كان راكعاً ويداه مقيدتان خلف ظهره. كان رأسه منحنياً صوب الأرض. كان ظهره متكوِّراً خوفاً وذلاً. تقدم الملثَّم خلفه. أطلق من مسدسه طلقة مباشرة الى الرأس. سقط الشاب العشريني العمر. بان وجهُه المعفَّر بالتراب والكدمات. رسم دمُه شيئاً يُشبه الخريطةَ المبعثرة على الأرض. لا يشبه تبعثُرها سوى مستقبل خريطة العراق التي لا يعرف غير الله على ماذا ستستقر.

لو كان الشابُ ثريّاً لما أصبح جندياً. لو كان فقرُه محتملاً لما ذهب للقتال في الأنبار. لو كانت لديه عقيدة، لربما ما هرب. انتهى ربيعُ عمره بطلقة. ليس مهماً اسمه وعنوانه وانتماؤه. دمه رسم خريطة مبعثرة لأن الفقراء وحدهم هم من يدفعون ثمن حروب الآخرين وخرائطهم.

ما حصل في الموصل في خلال الأيام القليلة الماضية ليس معزولاً عن التاريخ المضطرب للعراق. داعش هي الواجهة الحالية. الحقيقة تفترض الذهاب أبعد من هذه الواجهة. كلما غزت العراق دول كبيرة سارعت الى تغيير القاعدة المذهبية لسلطته. تارة يقدِّمون السنَّة الى الواجهة، وأخرى يفضلون الشيعة، وبينهما يساعدون الأكراد على الاستقلال.

داعش هي الواجهة. دورها أن تزرع الرعب حيث تغزو. عقيدتها التي تكفِّر كل الآخرين، بمن فيهم سنّة كالصوفيين، لا ترحم. لكن الحقيقة تفترض القول إن ثمة تهميشاً حصل، وثمة أخطاء وقعت، وثمة فوضى دبت منذ سنوات. ربما هذا خطأ الأميركيين وربما إرادتهم.

تؤكد آخر دراسة أميركية كندية حول غزو العراق مقتل نصف مليون عراقي و4500 جندي وضابط أميركي. لن يغامر الرئيس باراك أوباما بإرسال قوات برية.

لا بد إذاً من رصد الملاحظات الآتية:

أولاً: جاء الغزو الداعشي مباشرة بعد انتقال المفاوضات النووية من 5+1 إلى لقاء مباشر بين الأميركيين والإيرانيين. الحدث بحدث ذاته كان كفيلاً برفع مستوى القلق عند الدول الرافضة هذا التقارب والخائفة منه. اليوم تبدأ مفاوضات رسم الاتفاق النهائي حول النووي. لو نجحت، فإن تحولاً كبيراً سيحصل في المنطقة.

ثانياً: جاء الغزو الداعشي أيضاً بعدما صار الإرهاب هدف كل الاجتماعات. الدعم المباشر للرئيس بشار الأسد ضد داعش والنصرة يثير إحراجاً عالمياً. لا بد من مكان آخر أقل إحراجاً. العراق أفضل من سوريا.

العالم أصبح بمثابة مسرح للإخفاقات الأوبامية

 

ثالثاً: جاء الغزو كذلك بعد زيارة الرئيس الإيراني حسن روحاني لتركيا. بقيت سوريا محور خلاف، لكن اتفاقات جدية وقِّعت؛ وفي مقدمها ما يتعلق بمكافحة الإرهاب.

رابعاً: جاء الغزو بعد بروز لهجة المنتصر في سوريا وعند حزب الله. تعززت اللهجة بعد الانتخابات السورية والتقدم على الأرض. تعززت كذلك مع ازدياد تشدد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في دعمه لسوريا بعد أزمة أوكرانيا.

ليس غريباً أن يرتفع إذاً منسوب القلق عند خصوم هذا المحور. صعب القبول بتقدم هائل في المفاوضات الإيرانية الأميركية وتقدم مواز في الأزمة السورية.

صدر موقفان معبران تماماً عن طبيعة المرحلة الحالية. من جهة، الرئيس روحاني يعلن في سابقة في تاريخ علاقة طهران بواشنطن: «أن إيران مستعدة للتعاون مع أميركا في مكافحة الإرهاب وخارجه، شرط توافر النية لديها لمواجهة الإرهابيين». من جهة ثانية، يقول رئيس الاستخبارات السعودية السابق تركي الفيصل: «من السخريات المحتملة التي قد تقع هي أن نرى الحرس الثوري الإيراني يقاتل جنباً الى جنب مع الطائرات الأميركية دون طيار لقتل العراقيين. هذا شيء يفقد المرء صوابه ويجعله يتساءل».

تعطيل التفاهم الأميركي الإيراني

فعلاً شيء يُفقد الصواب. القلق إذاً كبير من مآلات التفاوض الأميركي الإيراني. القلق في أميركا أيضاً كبير من أن يفشل ذلك. صورة أوباما تزداد سوءاً وتقهقراً. تنافره مع إسرائيل بسبب المستوطنات والمفاوضات وإيران يزيد ضغوط اللوبي اليهودي والمؤيد لإسرائيل عليه. تنافره مع السعودية بسبب إيران وسوريا مُحرج. تفاوضه مع حركة طالبان لإطلاق سراح جندي أميركي مقابل إطلاق سراح 5 من قادة طالبان يثير السخرية عند خصومه في الداخل. كيف يفاوض بعد 13 عاماً من الاحتلال الأميركي لأفغانستان من جاؤوا أصلاً لقتالهم.

الآن، أوباما أمام مشهد مقلق في السياسة الخارجية. فشل في سوريا. وآخر في فلسطين. وثالث في أفغانستان (ليس هو طبعاً من يتحمل مسؤوليته الكبرى، وإنما من غزا قبله ذاك البلد الآسيوي) ورابع في العراق.

قالت صحيفة واشنطن بوست «إن العالم أصبح بمثابة مسرح للإخفاقات الأوبامية». استطلاعات الرأي الأخيرة تؤكد انخفاض شعبية الرئيس الى أدنى من 38 بالمئة. لا بد إذاً من نجاح في مكان ما. لا بد من التعاون مع إيران.

إعادة تقاسم النفوذ.

لنقرأ بتمعن ما قاله أوباما: «أميركا لن تتورط في عمل عسكري في العراق، في غياب خطة سياسية يقدمها العراقيون أنفسهم».

ترجمة الكلام: أن أوباما يريد الاتفاق مع إيران للضغط على حلفائها في الداخل، وفي مقدمهم نوري المالكي بغية إعادة تقاسم النفوذ بين الشيعة والسنة. هذا يفترض أن تعاوناً ما سيحصل بين الطرفين لضرب الإرهاب، ولكنه يفترض تغيير الخريطة السياسية الداخلية. ثمة من يريد أن يكون رحيل المالكي ثمناً. لم يعد احتمال النجاح في ضرب الإرهاب ممكناً بدون دعم إيراني مباشر. نجح الأمر الى حد بعيد في سوريا ويجب أن يستكمل في العراق.

المشكلة أن العراق أكثر تعقيداً وخطورة. ثمة بيئة سنية ناقمة لا بد من التفاهم معها. غالبية سكان الموصل عرب سنة ينحدرون من قبائل عريقة هي الجبور والدليم وطيء والبقارة وشمَّر.

الأنبار، التي يقال إن اسمها جاء من الفارسية وتعني المخزن، تشكل ثلث مساحة العراق. كان القتال الأشرس فيها ضد الأميركيين الذين اضطروا لاستخدام قنابل النابالم وغيرها. الفلوجة شاهدة. العمل العسكري وحده لا يكفي. يجب العودة الى منطق استمالة العشائر.

في الأنبار نحو 55 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي، فضلاً عن الثروات الأخرى كالذهب والمعادن والحديد والفوسفات.

صحيح أن الاحتياطي النفطي العراقي الأكبر يتركز في الجنوب ذي البيئة الشيعية. لكن حيث تتوفر ثروة وبيئة حاضنة يصبح احتمال التقسيم أسهل. لا بد إذاً من جهود كبيرة أميركية وعربية خليجية وتركية تضاف الى الجهود الإيرانية لإخراج العراق من كبوته الحالية.

أن يقال إن في الأمر فقط داعش ومشاهدها المروِّعة هو دفن لرأس النعامة في الرمال. ثمة مشكلة مذهبية أعقد. ومشكلة نفوذ إقليمي أخطر. ومشكلة مصالح غربية. ومشكلة تنافر بين التكتلات الشيعية نفسها. ومشكلة جيش بلا عقيدة قتالية له، رغم أن عدده يقارب 200 ألف، يضاف إليهم أكثر من 500 ألف بين رجل شرطة وأمن. ومشكلة البعثيين الذين جرت محاولات استئصالهم فما استؤصلوا. لم ينتبه كثيرون ربما الى أن السيدة رغد ابنة الرئيس الراحل صدام حسين كانت أول المرحبين بما حصل في خلال الأيام القليلة الماضية في الموصل وغيرها.

لنلاحظ أن دولاً مجاورة في الخليج صمتت على ما حصل أو رحبت بخجل، أو اعتبرت في الأمر ثورة ضد ما وصفته بالظلم ضد أهل السنة. لنلاحظ أيضاً أن التجمع العالمي لعلماء المسلمين برئاسة الشيخ يوسف القرضاوي كان الأكثر ترحيباً. معركة النفوذ الإقليمي والمذهبي في العراق إذاً في أقصاها.

الآن، العالم منقسم بين كتلة كبيرة تحارب الإرهاب تضم أميركا والغرب الأطلسي وإيران ودولاً خليجية وعربية، وبين كتلة صغيرة لا تزال تعتبر أن الإرهاب مطية جيدة لتحسين ظروف سياسية أو مذهبية. لا شك أن كل شيء وحتى أمد طويل بات منذ اللحظة التي جالس فيها الأميركيون الإيرانيين على طاولة واحدة محكوماً بهذا التقارب. العراق لن يشذ عن هذه المعادلة.

الدم العراقي سيستمر إذاً بالنزف لأن التأجيج المذهبي الحاصل حالياً لن يسهِّل التفاهم الأميركي الإيراني. ثمة من يذهب أبعد من ذلك ويقول إن ما يحصل في العراق هو فخ لإيران للضغط عليها تفاوضياً. ثمة من يعتقد أن في العراق نفسه يمكن ضرب هذا التفاهم الإيراني الأميركي. إسرائيل نفسها تعتقد ذلك.

لا شك أن هذا المشهد مثير للقلق في العراق. شبح التقسيم مخيِّم. لكن ثمة أزمات وحروباً كبيرة حصلت في العالم تحولت الى فرص لتفاهمات كبيرة. لعل من العراق ستبدأ فعلاً خطة دولية وإقليمية كبيرة لمحاربة الإرهاب ورسم خرائط تحالفات جديدة. إلا إذا كان في الأمر أهداف تقسيمية أكثر خطورة.

  • فريق ماسة
  • 2014-06-15
  • 13016
  • من الأرشيف

دم العراقيين يرسم خرائط جديدة....سامي كليب

كان راكعاً ويداه مقيدتان خلف ظهره. كان رأسه منحنياً صوب الأرض. كان ظهره متكوِّراً خوفاً وذلاً. تقدم الملثَّم خلفه. أطلق من مسدسه طلقة مباشرة الى الرأس. سقط الشاب العشريني العمر. بان وجهُه المعفَّر بالتراب والكدمات. رسم دمُه شيئاً يُشبه الخريطةَ المبعثرة على الأرض. لا يشبه تبعثُرها سوى مستقبل خريطة العراق التي لا يعرف غير الله على ماذا ستستقر. لو كان الشابُ ثريّاً لما أصبح جندياً. لو كان فقرُه محتملاً لما ذهب للقتال في الأنبار. لو كانت لديه عقيدة، لربما ما هرب. انتهى ربيعُ عمره بطلقة. ليس مهماً اسمه وعنوانه وانتماؤه. دمه رسم خريطة مبعثرة لأن الفقراء وحدهم هم من يدفعون ثمن حروب الآخرين وخرائطهم. ما حصل في الموصل في خلال الأيام القليلة الماضية ليس معزولاً عن التاريخ المضطرب للعراق. داعش هي الواجهة الحالية. الحقيقة تفترض الذهاب أبعد من هذه الواجهة. كلما غزت العراق دول كبيرة سارعت الى تغيير القاعدة المذهبية لسلطته. تارة يقدِّمون السنَّة الى الواجهة، وأخرى يفضلون الشيعة، وبينهما يساعدون الأكراد على الاستقلال. داعش هي الواجهة. دورها أن تزرع الرعب حيث تغزو. عقيدتها التي تكفِّر كل الآخرين، بمن فيهم سنّة كالصوفيين، لا ترحم. لكن الحقيقة تفترض القول إن ثمة تهميشاً حصل، وثمة أخطاء وقعت، وثمة فوضى دبت منذ سنوات. ربما هذا خطأ الأميركيين وربما إرادتهم. تؤكد آخر دراسة أميركية كندية حول غزو العراق مقتل نصف مليون عراقي و4500 جندي وضابط أميركي. لن يغامر الرئيس باراك أوباما بإرسال قوات برية. لا بد إذاً من رصد الملاحظات الآتية: أولاً: جاء الغزو الداعشي مباشرة بعد انتقال المفاوضات النووية من 5+1 إلى لقاء مباشر بين الأميركيين والإيرانيين. الحدث بحدث ذاته كان كفيلاً برفع مستوى القلق عند الدول الرافضة هذا التقارب والخائفة منه. اليوم تبدأ مفاوضات رسم الاتفاق النهائي حول النووي. لو نجحت، فإن تحولاً كبيراً سيحصل في المنطقة. ثانياً: جاء الغزو الداعشي أيضاً بعدما صار الإرهاب هدف كل الاجتماعات. الدعم المباشر للرئيس بشار الأسد ضد داعش والنصرة يثير إحراجاً عالمياً. لا بد من مكان آخر أقل إحراجاً. العراق أفضل من سوريا. العالم أصبح بمثابة مسرح للإخفاقات الأوبامية   ثالثاً: جاء الغزو كذلك بعد زيارة الرئيس الإيراني حسن روحاني لتركيا. بقيت سوريا محور خلاف، لكن اتفاقات جدية وقِّعت؛ وفي مقدمها ما يتعلق بمكافحة الإرهاب. رابعاً: جاء الغزو بعد بروز لهجة المنتصر في سوريا وعند حزب الله. تعززت اللهجة بعد الانتخابات السورية والتقدم على الأرض. تعززت كذلك مع ازدياد تشدد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في دعمه لسوريا بعد أزمة أوكرانيا. ليس غريباً أن يرتفع إذاً منسوب القلق عند خصوم هذا المحور. صعب القبول بتقدم هائل في المفاوضات الإيرانية الأميركية وتقدم مواز في الأزمة السورية. صدر موقفان معبران تماماً عن طبيعة المرحلة الحالية. من جهة، الرئيس روحاني يعلن في سابقة في تاريخ علاقة طهران بواشنطن: «أن إيران مستعدة للتعاون مع أميركا في مكافحة الإرهاب وخارجه، شرط توافر النية لديها لمواجهة الإرهابيين». من جهة ثانية، يقول رئيس الاستخبارات السعودية السابق تركي الفيصل: «من السخريات المحتملة التي قد تقع هي أن نرى الحرس الثوري الإيراني يقاتل جنباً الى جنب مع الطائرات الأميركية دون طيار لقتل العراقيين. هذا شيء يفقد المرء صوابه ويجعله يتساءل». تعطيل التفاهم الأميركي الإيراني فعلاً شيء يُفقد الصواب. القلق إذاً كبير من مآلات التفاوض الأميركي الإيراني. القلق في أميركا أيضاً كبير من أن يفشل ذلك. صورة أوباما تزداد سوءاً وتقهقراً. تنافره مع إسرائيل بسبب المستوطنات والمفاوضات وإيران يزيد ضغوط اللوبي اليهودي والمؤيد لإسرائيل عليه. تنافره مع السعودية بسبب إيران وسوريا مُحرج. تفاوضه مع حركة طالبان لإطلاق سراح جندي أميركي مقابل إطلاق سراح 5 من قادة طالبان يثير السخرية عند خصومه في الداخل. كيف يفاوض بعد 13 عاماً من الاحتلال الأميركي لأفغانستان من جاؤوا أصلاً لقتالهم. الآن، أوباما أمام مشهد مقلق في السياسة الخارجية. فشل في سوريا. وآخر في فلسطين. وثالث في أفغانستان (ليس هو طبعاً من يتحمل مسؤوليته الكبرى، وإنما من غزا قبله ذاك البلد الآسيوي) ورابع في العراق. قالت صحيفة واشنطن بوست «إن العالم أصبح بمثابة مسرح للإخفاقات الأوبامية». استطلاعات الرأي الأخيرة تؤكد انخفاض شعبية الرئيس الى أدنى من 38 بالمئة. لا بد إذاً من نجاح في مكان ما. لا بد من التعاون مع إيران. إعادة تقاسم النفوذ. لنقرأ بتمعن ما قاله أوباما: «أميركا لن تتورط في عمل عسكري في العراق، في غياب خطة سياسية يقدمها العراقيون أنفسهم». ترجمة الكلام: أن أوباما يريد الاتفاق مع إيران للضغط على حلفائها في الداخل، وفي مقدمهم نوري المالكي بغية إعادة تقاسم النفوذ بين الشيعة والسنة. هذا يفترض أن تعاوناً ما سيحصل بين الطرفين لضرب الإرهاب، ولكنه يفترض تغيير الخريطة السياسية الداخلية. ثمة من يريد أن يكون رحيل المالكي ثمناً. لم يعد احتمال النجاح في ضرب الإرهاب ممكناً بدون دعم إيراني مباشر. نجح الأمر الى حد بعيد في سوريا ويجب أن يستكمل في العراق. المشكلة أن العراق أكثر تعقيداً وخطورة. ثمة بيئة سنية ناقمة لا بد من التفاهم معها. غالبية سكان الموصل عرب سنة ينحدرون من قبائل عريقة هي الجبور والدليم وطيء والبقارة وشمَّر. الأنبار، التي يقال إن اسمها جاء من الفارسية وتعني المخزن، تشكل ثلث مساحة العراق. كان القتال الأشرس فيها ضد الأميركيين الذين اضطروا لاستخدام قنابل النابالم وغيرها. الفلوجة شاهدة. العمل العسكري وحده لا يكفي. يجب العودة الى منطق استمالة العشائر. في الأنبار نحو 55 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي، فضلاً عن الثروات الأخرى كالذهب والمعادن والحديد والفوسفات. صحيح أن الاحتياطي النفطي العراقي الأكبر يتركز في الجنوب ذي البيئة الشيعية. لكن حيث تتوفر ثروة وبيئة حاضنة يصبح احتمال التقسيم أسهل. لا بد إذاً من جهود كبيرة أميركية وعربية خليجية وتركية تضاف الى الجهود الإيرانية لإخراج العراق من كبوته الحالية. أن يقال إن في الأمر فقط داعش ومشاهدها المروِّعة هو دفن لرأس النعامة في الرمال. ثمة مشكلة مذهبية أعقد. ومشكلة نفوذ إقليمي أخطر. ومشكلة مصالح غربية. ومشكلة تنافر بين التكتلات الشيعية نفسها. ومشكلة جيش بلا عقيدة قتالية له، رغم أن عدده يقارب 200 ألف، يضاف إليهم أكثر من 500 ألف بين رجل شرطة وأمن. ومشكلة البعثيين الذين جرت محاولات استئصالهم فما استؤصلوا. لم ينتبه كثيرون ربما الى أن السيدة رغد ابنة الرئيس الراحل صدام حسين كانت أول المرحبين بما حصل في خلال الأيام القليلة الماضية في الموصل وغيرها. لنلاحظ أن دولاً مجاورة في الخليج صمتت على ما حصل أو رحبت بخجل، أو اعتبرت في الأمر ثورة ضد ما وصفته بالظلم ضد أهل السنة. لنلاحظ أيضاً أن التجمع العالمي لعلماء المسلمين برئاسة الشيخ يوسف القرضاوي كان الأكثر ترحيباً. معركة النفوذ الإقليمي والمذهبي في العراق إذاً في أقصاها. الآن، العالم منقسم بين كتلة كبيرة تحارب الإرهاب تضم أميركا والغرب الأطلسي وإيران ودولاً خليجية وعربية، وبين كتلة صغيرة لا تزال تعتبر أن الإرهاب مطية جيدة لتحسين ظروف سياسية أو مذهبية. لا شك أن كل شيء وحتى أمد طويل بات منذ اللحظة التي جالس فيها الأميركيون الإيرانيين على طاولة واحدة محكوماً بهذا التقارب. العراق لن يشذ عن هذه المعادلة. الدم العراقي سيستمر إذاً بالنزف لأن التأجيج المذهبي الحاصل حالياً لن يسهِّل التفاهم الأميركي الإيراني. ثمة من يذهب أبعد من ذلك ويقول إن ما يحصل في العراق هو فخ لإيران للضغط عليها تفاوضياً. ثمة من يعتقد أن في العراق نفسه يمكن ضرب هذا التفاهم الإيراني الأميركي. إسرائيل نفسها تعتقد ذلك. لا شك أن هذا المشهد مثير للقلق في العراق. شبح التقسيم مخيِّم. لكن ثمة أزمات وحروباً كبيرة حصلت في العالم تحولت الى فرص لتفاهمات كبيرة. لعل من العراق ستبدأ فعلاً خطة دولية وإقليمية كبيرة لمحاربة الإرهاب ورسم خرائط تحالفات جديدة. إلا إذا كان في الأمر أهداف تقسيمية أكثر خطورة.

المصدر : سامي كليب / الأخبار


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة