دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
لو أراد الرئيس بشار الأسد أن يضع في خطاب القسم الرئاسي، قريباً، الأسباب الغربية للحرب في سورية وعليها، لما وجد أفضل من الكتاب الفرنسي الجديد الحامل عنوان «سورية، لماذا أخطأ الغرب؟». إذ إن فيه من التفاصيل والتحليل ما يكشف جزءاً من دهاليز مؤامرة ممتدة من أوروبا إلى بعض الخليج ووسائل إعلام غربية وعربية، وفيه اقتناع الكاتب بأن ما حصل هو نتيجة «كوكتيل من الجهل التاريخي، والمانوية (ديانة الصراع بين الخير والشر) السياسية، والرغبات الدبلوماسية التي يراد لها أن تكون حقائق». وفيه، ثالثاً، تأكيد قاطع بأن «الغرب وعلى رأسه أميركا خضع لفكرة بقاء الأسد على رأس السلطة في سوريا».
مؤلف الكتاب هو فريديريك بيشون، باحث مستعرب متخصص بشؤون الشرق الأوسط. عرف سورية بتفاصيلها مذ وضع عنها أطروحة دكتوراه. وهو أيضاً مؤلف كتاب قيِّم آخر بعنوان «جيوبوليتيك الشرق الأوسط وشمال أفريقيا». جرأته في هذا المؤلَّف لافتة.
أين أخطأ الغرب؟
ــــ أولاً (وهذه وفق مقدمة الكتاب بقلم رونو جيرار المعلق السياسي في صحيفة «لوفيغارو» اليمينية)، لأن الغرب اعتقد بأن بشار الأسد لن يصمد طويلاً بعد سقوط رؤساء كثيرين؛ من صدام حسين إلى سلوبودان ميلوزيفيتش وحسني مبارك وزين العابدين بن علي ومعمر القذافي وغيرهم. لم يتوقعوا أن ينجح الأسد في لعب ورقة جيوسياسية مهمة. فهو ترك الوهابية السنية تنكشف، وحرّك حلفاءه الروس والإيرانيين وحزب الله، ثم انتقل إلى مرحلة الهجوم المعاكس.
ــــ ثانياً (وهنا يبدأ الكاتب بيشون بالتفصيل)، لأن الغرب قرر التعامي عن حقيقة ما يحصل. فمثلاً، «في حماه، قُطّعت جثث رجال شرطة ورُميت في النهر. في جسر الشغور، قَتل رجال مدجّجون بالسلاح أكثر من 100 عسكري. لكن أحداً لم يتحدث عن الأمر». لا بل إن قصة أطفال درعا لم تنكشف حقائقها حتى اليوم. المعروف فقط أن هذه المدينة ذات الثقل التجاري السني، والتي تضم عشائر حدودية معادية للسلطة، شكلت تاريخياً رأس جسر للإخوان المسلمين. وفيها، كما في القصير، كانت قد أُنشئت أولى شبكات تهريب السلاح بكميات كبيرة منذ بداية الأزمة.
ــــ ثالثاً، لأن الاقتناع الخاطئ بأن الأسد سيسقط قريباً جعل دولاً كفرنسا تلجأ الى الاعتماد على بعض دول الخليج مثل السعودية وقطر، قبل أن تكتشف أن هذا الخيار كان كارثياً.
ــــ رابعاً، لأن الغرب لم يفهم أن العلويين هم تاريخياً أقرب الى المسيحيين. لا بل ثمة من اعتبر ــــ وبين هؤلاء مثلاً المؤرخ اليسوعي المتخصص في شؤون الإسلام هنري لامان ــــ عام 1930، أنهم مسيحيون. وفي الواقع فهم يشاركون المسيحيين كل أعيادهم والكثير من طقوسهم، وحافظت سورية على طبيعة نظام علماني بامتياز وعلى أقلياتها.
ــــ خامساً، خلافاً للنظرة التبسيطية الغربية الشوفينية للصراع في سورية، فإن الانتفاضة التي قامت في آذار 2011 لم تكن عفوية ولا فقط سياسية، وإنما هي نتيجة لكارثة العولمة والانفتاح الاقتصادي والانحرافات المافيوية لبعض المقربين من النظام. هذه خلقت طبقة فقيرة من أبناء الأرياف. اللافت هنا أن أكثر الذين أفادوا من ذلك هي البورجوازية السنية في المدن الكبرى، بينما جرى التركيز عمداً على بعض المقربين من النظام كرامي مخلوف.
ــــ سادساً، كان خطأ النظام في سورية أنه سمح، منذ سنوات، لجمعيات دينية قريبة من دول الخليج بالعمل في الشأن الاجتماعي ومساعدة الناس. أدى ذلك إلى انتشار المدارس القرآنية، بما فيها السلفية، وكثرت المساجد التي كان فيها أول من خطب ضد السلطة منذ عام 2011.
هنا يشير المؤلف إلى مسألة مهمة ودقيقة. يذكر خطر المنظمات غير الحكومية على دول مثل سورية. يشرح كيف أنها مرتبطة أساساً ببرامج أميركية رصدت لها ملايين الدولارات. يقول إنه «من أصل 193 دولة في العالم، فإن أكثر من 130 دولة ليس فيها منظمات كهذه، بينما نجد أن أبرزها وأكثرها فعالية تقوم في دول أنغلوساكسونية أو مدعومة منها». يشير، عرضاً، الى الباحثة السورية بسمة قضماني التي دخلت فجأة الى المجلس الوطني السوري، ثم استقالت لاحقاً منه. يؤكد أنها كانت مرتبطة بمجلس العلاقات الخارجية الأميركي. كما يذكر أسماء أخرى غيرها.
ــــ سابعاً، التضليل الإعلامي. يشرح الكاتب بإسهاب كيف أن وسائل الإعلام الغربية كانت تستند الى معلومات غير صحيحة من الفضائيات العربية، وفي مقدمها «الجزيرة»، أو الى المرصد السوري لحقوق الإنسان في لندن والذي يقول إنه تابع للإخوان المسلمين. ويقدم المؤلف عشرات الأمثلة عن معلومات كانت تُغيَّب عمداً لأنها تصب في مصلحة النظام، ويتم التركيز على غيرها. هكذا حصل في التعتيم على استخدام المعارضة الغازات السامة، رغم اعتراف الأمم المتحدة بذلك. وكذلك الأمر مع تقرير «هيومن رايتس ووتش» في آذار 2012 حين اتُّهم مسلحو المعارضة بخرق حقوق الإنسان والخطف والتعذيب. والأمر نفسه بعد قتل الشيخ العلوي بدر غزال أو حين خُطف أكثر من 200 امرأة وطفل لا يزال مصيرهم مجهولاً ولا أحد يتحدث عنهم. وهكذا أيضاً حين تم التضليل في قضية خطف وقتل الصحافي الفرنسي جيل جاكييه من قبل مسلحين تكفيريين. وهكذا خصوصاً حين جرى التغاضي عن أول التقارير الفرنسية التي كانت تؤكد وجود «قاعدة» وتكفيريين.
ــــ ثامناً، أخطأ الغرب بتصوير الجيش السوري الحر على أنه معتدل وغير مرتبط بـ«القاعدة»، بينما نلاحظ، مثلاً، أنه «في تشرين الأول 2013 كان الشيخ العرعور الذي يدعو الى تقطيع لحم العلويين ورميه للكلاب، هو الوحيد الحاضر في إعلان القيادة الشمالية للجيش الحر. وتبيّن لاحقاً أن هذا الجيش مرتبط بألوية جهادية قاعدية».
ــــ تاسعاً، أخطأ الغرب لأنه لم ينتبه الى «الصمود اللافت للجيش السوري» في مواجهة التكفيريين و«القاعدة» والتضليل النفسي الإعلامي والمال والسلاح.
ــــ عاشراً: أخطأ الغرب، لأنه لم يدرك أهمية سورية بالنسبة إلى روسيا. فالنظام العلماني في دمشق، والعمق الأرثوذكسي لمسيحيي سورية، والخطر الإسلامي التكفيري، والموقع الاستراتيجي، كلها جعلت الأسد حليفاً مهماً لموسكو. صارت روسيا المصدر الأكبر للسلاح من خلال اتفاقيات يعود بعضها إلى عام 2004. بنت، في كسب وغيرها، رادارات لمراقبة تحركات الأطلسي. أقامت في طرطوس قاعدة بحرية مهمة. يكفي أن نذكر أن وقف العدوان الأميركي عن سورية عام 2013 كان بفضل سياسة التسليح الدفاعي الروسي. وفي الكتاب تفاصيل مهمة عن كل أنواع الأسلحة الروسية الحالية في سورية.
الآن، وقد بات الإرهاب يطرق أبواب الغرب، فإن الكاتب يرى أن الأخطاء التي ارتُكبت بدأت تُعطي ثمارها الكارثية، وأن التغاضي عن تحركات قيادات مرتبطة بـ«القاعدة»، مثل الليبي عبد الكريم بلحاج، من ليبيا إلى سورية، ونقل أطنان الأسلحة بتمويل قطري من الموانئ الليبية إلى الأراضي السورية، صارت تلقي بظلالها الثقيلة. ظلال لا بد أن تدفع إلى تغيير مسارات الرياح.
الأسد باق، بينما «الدبلوماسية الفرنسية تعيش فشلاً ذريعاً سياسياً وإعلامياً، من شأنه أن يؤدي إلى إضعاف الموقع الدبلوماسي لفرنسا». هكذا ينقل المؤلف عن الرئيس السابق للاستخبارات الفرنسية برنار سكوارسيني الذي سبقه إلى وضع كتاب آخر فيه من المعلومات ما يؤكد أن ما حصل في سورية كان بالفعل أقل من انتفاضة وأكبر من مؤامرة.
المقلق في الكتاب الجديد، هو أن فريديريك بيشون يؤكد أن الحرب على الإرهاب طويلة، وأن الغرب الذي أخطأ في سورية يقف عاجزاً اليوم أمام خطر هذا الإرهاب. وكأنّا به يقول إن الجيش السوري هو الوحيد الذي استطاع صدّ هذه الموجة، ولا بد بالتالي من دعمه.
أن يصدر هذا الكتاب وغيره، فيما تتم محاكمة الرئيس السابق نيكولا ساركوزي بتهم يتعلق بعضها بتقاضي أموال من العقيد الراحل معمر القذافي، وفيما يجري التركيز على الجوانب المالية التي دفعت فرنسا في عهد الرئيس الحالي فرانسوا هولاند الى نسج علاقات «كارثية» مع السعودية وقطر (في كتاب بيشون تفاصيل كثيرة عن الشركات الفرنسية والعقود في قطر حالياً قبل الألعاب الأولمبية)، فهذا يعني أن علبة «الباندور» فُتحت، وأن أسراراً كثيرة ستكشف أن معظم الربيع العربي كان صناعة غربية، أو استغل لأهداف غربية ولأسباب غربية، وأن المنفذين كانوا مجرد بيادق عربية وبتمويل عربي... التاريخ يكرر نفسه، ولكن بصورة أبشع هذه المرة.
المصدر :
الأخبار/ سامي كليب
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة