ترتكز الإمبراطورية الأنغلوسكسونية منذ قرن من الزمن على الدعاية التي تمكنت من إقناعنا أن الولايات المتحدة هي «بلد الحريات» وأنها لا تشن حرباً خارج إطار الدفاع عن مثلها العليا.

 غير أن الأزمة الحالية في أوكرانيا غيرت قواعد اللعبة: لم تعد واشنطن وحلفاؤها المتكلمين الوحيدين في العالم، وأصبحت أكاذيبهم مجال اعتراض علني من حكومة ووسائل إعلام دولة كبرى بحجم روسيا. وفي الواقع فإن آلة الدعاية الأنغلوسكسونية لم تعد تعمل في عصر الأقمار الصناعية والإنترنت.

بعد زوال الاتحاد السوفييتي أهملت الولايات المتحدة الدعاية وفضلت عليها العلاقات العامة، التي لم تعد تعتمد على الكذب، بل على توجيه الصحفيين إلى حيث لا يرون إلا ما يتم عرضه عليهم.

استنجد حلف «ناتو» طوال حرب كوسوفو بمستشار رئيس وزراء بريطانيا، ألستير كامبل، كي يروي للصحفيين كل يوم قصة مؤثرة من هذه الحرب. وبينما كان الصحفيون ينسخون الحكاية على أوراقهم، كان بوسع قوات الحلف أن تقصف أهدافها «من دون إزعاج».

عاد السرد القصصي بقوة إلى الواجهة مع أحداث 11 أيلول: كان الهدف منه شد انتباه الجمهور نحو هجمات نيويورك وواشنطن بغية صرف أنظارهم عن الانقلاب العسكري الذي تم تنفيذه في اليوم نفسه: تم نقل كل السلطات التنفيذية من الرئيس بوش إلى كيان عسكري سري، إضافة إلى وضع كل أعضاء مجلس النواب تحت الإقامة الجبرية.

أنشأ البيت الأبيض خلال السنوات اللاحقة بالاشتراك مع حلفائه الرئيسيين (المملكة المتحدة، كندا، استراليا، وإسرائيل بطبيعة الحال) منظومة تضليل تسمح لإدارة بوش بتوجيه تعليمات للحكومات الأربع كل يوم تتعلق بتبرير الحرب على العراق أو تشويه سمعة إيران.

أثناء قصف العاصمة الليبية عام 2011، تمكن حلف «ناتو» على حين غرة من إقناع الليبيين بأنهم خسروا الحرب، وأنه لا جدوى من استمرارهم بالمقاومة. في حين أخفق الحلف عام 2012 بتكرار نفس النموذج عبر إقناع السوريين أن حكومتهم سوف تسقط لا محالة. لقد أخفق هذا التكتيك لأن السوريين أخذوا علما بالتلاعب الذي قامت به محطات تلفزة دولية في ليبيا، وقد استعدوا لهذا الأمر. كان من نتائج هذا الإخفاق، نهاية هيمنة القنوات الفضائية الإخبارية العالمية.

الأزمة الحالية بين واشنطن وموسكو بخصوص أوكرانيا، أجبرت إدارة أوباما على مراجعة نظامها.

في الواقع، لم تعد واشنطن بعد الآن تنفرد وحدها بالكلام، كما صار لزاما عليها أن ترد على الحكومة الروسية، وأن تكذب وسائل إعلامها التي أصبحت بمتناول الجميع عبر الأقمار الصناعية أو الإنترنت. ما حدا بوزير الخارجية جون كيري إلى تعيين مساعد جديد له لشؤون الدعاية «البروباغندا»، متمثلا بشخص ريتشارد ستنغل، رئيس تحرير مجلة تايم ماغازين الأسبق. وقد استلم مهامه حتى قبل أن يؤدي اليمين في 15 نيسان، حين أخذ يرسل، اعتباراً من 5 آذار الماضي، إلى وسائل الإعلام الأطلسية الرئيسية «جذاذات وثائقية» تشمل «10 حقائق مضادة» يمكن أن يعلن عنها الرئيس فلاديمير بوتين بخصوص أوكرانيا. وقد أعاد الكرة بتاريخ 13 نيسان الجاري، وأرسل لهم «حقائق مضادة» جديدة.

لم تتمكن بروباغندا واشنطن من إقناع الجماهير أكثر من بضعة أسابيع، ثم ساهمت في تحريضهم على الثورة حين تبين أنها تتضمن تلاعبا. ودون قصد منها قوضت تلك الدعاية مصداقية كل مؤسسات دول حلف ناتو، كما مهدت لنشوب ثورات في المستقبل.

لقد نسيت الولايات المتحدة أن الدعاية التي كانت تمارسها خلال القرن العشرين لم تكن لتنجح لولا أن العالم كان منقسما إلى كتلتين لا تتواصلان بينهما، وأن مبدأها لم يعد متوافقا مع وسائل الاتصالات الجديدة الحالية.

على الرغم من أن الأزمة الأوكرانية لم تنته بعد، إلا أنها أحدثت تغيراً عميقاً في العالم: من خلال معاكساته العلنية لرئيس الولايات المتحدة، قطع الرئيس فلاديمير بوتين خطوة من شأنها أن تمنع نجاح أي دعاية أميركية في المستقبل.

  • فريق ماسة
  • 2014-04-20
  • 10453
  • من الأرشيف

نهاية الدعاية الأميركية

ترتكز الإمبراطورية الأنغلوسكسونية منذ قرن من الزمن على الدعاية التي تمكنت من إقناعنا أن الولايات المتحدة هي «بلد الحريات» وأنها لا تشن حرباً خارج إطار الدفاع عن مثلها العليا.  غير أن الأزمة الحالية في أوكرانيا غيرت قواعد اللعبة: لم تعد واشنطن وحلفاؤها المتكلمين الوحيدين في العالم، وأصبحت أكاذيبهم مجال اعتراض علني من حكومة ووسائل إعلام دولة كبرى بحجم روسيا. وفي الواقع فإن آلة الدعاية الأنغلوسكسونية لم تعد تعمل في عصر الأقمار الصناعية والإنترنت. بعد زوال الاتحاد السوفييتي أهملت الولايات المتحدة الدعاية وفضلت عليها العلاقات العامة، التي لم تعد تعتمد على الكذب، بل على توجيه الصحفيين إلى حيث لا يرون إلا ما يتم عرضه عليهم. استنجد حلف «ناتو» طوال حرب كوسوفو بمستشار رئيس وزراء بريطانيا، ألستير كامبل، كي يروي للصحفيين كل يوم قصة مؤثرة من هذه الحرب. وبينما كان الصحفيون ينسخون الحكاية على أوراقهم، كان بوسع قوات الحلف أن تقصف أهدافها «من دون إزعاج». عاد السرد القصصي بقوة إلى الواجهة مع أحداث 11 أيلول: كان الهدف منه شد انتباه الجمهور نحو هجمات نيويورك وواشنطن بغية صرف أنظارهم عن الانقلاب العسكري الذي تم تنفيذه في اليوم نفسه: تم نقل كل السلطات التنفيذية من الرئيس بوش إلى كيان عسكري سري، إضافة إلى وضع كل أعضاء مجلس النواب تحت الإقامة الجبرية. أنشأ البيت الأبيض خلال السنوات اللاحقة بالاشتراك مع حلفائه الرئيسيين (المملكة المتحدة، كندا، استراليا، وإسرائيل بطبيعة الحال) منظومة تضليل تسمح لإدارة بوش بتوجيه تعليمات للحكومات الأربع كل يوم تتعلق بتبرير الحرب على العراق أو تشويه سمعة إيران. أثناء قصف العاصمة الليبية عام 2011، تمكن حلف «ناتو» على حين غرة من إقناع الليبيين بأنهم خسروا الحرب، وأنه لا جدوى من استمرارهم بالمقاومة. في حين أخفق الحلف عام 2012 بتكرار نفس النموذج عبر إقناع السوريين أن حكومتهم سوف تسقط لا محالة. لقد أخفق هذا التكتيك لأن السوريين أخذوا علما بالتلاعب الذي قامت به محطات تلفزة دولية في ليبيا، وقد استعدوا لهذا الأمر. كان من نتائج هذا الإخفاق، نهاية هيمنة القنوات الفضائية الإخبارية العالمية. الأزمة الحالية بين واشنطن وموسكو بخصوص أوكرانيا، أجبرت إدارة أوباما على مراجعة نظامها. في الواقع، لم تعد واشنطن بعد الآن تنفرد وحدها بالكلام، كما صار لزاما عليها أن ترد على الحكومة الروسية، وأن تكذب وسائل إعلامها التي أصبحت بمتناول الجميع عبر الأقمار الصناعية أو الإنترنت. ما حدا بوزير الخارجية جون كيري إلى تعيين مساعد جديد له لشؤون الدعاية «البروباغندا»، متمثلا بشخص ريتشارد ستنغل، رئيس تحرير مجلة تايم ماغازين الأسبق. وقد استلم مهامه حتى قبل أن يؤدي اليمين في 15 نيسان، حين أخذ يرسل، اعتباراً من 5 آذار الماضي، إلى وسائل الإعلام الأطلسية الرئيسية «جذاذات وثائقية» تشمل «10 حقائق مضادة» يمكن أن يعلن عنها الرئيس فلاديمير بوتين بخصوص أوكرانيا. وقد أعاد الكرة بتاريخ 13 نيسان الجاري، وأرسل لهم «حقائق مضادة» جديدة. لم تتمكن بروباغندا واشنطن من إقناع الجماهير أكثر من بضعة أسابيع، ثم ساهمت في تحريضهم على الثورة حين تبين أنها تتضمن تلاعبا. ودون قصد منها قوضت تلك الدعاية مصداقية كل مؤسسات دول حلف ناتو، كما مهدت لنشوب ثورات في المستقبل. لقد نسيت الولايات المتحدة أن الدعاية التي كانت تمارسها خلال القرن العشرين لم تكن لتنجح لولا أن العالم كان منقسما إلى كتلتين لا تتواصلان بينهما، وأن مبدأها لم يعد متوافقا مع وسائل الاتصالات الجديدة الحالية. على الرغم من أن الأزمة الأوكرانية لم تنته بعد، إلا أنها أحدثت تغيراً عميقاً في العالم: من خلال معاكساته العلنية لرئيس الولايات المتحدة، قطع الرئيس فلاديمير بوتين خطوة من شأنها أن تمنع نجاح أي دعاية أميركية في المستقبل.

المصدر : تيري ميسان


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة