تميزت حزمة الأخبار التي جاءتنا مؤخراً من سورية باحتوائها على كمية من التطورات الميدانية التي حققها الجيش السوري في المليحة و حلب و شمال اللاذقية ، و لكن ما أوقفني اليوم من الأخبار لم يكن له علاقة بقعقة السلاح و لا بالمعطيات العسكرية التي تقول بأن حلب قد باتت على لائحة الانتظار لتعلن كمحافظة ساقطة عسكرياً و لتبدأ مرحلة التشطيبات على طريقة ما حصل في المليحة أو في مدينة حمص التي كان لها حصة من المواضيع الثلاثة التي أوقفتني ... هي مواضيع تبدو للوهلة الأولى بأنها متناثرة على السجادة السورية الواسعة و متباعدة عن بعضها بالقياس إلى التطورات العسكرية و السياسية التي تفرزها الأزمة السورية و التي تجعل الأحداث متراصة بجانب بعضها البعض و متزاحمة و هي تتسابق للسقوط كي تفسح المكان لاحداث جديدة تولد كل يوم . لكن الحقيقة تقول غير ذلك ، فلا يوجد في السياسة أو في الحروب حدث ما يكون منفصلاً تماماً عن محيطه ، فهو لا يموت في الواقع السياسي بمجرد انقضائه و لا يفنى بعد مرور زمن على وقوعه ، بل ان تأثيره يبقى قائم و يشارك بفاعلية في صناعة شبكة من التطورات التي ستشكل في الحالة السورية الأساس لبناء مهيب لبناته هي مجموع الأحداث السياسية و الوقائع الميدانية المتماسكة مع بعضها بملاط من الآلام و الآمال التي مرت على رأس السوريين .

أول موضوع قد أوقفني كان عن بداية تطبيق اتفاق الهدنة حول حمص القديمة و بداية دخول الجيش السوري إلى بعض أحيائها و انتشاره فيها . و الموضوع الثاني جاء من مقالة تتحدث بالتفصيل عن الضرر الذي سببه مقاتلو المعارضة عن عمد للتاريخ المسيحي العريق في بلدة معلولا و عن مدى الأذى الذي طال أديرتها و مزاراتها الأثرية . أما الموضوع الثالت فكان عن مدى الحساسية التي تسببها الانتخابات الرئاسية السورية المقبلة للمحور المعارض و بالذات ما يخص منها ترشيح الرئيس السوري نفسه لهذه الانتخابات . ما قد حفزني في الأصل على التوقف عند هذه المواضيع هو ملاحظتي السابقة للتميز الذي طبع احتفال المسيحيين السوريين بعيد القيامة الذي مضى ، فأنا لم أرى على السوريين اللذين احتفلوا بعيد قهر المسيح للموت علامات الانفعال بهذه القوة و لم ألحظ عليهم حالة الاثارة بهذا الانتشار و التعميم كما رأيت من ردة فعلهم على زيارة الرئيس بشار الأسد الأخيرة إلى بلدة معلولا المحررة . ففي العادة يتعامل المجتمع المسيحي السوري مع الأحداث الاجتماعية و السياسية بعاطفة هادئة بالمقارنة مع السيطرة العاطفية السائدة في المشرق بشكل عام ، و لكن زيارة معلولا قد ساعدت عواطفهم على كسر حاجز كان من الثوابت عندهم و هو التحفظ عن الافصاح علانية عما يشعرون به و التريث في أخذ موقف عاطفي حاد و فج ، فتجاوزوا المسيحيون السوريون فطريتهم هذه المرة و دخلوا إلى العفوية من بابها العريض لدرجة أن ربة منزل متحفظة تعيش في اوروبا قد قالت لي بانفعال بعدما شاهدت الريبورتاج عن تلك الزيارة على الفضائية السورية : كم وددت لو أستطيع أختراق شاشة التلفزيون كي أقبل رأس رئيسنا .

و لكن ما هو الجديد و المميز في تلك الزيارة ؟؟ فمعلولا قد حررت مرتين قبل ذلك ، و الرئيس قد زارها مراراً من قبل ، بل انه قد ارتدى نفس البذلة التي زار بها معلولا أخر مرة ، فلماذا اذاً انطلقت عواطف المسيحيين هذه المرة مخترقة الضوابط لدرجة أن يوم العيد قد انقضى باتصالات تتحدث عن تلك الزيارة و كانت تهنئات العيد تدور حولها ؟! .. الجواب الحقيقي على هذه الأسئلة ليس بذاك التقليدي الذي يقول أن الفرحة كانت بسبب عودة البلدة إلى حضن الوطن و تحرر أديرتها من قبضة التكفيريين ، بل ان الجواب يكمن في جوانب أعمق من ذلك بكثير ، جوانب متعلقة بوجدان المسيحي السوري و متصلة بالدلالات و بالرموز الغزيرة الموجودة في ثقافته و التي منها تخرج الرسائل و التوجيهات الغير مباشرة و التي تقبض في يديها على مفاتيح العواطف و تقود ردود الأفعال .

يتميز احتفال المسيحيون بعيد القيامة دوناً عن غيره من المناسبات باستخدامهم للكثير من الرموز الدينية و الجمالية مثل كعك العيد و البيض الملون و أرانب الشوكولا و الزينة التي على شكل عصافير صغيرة . و كل من هذه الرموز له تاريخه و رسائله المعروفة ، و لكن هذه الرسائل قد تمايزت مع عيد القيامة الأخير فبالإضافة إلى الأزمة السورية التي وضعت الشعب السوري في واحدة من أسوأ نكبات العصر الحديث فقد تعرض المجتمع المسيحي قبل العيد لأكثر من حادث مؤلم ضغط على عواطفه بشكل لم يحدث منذ بداية الأزمة في سورية لذلك جاءت رموز الفصح هذه السنة برسائل اضافية لها نكهة مختلفة و مضمون مؤلم .

أنا شخصياً من محبي رمز العصافير في عيد القيامة لأنها وديعة و رسائلها صادقة و دقيقة ، فهي تسمو عن المنخفضات و تحلق عالياً فترى من فوق ماهو أوسع مما نراه و نحن على الأرض غائصين في تفاصيلها المتشعبة و غارقين في أحداثها الصغيرة . فباتت العصافير مدركة لما هو أشمل مما نظن أننا نلم به من ألفه إلى يائه ، كما أنها تنبس بالأخبار المستورة و تفسر الحالات الغامضة هامسة بما رأت لمن تأمن له و يعرف لغتها ... أشكر الرب لأنني من محبي الطيور و أستطيع أن أفك الكثير من طلاسم هديلهم و زقزقتهم فأقع بين الحين و الأخر على أجوبة منهم تفك لي بعض الغموض الذي يعشعش في أحداث و دروب الأزمة السورية .

 

قبيل الاحتفال بعيد الشعانين الذي يسبق أحد القيامة باسبوع حط على نافذتي عصفور سوري صغير و كان يلهث من كثرة الطيران و التحليق فوق مدينة حمص ، و بعدما هدئ روعه و ارتشف قطرتي ماء انطلق منقاره بالزقزقة مخبراً عما كان قد رآه من آخر الأحداث التي ضربت المسيحيين السوريين في عمق عاطفتهم و ابتدأ بما حصل في حمص القديمة :

قال الطائر أنه رأى أن قسماً كبيراً من مقاتلي حمص القديمة قد أسقط في يده و سأم من القتال ضد الجيش السوري و لم يعد يرى في حمل السلاح فائدة ترجى . و لكن كان هناك في المقابل قسماً أخر أقل عدداً من الأول و لكنه أشد خطراُ منه و أكثر استخفافا بالحياة و ادماناً على المخدرات و عناصره أكبر بالسن نسبيا من عناصر القسم الأول . و كان لهذا القسم الأخير اتصالات شبه يومية بمملكة عربية صحراوية و كان يتلقى منها أوامر تقول له بأن يشد من عضد المقاتلين الأخرين كي يستمروا بالقتال و كي تستمر ورقة حمص القديمة مفتوحة كوسيلة ضغط على الدولة السورية و عليه فيجب ابقاء خطوط التماس ساخنة دائماً للقضاء على أي فتور يصيب القسم الأول . فكانت قذائف الهاون لا تتوقف و السيارات المفخخة تعمل بجهد للنفاذ إلى الأحياء الموالية . و لكن كثرة الاصابات و القتلى في صفوف مقاتلي حمص القديمة بالاضافة إلى الحصار العسكري و إلى دردشات التهدئة التي كانت تتوجه لهم عبر اللاسلكي من قبل عناصر الجيش السوري و الدفاع الوطني كل هذه العوامل قد دفعت بالقسم الأول لأن يحسم قراره باتجاه الهدنة مع الدولة السورية . و ليتم ذلك كان لا بد من ايجاد وسيط موثوق من الطرفين كي تتم التهدئة من خلاله فوقع اختيار المقاتلين على الأب العجوز فرانس اليسوعي ذو الأصول الهولندية الذي فضل البقاء داخل حمص القديمة رغم كل المخاطر و لم يترك ديره الذي يرعاه منذ عقود مضت .

عمل القسم المتشدد على وضع العصي في الدواليب و قام بتهديد الأب فرانس و أخذ يمارس بطشه يمنة و يسرى بناء على أوامر ضابط الارتباط في المملكة الصحراوية و لكن عملية التسوية لم تتوقف فشباب حمص القديمة قد فقدوا الكثير من رفاقهم و من اخوتهم على خطوط التماس و من بقي منهم معافى قد سأم من فساد و سطوة المتشددين الذين قرروا زيادة التصعيد فاجتمعوا و حشدوا سياراتهم ليحشوها بالمتفجرات في نية منهم لايقاع أكبر عدد من المدنيين في ضربة واحدة كي يجن جنون الجيش السوري فينهال على حمص القديمة و تموت أي هدنة في مهدها... لكنهم فوجؤا بضربة استخباراتية استباقية بصاروخ موجه من الجيش السوري جاءهم إلى عقر اجتماعهم لتسقط مجموعة من قاداتهم بضربة واحدة فما كان من الجماعة إلا أن لجأت إلى خطوة بديلة يحركها اليأس و الغضب فقاموا باغتيال وسيط السلام الأب فرانس .

و هنا توقف العصفور عن الكلام و سقطت على منقاره دمعتان ثقيلتان فقلت له مواسيا :هدئ من روعك يا صديقي فأن روح الأب فرانس هي راضية الأن لأنه عمل ما وسعه لاحلال السلام في حياته و أظن بأن مماته سيلعب دوراً أيضا في عودة السلام لسورية التي أحبها ، فالتلفزيون الهولندي على سبيل المثال قد اهتم بمقتل مواطنه في سورية و عرض برنامجاً مفصلاً عنه ، بل أنه أتى بشاهد سوري معارض قد عرف الأب فرانس عن قرب و قال على الملآ بأن المغدور كان رسول سلام بامتياز و بأن رؤيته كانت إلى جانب النظام و الدولة السورية . و هنا تنهد الطائر و قال ان دموعه الأخيرة تسيل لأجل ألم أخر أعمق و أمضى ، ألم تاريخي و حضاري كان قد عاشه و هو محلقاً في سماء معلولا :

قال بأنه قد شاهد تاريخاً ينبع للبشرية و هو يُهان و يُفترس ، فرأى كتل متفرقة من مقاتلين سوريين و غرباء تنتشر في معلولا و تتوارى بين صخور الجبال و في عتمة المغاور. رأى شباب جلهم من الغرباء و هم يمرغون بجهلهم واحدة من أقدم الآثار المسيحية في العالم ، فالصلبان قد حطموها و الايقونات الأثرية و الثمينة قد نهبوها ، أما الايقونات الجدارية العتيقة التي لا يمكنهم اقتلاعها فقد طمسوها بدهانات رخيصة . و الهياكل المقدسة لدى المسيحيين و التي يقارب عمر بعضها من الألف و خمسمائة سنة قد خربوها و أحاطوها بالنفايات ، و في بعض الأماكن وصل بهم الأمر إلى اقتلاع الحجارة الأثرية كما اقتلعوا الحياة ذبحاً من أسراهم من شباب معلولا المسيحيين الذين وقعوا في أيديهم ... قال هذا ثم صمت و نظر إلي بطريقة يحثنني فيها على البكاء و الندب فقلت له لا يا صديقي العزيز أنا لن أبكي معك فالآثار هي ذكرى للانسان أما التاريخ فهو الانسان نفسه و هو الرجاء و هو القيامة ، و كل ألم له جانب أخر مختلف و مرمز وعلينا قراءته و التعلم منه ، فمن عشش في مغاور معلولا و اغتال مراسلي قناة المنار الذين كانوا في طريقهم لتوثيق مافعلته المرتزقة قد مزج بجريمته دم المراسلين مع دم أطفال مدرسة المنار الذين سقطوا في اليوم التالي بقذائف زملائه .

أما بخصوص المجتمع المسيحي فأن ايمانه قائم على الرجاء الذي يعني الثقة بالله الذي مد يده من وسط الآلم و البؤس و نشل أبنائه من رذالات هذا العالم و في هذا الايمان المسيحي تتوضع القوة الرمزية لزيارة الرئيس بشار الأسد إلى بلدة معلولا . فهو قد ذهب إلى بلدة محررة لكنها تقع في منطقة حرب و هي مليئة بالجيوب و محاطة بالجبال و المغاور لكن الرئيس الشاب طبيب العيون قد فعلها و ذهب إلى هناك و انحنى و انتشل أيقونات المسيحيين التي كانت مرمية على الأرض بين القمامة فجاءت زيارته كضربة معلم شجاع أعطى رمزية قوية تحمل رسالة لفئة مؤمنة من أبناء سورية و لها رجاء في قلبها ، رسالة تقول لا تخافوا فالجيش السوري هنا و أنتم و تاريخكم هنا و أنا معكم هنا .

بصراحة أنا لم أستطع أن أخمن هل كانت تلك الزيارة حركة عفوية من الرئيس السوري أم جاءت كنتاج لثقافته العالية أم هي دراسة ذكية من مستشاري القصر الرئاسي . لكن معرفة الدافع لم تعد تشكل أي فرق هنا فالقوة الرمزية التي امتلكتها الزيارة قد غطت عليه و الرسالة التي جاءت من معلولا كانت ساطعة جداً لتطغي على باقي التفاصيل ، رسالة تحمل جملة واحدة تقول "ان الرئيس السوري هو زعيم شجاع و يستحق الاحترام" . احترام يستحق أن يُطبع على الورق و يُسقط  في صندوق الألم ، صندوق الرجاء ، صندوق سورية .

  • فريق ماسة
  • 2014-05-04
  • 9081
  • من الأرشيف

عصفور من حمص القديمة يروي عن معلولا و الرئيس

تميزت حزمة الأخبار التي جاءتنا مؤخراً من سورية باحتوائها على كمية من التطورات الميدانية التي حققها الجيش السوري في المليحة و حلب و شمال اللاذقية ، و لكن ما أوقفني اليوم من الأخبار لم يكن له علاقة بقعقة السلاح و لا بالمعطيات العسكرية التي تقول بأن حلب قد باتت على لائحة الانتظار لتعلن كمحافظة ساقطة عسكرياً و لتبدأ مرحلة التشطيبات على طريقة ما حصل في المليحة أو في مدينة حمص التي كان لها حصة من المواضيع الثلاثة التي أوقفتني ... هي مواضيع تبدو للوهلة الأولى بأنها متناثرة على السجادة السورية الواسعة و متباعدة عن بعضها بالقياس إلى التطورات العسكرية و السياسية التي تفرزها الأزمة السورية و التي تجعل الأحداث متراصة بجانب بعضها البعض و متزاحمة و هي تتسابق للسقوط كي تفسح المكان لاحداث جديدة تولد كل يوم . لكن الحقيقة تقول غير ذلك ، فلا يوجد في السياسة أو في الحروب حدث ما يكون منفصلاً تماماً عن محيطه ، فهو لا يموت في الواقع السياسي بمجرد انقضائه و لا يفنى بعد مرور زمن على وقوعه ، بل ان تأثيره يبقى قائم و يشارك بفاعلية في صناعة شبكة من التطورات التي ستشكل في الحالة السورية الأساس لبناء مهيب لبناته هي مجموع الأحداث السياسية و الوقائع الميدانية المتماسكة مع بعضها بملاط من الآلام و الآمال التي مرت على رأس السوريين . أول موضوع قد أوقفني كان عن بداية تطبيق اتفاق الهدنة حول حمص القديمة و بداية دخول الجيش السوري إلى بعض أحيائها و انتشاره فيها . و الموضوع الثاني جاء من مقالة تتحدث بالتفصيل عن الضرر الذي سببه مقاتلو المعارضة عن عمد للتاريخ المسيحي العريق في بلدة معلولا و عن مدى الأذى الذي طال أديرتها و مزاراتها الأثرية . أما الموضوع الثالت فكان عن مدى الحساسية التي تسببها الانتخابات الرئاسية السورية المقبلة للمحور المعارض و بالذات ما يخص منها ترشيح الرئيس السوري نفسه لهذه الانتخابات . ما قد حفزني في الأصل على التوقف عند هذه المواضيع هو ملاحظتي السابقة للتميز الذي طبع احتفال المسيحيين السوريين بعيد القيامة الذي مضى ، فأنا لم أرى على السوريين اللذين احتفلوا بعيد قهر المسيح للموت علامات الانفعال بهذه القوة و لم ألحظ عليهم حالة الاثارة بهذا الانتشار و التعميم كما رأيت من ردة فعلهم على زيارة الرئيس بشار الأسد الأخيرة إلى بلدة معلولا المحررة . ففي العادة يتعامل المجتمع المسيحي السوري مع الأحداث الاجتماعية و السياسية بعاطفة هادئة بالمقارنة مع السيطرة العاطفية السائدة في المشرق بشكل عام ، و لكن زيارة معلولا قد ساعدت عواطفهم على كسر حاجز كان من الثوابت عندهم و هو التحفظ عن الافصاح علانية عما يشعرون به و التريث في أخذ موقف عاطفي حاد و فج ، فتجاوزوا المسيحيون السوريون فطريتهم هذه المرة و دخلوا إلى العفوية من بابها العريض لدرجة أن ربة منزل متحفظة تعيش في اوروبا قد قالت لي بانفعال بعدما شاهدت الريبورتاج عن تلك الزيارة على الفضائية السورية : كم وددت لو أستطيع أختراق شاشة التلفزيون كي أقبل رأس رئيسنا . و لكن ما هو الجديد و المميز في تلك الزيارة ؟؟ فمعلولا قد حررت مرتين قبل ذلك ، و الرئيس قد زارها مراراً من قبل ، بل انه قد ارتدى نفس البذلة التي زار بها معلولا أخر مرة ، فلماذا اذاً انطلقت عواطف المسيحيين هذه المرة مخترقة الضوابط لدرجة أن يوم العيد قد انقضى باتصالات تتحدث عن تلك الزيارة و كانت تهنئات العيد تدور حولها ؟! .. الجواب الحقيقي على هذه الأسئلة ليس بذاك التقليدي الذي يقول أن الفرحة كانت بسبب عودة البلدة إلى حضن الوطن و تحرر أديرتها من قبضة التكفيريين ، بل ان الجواب يكمن في جوانب أعمق من ذلك بكثير ، جوانب متعلقة بوجدان المسيحي السوري و متصلة بالدلالات و بالرموز الغزيرة الموجودة في ثقافته و التي منها تخرج الرسائل و التوجيهات الغير مباشرة و التي تقبض في يديها على مفاتيح العواطف و تقود ردود الأفعال . يتميز احتفال المسيحيون بعيد القيامة دوناً عن غيره من المناسبات باستخدامهم للكثير من الرموز الدينية و الجمالية مثل كعك العيد و البيض الملون و أرانب الشوكولا و الزينة التي على شكل عصافير صغيرة . و كل من هذه الرموز له تاريخه و رسائله المعروفة ، و لكن هذه الرسائل قد تمايزت مع عيد القيامة الأخير فبالإضافة إلى الأزمة السورية التي وضعت الشعب السوري في واحدة من أسوأ نكبات العصر الحديث فقد تعرض المجتمع المسيحي قبل العيد لأكثر من حادث مؤلم ضغط على عواطفه بشكل لم يحدث منذ بداية الأزمة في سورية لذلك جاءت رموز الفصح هذه السنة برسائل اضافية لها نكهة مختلفة و مضمون مؤلم . أنا شخصياً من محبي رمز العصافير في عيد القيامة لأنها وديعة و رسائلها صادقة و دقيقة ، فهي تسمو عن المنخفضات و تحلق عالياً فترى من فوق ماهو أوسع مما نراه و نحن على الأرض غائصين في تفاصيلها المتشعبة و غارقين في أحداثها الصغيرة . فباتت العصافير مدركة لما هو أشمل مما نظن أننا نلم به من ألفه إلى يائه ، كما أنها تنبس بالأخبار المستورة و تفسر الحالات الغامضة هامسة بما رأت لمن تأمن له و يعرف لغتها ... أشكر الرب لأنني من محبي الطيور و أستطيع أن أفك الكثير من طلاسم هديلهم و زقزقتهم فأقع بين الحين و الأخر على أجوبة منهم تفك لي بعض الغموض الذي يعشعش في أحداث و دروب الأزمة السورية .   قبيل الاحتفال بعيد الشعانين الذي يسبق أحد القيامة باسبوع حط على نافذتي عصفور سوري صغير و كان يلهث من كثرة الطيران و التحليق فوق مدينة حمص ، و بعدما هدئ روعه و ارتشف قطرتي ماء انطلق منقاره بالزقزقة مخبراً عما كان قد رآه من آخر الأحداث التي ضربت المسيحيين السوريين في عمق عاطفتهم و ابتدأ بما حصل في حمص القديمة : قال الطائر أنه رأى أن قسماً كبيراً من مقاتلي حمص القديمة قد أسقط في يده و سأم من القتال ضد الجيش السوري و لم يعد يرى في حمل السلاح فائدة ترجى . و لكن كان هناك في المقابل قسماً أخر أقل عدداً من الأول و لكنه أشد خطراُ منه و أكثر استخفافا بالحياة و ادماناً على المخدرات و عناصره أكبر بالسن نسبيا من عناصر القسم الأول . و كان لهذا القسم الأخير اتصالات شبه يومية بمملكة عربية صحراوية و كان يتلقى منها أوامر تقول له بأن يشد من عضد المقاتلين الأخرين كي يستمروا بالقتال و كي تستمر ورقة حمص القديمة مفتوحة كوسيلة ضغط على الدولة السورية و عليه فيجب ابقاء خطوط التماس ساخنة دائماً للقضاء على أي فتور يصيب القسم الأول . فكانت قذائف الهاون لا تتوقف و السيارات المفخخة تعمل بجهد للنفاذ إلى الأحياء الموالية . و لكن كثرة الاصابات و القتلى في صفوف مقاتلي حمص القديمة بالاضافة إلى الحصار العسكري و إلى دردشات التهدئة التي كانت تتوجه لهم عبر اللاسلكي من قبل عناصر الجيش السوري و الدفاع الوطني كل هذه العوامل قد دفعت بالقسم الأول لأن يحسم قراره باتجاه الهدنة مع الدولة السورية . و ليتم ذلك كان لا بد من ايجاد وسيط موثوق من الطرفين كي تتم التهدئة من خلاله فوقع اختيار المقاتلين على الأب العجوز فرانس اليسوعي ذو الأصول الهولندية الذي فضل البقاء داخل حمص القديمة رغم كل المخاطر و لم يترك ديره الذي يرعاه منذ عقود مضت . عمل القسم المتشدد على وضع العصي في الدواليب و قام بتهديد الأب فرانس و أخذ يمارس بطشه يمنة و يسرى بناء على أوامر ضابط الارتباط في المملكة الصحراوية و لكن عملية التسوية لم تتوقف فشباب حمص القديمة قد فقدوا الكثير من رفاقهم و من اخوتهم على خطوط التماس و من بقي منهم معافى قد سأم من فساد و سطوة المتشددين الذين قرروا زيادة التصعيد فاجتمعوا و حشدوا سياراتهم ليحشوها بالمتفجرات في نية منهم لايقاع أكبر عدد من المدنيين في ضربة واحدة كي يجن جنون الجيش السوري فينهال على حمص القديمة و تموت أي هدنة في مهدها... لكنهم فوجؤا بضربة استخباراتية استباقية بصاروخ موجه من الجيش السوري جاءهم إلى عقر اجتماعهم لتسقط مجموعة من قاداتهم بضربة واحدة فما كان من الجماعة إلا أن لجأت إلى خطوة بديلة يحركها اليأس و الغضب فقاموا باغتيال وسيط السلام الأب فرانس . و هنا توقف العصفور عن الكلام و سقطت على منقاره دمعتان ثقيلتان فقلت له مواسيا :هدئ من روعك يا صديقي فأن روح الأب فرانس هي راضية الأن لأنه عمل ما وسعه لاحلال السلام في حياته و أظن بأن مماته سيلعب دوراً أيضا في عودة السلام لسورية التي أحبها ، فالتلفزيون الهولندي على سبيل المثال قد اهتم بمقتل مواطنه في سورية و عرض برنامجاً مفصلاً عنه ، بل أنه أتى بشاهد سوري معارض قد عرف الأب فرانس عن قرب و قال على الملآ بأن المغدور كان رسول سلام بامتياز و بأن رؤيته كانت إلى جانب النظام و الدولة السورية . و هنا تنهد الطائر و قال ان دموعه الأخيرة تسيل لأجل ألم أخر أعمق و أمضى ، ألم تاريخي و حضاري كان قد عاشه و هو محلقاً في سماء معلولا : قال بأنه قد شاهد تاريخاً ينبع للبشرية و هو يُهان و يُفترس ، فرأى كتل متفرقة من مقاتلين سوريين و غرباء تنتشر في معلولا و تتوارى بين صخور الجبال و في عتمة المغاور. رأى شباب جلهم من الغرباء و هم يمرغون بجهلهم واحدة من أقدم الآثار المسيحية في العالم ، فالصلبان قد حطموها و الايقونات الأثرية و الثمينة قد نهبوها ، أما الايقونات الجدارية العتيقة التي لا يمكنهم اقتلاعها فقد طمسوها بدهانات رخيصة . و الهياكل المقدسة لدى المسيحيين و التي يقارب عمر بعضها من الألف و خمسمائة سنة قد خربوها و أحاطوها بالنفايات ، و في بعض الأماكن وصل بهم الأمر إلى اقتلاع الحجارة الأثرية كما اقتلعوا الحياة ذبحاً من أسراهم من شباب معلولا المسيحيين الذين وقعوا في أيديهم ... قال هذا ثم صمت و نظر إلي بطريقة يحثنني فيها على البكاء و الندب فقلت له لا يا صديقي العزيز أنا لن أبكي معك فالآثار هي ذكرى للانسان أما التاريخ فهو الانسان نفسه و هو الرجاء و هو القيامة ، و كل ألم له جانب أخر مختلف و مرمز وعلينا قراءته و التعلم منه ، فمن عشش في مغاور معلولا و اغتال مراسلي قناة المنار الذين كانوا في طريقهم لتوثيق مافعلته المرتزقة قد مزج بجريمته دم المراسلين مع دم أطفال مدرسة المنار الذين سقطوا في اليوم التالي بقذائف زملائه . أما بخصوص المجتمع المسيحي فأن ايمانه قائم على الرجاء الذي يعني الثقة بالله الذي مد يده من وسط الآلم و البؤس و نشل أبنائه من رذالات هذا العالم و في هذا الايمان المسيحي تتوضع القوة الرمزية لزيارة الرئيس بشار الأسد إلى بلدة معلولا . فهو قد ذهب إلى بلدة محررة لكنها تقع في منطقة حرب و هي مليئة بالجيوب و محاطة بالجبال و المغاور لكن الرئيس الشاب طبيب العيون قد فعلها و ذهب إلى هناك و انحنى و انتشل أيقونات المسيحيين التي كانت مرمية على الأرض بين القمامة فجاءت زيارته كضربة معلم شجاع أعطى رمزية قوية تحمل رسالة لفئة مؤمنة من أبناء سورية و لها رجاء في قلبها ، رسالة تقول لا تخافوا فالجيش السوري هنا و أنتم و تاريخكم هنا و أنا معكم هنا . بصراحة أنا لم أستطع أن أخمن هل كانت تلك الزيارة حركة عفوية من الرئيس السوري أم جاءت كنتاج لثقافته العالية أم هي دراسة ذكية من مستشاري القصر الرئاسي . لكن معرفة الدافع لم تعد تشكل أي فرق هنا فالقوة الرمزية التي امتلكتها الزيارة قد غطت عليه و الرسالة التي جاءت من معلولا كانت ساطعة جداً لتطغي على باقي التفاصيل ، رسالة تحمل جملة واحدة تقول "ان الرئيس السوري هو زعيم شجاع و يستحق الاحترام" . احترام يستحق أن يُطبع على الورق و يُسقط  في صندوق الألم ، صندوق الرجاء ، صندوق سورية .

المصدر : عادل أسعد


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة