كثيرة هي التصريحات التي تصدر هذه الايام عن مسؤولين ايرانيين، او من مقربين من طهران، عن حدوث تقارب سعودي ايراني بدأ ينعكس تهدئة على الساحة اللبنانية كخطوة اولى ويمكن ان يتطور الى تسوية اقليمية لقضايا معقدة مثل الازمة السورية، وامن الخليج بشكل عام.

اليوم فاجأنا السيد غضنفر ركن ابادي السفير الايراني في لبنان بتصريح قال فيه ان “انفراجات” في العلاقات بين البلدين حدثت في الاسابيع الاخيرة، ويمكن ان تترك “آثارا ايجابية” على ملفات المنطقة، وقبل اربعة ايام اعرب السيد حسن نصر الله امين عام حزب الله اللبناني في حديث لصحيفة “السفير” اللبنانية انه يؤيد تقاربا سعوديا ايرانيا ويتوقع حدوثه قريبا، بينما كشفت صحيفة “الاخبار” اللبنانية المقربة من حزب الله ان لقاءات سرية تتم حاليا بين مسؤولين سعوديين وايرانيين، واكد السيد نهاد المشنوق وزير الداخلية اللبنانية ان السفير السعودي في لبنان سيعود الى بيروت قريبا في اشارة الى تحسن مضطرد في الاجواء الامنية اثر تفاهم سعودي ايراني.

اللافت ان جميع هذه التسريبات تتم من طرف واحد فقط، اي الطرف الايراني او المقربين منه، بينما يلتزم الجانب السعودي الصمت المطبق، لكن ما يعزز حدوث انفراج ولو جزئي في العلاقات، الهدنتان، السياسية والاعلامية، بين الطرفين، فلم نعد نسمع تصريحات عدائية تجاه ايران من قبل المسؤولين السعوديين، ولم نعد نقرأ مقالات نارية في الصحف السعودية ضد ايران مثلما كان الحال عليه قبل عام او ستة اشهر.

المملكة العربية السعودية بنت استراتيجيتها على اساس ان ايران باتت تشكل خطرا وجوديا عليها يجب مواجهته بالقوة، ومن خلال تحالف دولي بقيادة الولايات المتحدة الامريكية، وعبر العاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز بفطرته البدوية عن هذا الخطر بمطالبته الادارة الامريكية بقطع رأس الافعى الايراني كشرط لضمان ان الخليج مثلما جاء في وثائق ويكيليكس، واستثمرت السعودية اكثر من 130 مليار دولار في شراء صفقات اسلحة امريكية واوروبية حديثة على اعتبار ان الحرب ضد ايران حتمية.

الاتفاق النووي الامريكي الايراني الذي جرى التفاوض سرا لانجازه في سلطنة عمان واستغرق الامر ستة اشهر اصاب القيادة السعودية بصدمة لم تفق منها حتى الآن، ليس لان هذا الاتفاق تم من وراء ظهرها فقط، وانما لان الحليف الاستراتيجي الامريكي خذلها وطعنها في الظهر.

الايرانيون يدركون جيدا ان السعودية لاعب اقليمي لا يمكن تجاهله او القفز فوقه، مثلما لا يمكن محاربته، لما يمكن ان يترتب على ذلك من خسائر ضخمة، ولهذا ظلوا يطرقون ابواب الرياض سعيا للتقارب معها، ولكن هذا الطرق لم يلق تجاوبا طوال الاشهر السابقة.

***

ما الذي تغير الآن، بحيث بات الحديث عن الانفراج يتردد بقوة هذه الايام، ولا يصدر اي نفي له من قبل السلطات السعودية؟ للاجابة على هذا السؤال يمكن ايراد عدة نقاط:

*اولا: يتردد في الاوساط الغربية ان الرئيس الامريكي باراك اوباما نصح القيادة السعودية اثناء زيارته الاخيرة (الشهر الماضي) الى الرياض بالانفتاح على ايران، وفتح حوار معها، لانها باتت تتغير بسرعة، ولدعم التيار المعتدل الذي يقوده الرئيس الايراني حسن روحاني الذي اعرب اكثر من مرة عن رغبته في زيارة السعودية، مثلما اكد، اي الرئيس اوباما ان امريكا لن تلجأ لاي خيار عسكري ضد ايران.

ثانيا: بات في حكم المؤكد ان الحرب التي تخوضها البلدان ضد بعضهما البعض على الارض السورية ستطول ولا يمكن حسمها بسرعة من قبل اي طرف من الاطراف بالوسائل العسكرية، والتفاهم السعودي الايراني هو المخرج الوحيد والمشرف لهما.

*ثالثا: التقاء البلدين على ارضية العداء للجماعات الاسلامية المتشددة باعتبارها خطرا يهددها، ولهذا سارعت السلطات السعودية بتجريم قتال مواطنيها في سورية، ووضع لائحة بالارهاب تضم حوالي ثماني منظمات وجماعات اسلامية من بينها حركة الاخوان المسلمين الى جانب كل من جبهة النصرة والدول الاسلامية وحركة الحوثيين في اليمن، وهي لائحة لم تضم “حزب الله” اللبناني المقرب من ايران في لفتة تصالحية.

*رابعا: انفتاح تركيا السياسي والاقتصادي المتنامي على ايران، وزيارة رجب طيب اردوغان ووزير خارجيته احمد داوود اوغلو لطهران، ومحاولة دولة قطر المتهمة سعوديا بالخروج عن السرب الخليجي السير على النهج نفسه وترميم علاقاتها مع القيادة الايرانية كمظلة حماية في مواجهة التهديدات السعودية الاماراتية المصرية لها بسبب دعمها لحركة الاخوان المسلمين، وهي المحاولة التي لم تحقق اغراضها، كليا او جزئيا، لان ايران تنتظر التقارب مع السعودية، ولا تريد ان تكون طرفا في المحاور الخليجية المتصارعة.

*خامسا: خروج الامير بندر بن سلطان قائد الاستخبارات السعودية من دائرة صنع القرار في المملكة، فالامير بندر كان يتزعم معسكر الصقور ضد ايران ومن اكثر قارعي طبول الحرب ضدها، وضد حلفائها في سورية ولبنان (حزب الله) بعد ان تبين فشل رهاناته على الخيار العسكري الامريكي.

***

العاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز كان من دعاة التقارب مع ايران، واقام علاقات وثيقة مع السيد هاشمي رفسنجاني الرئيس السابق ورئيس مجلس تشخيص النظام، واحد قادة التيار الايراني الاصلاحي المعتدل، واثار دهشة الكثيرين عندما وضع الرئيس الايراني السابق محمود احمدي نجاد الى يمينه اثناء استقباله لقادة الدول الاسلامية المشاركين في قمة مكة الاسلامية، بينما احتل الرئيس المصري المنتخب محمد مرسي الصفوف الخلفية في لفتة مقصودة فهمنا معناها لاحقا عندما كان العاهل السعودي اول المهنئين للفريق اول عبد الفتاح السيسي قائد الانقلاب العسكري الذي اطاح بالرئيس الاخواني.

الرئيس الايراني روحاني اختار العاصمة العمانية مسقط لكي تكون اول عاصمة عالمية او اسلامية يزورها زيارة رسمية بعد فوزه في انتخابات الرئاسة بعد ان رفضت الرياض التجاوب مع رغبته بزيارتها، ولكننا لا نستبعد ان نراه قريبا في السعودية كضيف رسمي، او من بوابة الحج او العمرة كبداية للانفراج في العلاقات.

الجميع في المنطقة، مع استثناءات محدودة، يؤيد الحل السياسي للازمة السورية ويستبعد الخيار العسكري، ومفتاح هذا الحل في الجيبين السعودي والايراني، فسورية هي التي صعدت العداء بين البلدين وهي الكفيلة بتحقيق التقارب بينهما.

  • فريق ماسة
  • 2014-04-10
  • 9545
  • من الأرشيف

التقارب السعودي الايراني هل بدأ فعلا ؟.. وما هي انعكاساته على سورية؟/ عبد الباري عطوان

كثيرة هي التصريحات التي تصدر هذه الايام عن مسؤولين ايرانيين، او من مقربين من طهران، عن حدوث تقارب سعودي ايراني بدأ ينعكس تهدئة على الساحة اللبنانية كخطوة اولى ويمكن ان يتطور الى تسوية اقليمية لقضايا معقدة مثل الازمة السورية، وامن الخليج بشكل عام. اليوم فاجأنا السيد غضنفر ركن ابادي السفير الايراني في لبنان بتصريح قال فيه ان “انفراجات” في العلاقات بين البلدين حدثت في الاسابيع الاخيرة، ويمكن ان تترك “آثارا ايجابية” على ملفات المنطقة، وقبل اربعة ايام اعرب السيد حسن نصر الله امين عام حزب الله اللبناني في حديث لصحيفة “السفير” اللبنانية انه يؤيد تقاربا سعوديا ايرانيا ويتوقع حدوثه قريبا، بينما كشفت صحيفة “الاخبار” اللبنانية المقربة من حزب الله ان لقاءات سرية تتم حاليا بين مسؤولين سعوديين وايرانيين، واكد السيد نهاد المشنوق وزير الداخلية اللبنانية ان السفير السعودي في لبنان سيعود الى بيروت قريبا في اشارة الى تحسن مضطرد في الاجواء الامنية اثر تفاهم سعودي ايراني. اللافت ان جميع هذه التسريبات تتم من طرف واحد فقط، اي الطرف الايراني او المقربين منه، بينما يلتزم الجانب السعودي الصمت المطبق، لكن ما يعزز حدوث انفراج ولو جزئي في العلاقات، الهدنتان، السياسية والاعلامية، بين الطرفين، فلم نعد نسمع تصريحات عدائية تجاه ايران من قبل المسؤولين السعوديين، ولم نعد نقرأ مقالات نارية في الصحف السعودية ضد ايران مثلما كان الحال عليه قبل عام او ستة اشهر. المملكة العربية السعودية بنت استراتيجيتها على اساس ان ايران باتت تشكل خطرا وجوديا عليها يجب مواجهته بالقوة، ومن خلال تحالف دولي بقيادة الولايات المتحدة الامريكية، وعبر العاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز بفطرته البدوية عن هذا الخطر بمطالبته الادارة الامريكية بقطع رأس الافعى الايراني كشرط لضمان ان الخليج مثلما جاء في وثائق ويكيليكس، واستثمرت السعودية اكثر من 130 مليار دولار في شراء صفقات اسلحة امريكية واوروبية حديثة على اعتبار ان الحرب ضد ايران حتمية. الاتفاق النووي الامريكي الايراني الذي جرى التفاوض سرا لانجازه في سلطنة عمان واستغرق الامر ستة اشهر اصاب القيادة السعودية بصدمة لم تفق منها حتى الآن، ليس لان هذا الاتفاق تم من وراء ظهرها فقط، وانما لان الحليف الاستراتيجي الامريكي خذلها وطعنها في الظهر. الايرانيون يدركون جيدا ان السعودية لاعب اقليمي لا يمكن تجاهله او القفز فوقه، مثلما لا يمكن محاربته، لما يمكن ان يترتب على ذلك من خسائر ضخمة، ولهذا ظلوا يطرقون ابواب الرياض سعيا للتقارب معها، ولكن هذا الطرق لم يلق تجاوبا طوال الاشهر السابقة. *** ما الذي تغير الآن، بحيث بات الحديث عن الانفراج يتردد بقوة هذه الايام، ولا يصدر اي نفي له من قبل السلطات السعودية؟ للاجابة على هذا السؤال يمكن ايراد عدة نقاط: *اولا: يتردد في الاوساط الغربية ان الرئيس الامريكي باراك اوباما نصح القيادة السعودية اثناء زيارته الاخيرة (الشهر الماضي) الى الرياض بالانفتاح على ايران، وفتح حوار معها، لانها باتت تتغير بسرعة، ولدعم التيار المعتدل الذي يقوده الرئيس الايراني حسن روحاني الذي اعرب اكثر من مرة عن رغبته في زيارة السعودية، مثلما اكد، اي الرئيس اوباما ان امريكا لن تلجأ لاي خيار عسكري ضد ايران. ثانيا: بات في حكم المؤكد ان الحرب التي تخوضها البلدان ضد بعضهما البعض على الارض السورية ستطول ولا يمكن حسمها بسرعة من قبل اي طرف من الاطراف بالوسائل العسكرية، والتفاهم السعودي الايراني هو المخرج الوحيد والمشرف لهما. *ثالثا: التقاء البلدين على ارضية العداء للجماعات الاسلامية المتشددة باعتبارها خطرا يهددها، ولهذا سارعت السلطات السعودية بتجريم قتال مواطنيها في سورية، ووضع لائحة بالارهاب تضم حوالي ثماني منظمات وجماعات اسلامية من بينها حركة الاخوان المسلمين الى جانب كل من جبهة النصرة والدول الاسلامية وحركة الحوثيين في اليمن، وهي لائحة لم تضم “حزب الله” اللبناني المقرب من ايران في لفتة تصالحية. *رابعا: انفتاح تركيا السياسي والاقتصادي المتنامي على ايران، وزيارة رجب طيب اردوغان ووزير خارجيته احمد داوود اوغلو لطهران، ومحاولة دولة قطر المتهمة سعوديا بالخروج عن السرب الخليجي السير على النهج نفسه وترميم علاقاتها مع القيادة الايرانية كمظلة حماية في مواجهة التهديدات السعودية الاماراتية المصرية لها بسبب دعمها لحركة الاخوان المسلمين، وهي المحاولة التي لم تحقق اغراضها، كليا او جزئيا، لان ايران تنتظر التقارب مع السعودية، ولا تريد ان تكون طرفا في المحاور الخليجية المتصارعة. *خامسا: خروج الامير بندر بن سلطان قائد الاستخبارات السعودية من دائرة صنع القرار في المملكة، فالامير بندر كان يتزعم معسكر الصقور ضد ايران ومن اكثر قارعي طبول الحرب ضدها، وضد حلفائها في سورية ولبنان (حزب الله) بعد ان تبين فشل رهاناته على الخيار العسكري الامريكي. *** العاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز كان من دعاة التقارب مع ايران، واقام علاقات وثيقة مع السيد هاشمي رفسنجاني الرئيس السابق ورئيس مجلس تشخيص النظام، واحد قادة التيار الايراني الاصلاحي المعتدل، واثار دهشة الكثيرين عندما وضع الرئيس الايراني السابق محمود احمدي نجاد الى يمينه اثناء استقباله لقادة الدول الاسلامية المشاركين في قمة مكة الاسلامية، بينما احتل الرئيس المصري المنتخب محمد مرسي الصفوف الخلفية في لفتة مقصودة فهمنا معناها لاحقا عندما كان العاهل السعودي اول المهنئين للفريق اول عبد الفتاح السيسي قائد الانقلاب العسكري الذي اطاح بالرئيس الاخواني. الرئيس الايراني روحاني اختار العاصمة العمانية مسقط لكي تكون اول عاصمة عالمية او اسلامية يزورها زيارة رسمية بعد فوزه في انتخابات الرئاسة بعد ان رفضت الرياض التجاوب مع رغبته بزيارتها، ولكننا لا نستبعد ان نراه قريبا في السعودية كضيف رسمي، او من بوابة الحج او العمرة كبداية للانفراج في العلاقات. الجميع في المنطقة، مع استثناءات محدودة، يؤيد الحل السياسي للازمة السورية ويستبعد الخيار العسكري، ومفتاح هذا الحل في الجيبين السعودي والايراني، فسورية هي التي صعدت العداء بين البلدين وهي الكفيلة بتحقيق التقارب بينهما.

المصدر : الراي اليوم/ عبد الباري عطوان


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة