتحدة، يستدرك لحظة الهاوية الأميركية، بالذهاب نحو دمشق. وكان الرئيس حافظ الأسد، دائماً، مفتوح القلب والذراعين للأردن والأردنيين.

  • فريق ماسة
  • 2014-07-12
  • 7640
  • من الأرشيف

ملك الأردن إلى دمشق؛ هل هناك بديل؟

هل تصدّقون أن السعودية التي تنهمر ملياراتها، هنا وهناك، وبلا حساب، لتحقيق أهداف التحالف الأميركي ــــ السعودي، لا تزال تمتنع عن تمويل الخزينة الأردنية؟ ولا متليك! ليس هذا بخلاً بالطبع، بل هو تعبير عن نهج سياسي غامض تتبعه واشنطن والرياض حيال دولة «حليفة»؛ هل تريدان إخضاعها بالكامل لخططهما الخاصة بالمعارضة السورية وإسرائيل، أم دفعها إلى الحافّة أم إلى الهامش الأخير، أم حتى إسقاطها؟ اقتربت المديونية الأردنية، أثناء كتابة هذه السطور، من 27 مليار دولار؛ قد يكون المبلغ غداً أضخم وأضخم. المملكة تمارس الاقتراض بلا توقّف للإيفاء بالتزاماتها، والقروض متاحة سواء من البنوك المحلية أو بسندات الدين الدولية المدعومة أميركياً. تبدو هذه الغواية، في نظر المسؤولين الأردنيين، الحل السهل للأزمة المالية المتفاقمة والجمود الاقتصادي معاً. هناك، بالطبع، في مكان ما من النقاش الداخلي في غرف القرار، محرك لشراهة الاقتراض يكمن في الأمل في مساعدات سخية تغطي المأزق المالي. لكن الأيام تمرّ، والآمال تتبخّر، والورطة تكبر. تحت الطاولة، هناك عرض سعودي مستمر لشراء غزوة عبر الحدود الأردنية ــــ السورية، بل قل حرباً بين البلدين الشقيقين. عرضٌ رفضته عمّان دائماً. الآن، يقترح الرئيس الأميركي، باراك أوباما، نصف مليار دولار لتدريب مقاتلين سوريين «معتدلين» على نطاق واسع في الأردن؛ ستأخذ عمّان حصتها الهزيلة لقاء تحويل البلاد إلى ثكنة تعجّ بالمسلحين من سورية والمدربين من أميركا؛ الملك عبد الله الثاني أبدى لنائب الرئيس الأميركي، جون بايدن، تحفّظه عن الخطة. وفي عمّان، نقلت وكالات الأنباء عن مسؤولين مجهولي الهوية، مواقف متباينة. أحدهم صرّح: «لم نعتذر بعد»، وثانٍ أبدى تخوّفه من «رد سوري عنيف»؛ فما كان يحدث من تدريب المئات من المسلحين على أيدي مئات من الجنود الأميركيين، سراً وبحذر، شيءٌ، والتورّط في خطة واسعة النطاق لتدريب آلاف المسلحين السوريين مع وجود عسكري أميركي كثيف، شيءٌ آخر. يعني ذلك الانزلاق نحو الحرب والفوضى، وخصوصاً أن الكثيرين من المسلحين الذين تأكدت تحقيقات السي آي إيه من «اعتدالهم»، ودرّبتهم في الأردن، التحقوا، حالما حلوا في سورية من طريق إسطنبول، بصفوف «داعش». «داعش» ــــ «الدولة الإسلامية» ــــ «الخلافة»، لها أرضية اجتماعية ــــ سياسية ملائمة في الأردن، ولها تنظيم ومؤيدون علنيون وسريون؛ ومن هؤلاء، عدا الإخوان المسلمين والبعثيين العراقيين، معارضون وطنيون علمانيون يئسوا من كسر الجدار الصلب لمؤسسة الفساد والسياسات النيوليبرالية والمتأسرلة؛ أصبحوا يفكرون كالآتي: فلننسحب، وندع الدواعش يسقطون أو يهزّون نظاماً رفض كل العروض للتسويات الوطنية الاجتماعية، بينما يتعاطى، في السياسة، مع الليبراليين اللاوطنيين، وفي الترتيبات الأمنية، مع إرهابيين («القاعدة» و«النصرة») ضد إرهابيين («داعش»). تسيطر «داعش» اليوم على مناطق أكبر من الأردن مساحة، وتتمتع، بخلاف هذا البلد الفقير، بثروات النفط والمياه والزراعة، بل وتملك فائضاً مالياً لا تحلم به المملكة، ثم إنها قادرة على التنظيم والحشد الداخلي، والتحرك، وما ينقصها هو بطاقة خضراء أميركية ــــ إسرائيلية ــــ سعودية؛ ومع ذلك يتبجّح وزير الخارجية، ناصر جودة، بأن خطر «داعش» يمكن السيطرة عليه ببضع آليات مسلحة! يستند ذلك التبجح إلى حرير ينام عليه العقل الأمني الأردني يكمن في ما بناه من اختراقات في المجموعات الإرهابية، من دون الالتفات إلى أن صيرورة الظواهر الاجتماعية السياسية، لا يعرقلها اختراق مخابراتي، ولا يمنعها التدخل الأمني. خطأ العمر ارتكبته عمّان في العراق، حين قدمت الدعم لبعثيي عزة الدوري والعشائر والفصائل الإسلامية «المعتدلة» ضد حكومة نوري المالكي؛ كانت لديها طمأنات وتقديرات زائفة بهامشيّة الدواعش إزاء كل هؤلاء المعتدلين؛ ما حدث أن جند الخليفة أبو بكر البغدادي هم الذين سيطروا على الموقف، بل إن أفضل ما حصل عليه «الرفيق المجاهد عزة الدوري»، هو السماح له بإعلان البيعة للدولة الإسلامية، لا للخليفة شخصياً، وبخطابٍ مسجل على الطريقة الصدامية، لكنه يضع «الدولة» في مقامها القيادي، ويمتدح إعلانها «العفو العام» ــــ القائم على الاختيار بين التوبة والذبح ــــ وهو ما تمّ تطبيقه على ضباط بعثيين وقيادات قبلية فعلاً. خسرت عمان، بمغامرتها العراقية الفاشلة، بغداد والمشاريع الكبرى مع المالكي، ولم تربح المناطق السنية التي تحولت مصدراً للتهديد السياسي والأمني، أما التحالف مع كردستان، فليس له مستقبل، ما دامت أربيل تحوّلت إلى مساحة نفوذ مشتركة بين تركيا المعادية للأردن وإسرائيل التي تريد فرض حمايتها على البلد، وإخضاعه لبرنامج الوطن البديل. فشل مغامرة العراق، يدعو عمّان إلى النفور من خطة باراك أوباما لتدريب المسلحين السوريين، وتحشيدهم لغزوة ستنقلب حرباً ثنائية، مع الجيش السوري من جهة، و«المعتدلين» المتحوّلين حتماً إلى دواعش، من جهة أخرى. المشهد الأردني، باختصار، يتلخّص في الآتي: أزمة مالية بنيوية، وجمود اقتصادي عميق، واختناقات اجتماعية ــــ سياسية متعاظمة، وانشقاق جذري في الهوية الوطنية، ونموّ سريع للظاهرة الجهادية، ومخاطر جدية محتملة من الحدود الشرقية والشمالية، ونخبة سياسية مشلولة، وطبقة حاكمة ترفض تقديم أي تنازلات داخلية لقيام تحالف وطني اجتماعي يواجه التحديات واستحقاقاتها. المشهد مغرٍ لإسرائيل، لكي تنقضّ على البلاد تحت لافتة «الدعم» و«الحماية» وإخضاع «الضفتين» لبرنامجها في تصفية القضية الفلسطينية، بينما تضرب غزة حتى الدمار أو تفرض عليها وعلى مصر السيسي، العودة إلى تفاهمات حسني مبارك ــــ محمد مرسي. البديل الأردني الجدي الوحيد الممكن الآن يكمن في تفاهمين استراتيجيين: داخلي مع الحركة الوطنية والمحافظات والعشائر، وخارجي مع سوريا. موضوعياً، يستطيع الملك عبد الله الثاني أن يخرج من شبكة الحلفاء ــــ الأعداء، نحو هذين التفاهمين. المسافة بين المفرق ودمشق تكفيها مروحية، يمكن أن تكون حاضرة لتنطلق بالملك من لقاء وطني في مضارب البادية الأردنية إلى لقاء حان وقته مع الرئيس بشار الأسد في العاصمة السورية؛ أليس هذا، بالضبط، ما فعله الملك حسين مع الرئيس حافظ الأسد، مرتين: في السبعينيات لمواجهة استحقاقات مع بعد أيلول 1970، وفي أواسط الثمانينيات للخروج من مأزق مشروع «الكونفدرالية»؟ كان الملك حسين، حليف الولايات المتحدة، يستدرك لحظة الهاوية الأميركية، بالذهاب نحو دمشق. وكان الرئيس حافظ الأسد، دائماً، مفتوح القلب والذراعين للأردن والأردنيين.

المصدر : الأخبار/ ناهض حتر


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة