دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
لم تتراخ أميركا يوماً منذ انطلاقها بقيادة العدوان على سورية، في ابتداع الخطط ووضع الاستراتيجيات المتعاقبة من أجل تحقيق أهداف هذا العدوان ولم تترك وسيلة أو سبيلا أو خطة يمكن الوصول اليها إلا وقاربتها خدمة لهذا المشروع العدواني،
وكانت في كل مرة تقف على فشلها في خطة تلجأ الى الخطة البديلة حتى كان شهر شباط الماضي، حيث انفجرت الألغام الاميركية التي زرعت في جنيف لسورية، انفجرت بصاحبها وبدا الموقف السوري متماسكاً ثابتاً قوياً تدعمه قوة في الميدان تحقق الانجازات المتتالية مقابل انهيارات متسارعة تلحق بالعصابات الإرهابية بعناوينها المختلفة المعتدل والمتطرف حسب التصنيف الأميركي، وبفئتيها المعارضة المسلحة والجماعات الإرهابية حسب التصنيف الغربي.
بعد الفشل ذاك واحباط الخطة الاميركية في جنيف طرحت خطة أميركية ميدانية جديدة تقوم على تكثيف تسليح «المعارضة المعتدلة» واتخذ الاردن قاعدة تحشيد وانطلاق لهجوم لا يتوقف قبل الوصول الى دمشق وفك الحصار عن العصابات الإرهابية التي يحاصرها الجيش العربي السوري في الغوطة الشرقية ويؤمن الاتصال مع عصابات القلمون من أجل وضع دمشق بين فكي كماشة، تمهيداً لاسقاطها عسكريا او للابتزاز السياسي في المفاوضات إذا استؤنفت.
وكنا نرى يومها ان هذه الخطة غير قابلة للتنفيذ، وإن نفذت فستكون غير قابلة للنجاح، وبالفعل مرت اسابيع عدة ولم ينفذ الهجوم المهدد به، واقتصر التحرك هناك على اندفاعة لبضع مئات من المسلحين باتجاه درعا والسجن المركزي فيها، مستفيدين من دعم ناري إسرائيلي جواً وبراً، بشكل يؤكد وحدة الموقف والارتباط العضوي والبنيوي لإسرائيل بجبهة العدوان، لكن سورية وحلفاءها عرفوا كيف يتعاملون مع الموقف وكان لهم من الردود ما حمل الرســـائل القاطعـــة
التي تؤكد جهوزيتهم لمواجهة إسرائيل فوق ما تتوقع، ومع الفعل وردة الفعل طويت او سحبت ورقة جبهة الجنوب من التداول، واستعاض المخطط عنها بجبهة الشمال مستعملاً تركيا-أردوغان بدلاً من إسرائيل، ومتخذاً «جبهة النصرة» الممولة قطرياً أساسا لتكون الاداة التنفيذية مع إشراك وحدات من التشكيلات المسلحة الاخرى بما فيها من تموله السعودية من أجل جعل الجبهة «نموذجاً للعمل الميداني المشترك لجميع الفصائل المسلحة « ما يحجب بعض الشيء تناحرها واقتتالها الداخلي.
و كما لعبت إسرائيل الدور المرسوم لها في الجنوب وتلقت الرد المناسب عليه فلجمها، تكرر المشهد في الشمال مع تركيا التي انخرطت في العدوان علانية وبسلاحها الجوي وبمدفعيتها وكانت تتوخى تحقيق أكثر من هدف في ذلك (ذكرناها في مقالات سابقة)، وهنا أيضاً كانت ردة الفعل الدفاعية من قبل سورية وحلفائها ما افهم أردوغان خطورة لعبته ودفعه الى وقف اندفاعته ومشاركة جيشه مباشرة في العدوان، في الوقت الذي برع فيه الجيش العربي السوري والقوات الرديفة بالتعامل مع الخرق الإرهابي في كسب ومحيطها إذ تمكن في ايام قليلة جدا من احتواء الهجوم، ثم تثبيته، ثم الانطلاق الى التعامل المناسب مع العصابات المندفعة عبر الاراضي التركية وتطهير المواقع التي دخلتها تباعاً، ورسم في خطته تلك سقفاً للخرق وسقفاً لمفاعيل الهجوم وآثاره بشكل يقود الى القول بأن سورية احبطت العدوان على جبهة الشمال، وأنها باتت مرتاحة في التعامل معه وفقا لبرنامجها، حيث استعادت المبادرة وتمكنت من ادارة الميدان بما يناسب اهدافها دون أن تكون مضطرة لدفع خسائر اضافية ودون ان تكون محرجة بتوقيت أو مدة محددة للاجهاز النهائي على العصابات المتسللة الى منطقة كسب.
انطلاقا من هذا المشهد الذي رسم على الجبهتين في الجنوب بعملية محدودة استوعبت، وفي الشمال بهجوم ممنهج تم إحباطه، عادت اميركا للحديث عن إعداد وتسليح الجماعات الإرهابية انطلاقا من الاردن في عمل أعلن عنه مباشرة بعد زيارة اوباما للمملكة السعودية التي اعلن ولي العهد فيها ومن على منبر «جامعة الاعراب» في الكويت بأن «المعارضة السورية بحاجة الى السلاح لأن المسألة تستلزم تغييرا ميدانياً في سورية من اجل الوصول الى حل»، ذكر ذلك وفي ذهنه أو أمام ناظريه الحجم الكبير من الانجازات السورية من الشمال الى الجنوب مروراً بالقلمون وريف دمشق، معطوفا على التناحر القائم بين العصابات الإرهابية والذي بلغ عدد القتلى فيه من الطرفين ما يزيد على 8 آلاف مسلح وفقا للتقارير الغربية.
وبعد هذا نعود لطرح الاسئلة ذاتها : هل تنفذ أميركا تهديدها بفتج واسع لجبهة الجنوب مستعملة ما تسميه «معارضة معتدلة» بعد تسليحها انطلاقا من الاردن؟ ثم ما الدوافع المستجدة لتكرار عمل أجهض سابقاً وهو في ساعاته الاولى؟ وأخيراً ما النتائج والتداعيات لهذا الامر إن تم تنفيذه؟
في الاجابة نرى ان اميركا عادت لرفع ورقة تسليح العصابات الإرهابية والفتح الواسع لجبهة الجنوب رغبة منها في ملامسة اكثر من هدف، حيث إنها تريد:
أولاً وقبل كل شيء التغطية على الإخفاق في فتح معركة الشمال وخسارة العدوان لورقة استراتيجية هامة كان يحتفظ بها للأوقات العصيبة الحرجة، ورقة وصفتها الدوائر الغربية بـ «الأهم والأخطر ضد سورية ونظامها»، وهي خسارة دفعتهم الى نوع من الهستيريا ترجمت بهذا الحجم من القذائف العشوائية على دمشق ومحيطها، قذائف قتل اجرامي فقط لا قيمة عسكرية لها مطلقاً.
ثانياً التغطية على تعثر المفاوضات التصفوية للقضية الفلسطينية والتي بلغت حائطاً مسدوداً امام رفض فلسطيني للتنازل عن كل الحقوق الفلسطينية في الارض وحق العودة وحق تقرير المصير، مع إصرار إسرائيلي للحصول على ذلك، وتريد اميركا أن تظهر دوراً إسرائيلياً مركزياً في العدوان على سورية يحجب تعنتها فلسطينيا، ويبقي العلاقات الحميمة القائمة بينها والخليجيين على حالها دونما تأثر بما يجري على الاتجاه الفلسطيني، وجبهة الجنوب تمكن أميركا من تحقيق هذا الغرض عبر الدور الإسرائيلي الفاعل في غرفة العملية المركزية في الاردن أو في ميدان القتال والدعم الناري واللوجستي.
ثالثاً وفي الحديث عن امكانية استئناف جنيف 3 ومع التعثر في تحقيق أي تغيير في الميدان كما يحلم السعودي وسيده الاميركي، فإن اميركا ترى في التلويح بجبهة الجنوب نوعاً من ضغط وتهديد يخفف من حجم الاختلال في الموازين الميدانية القائم لمصلحة الدولة السورية في مواجهة العصابات الإرهابية.
رابعاً، تريد أميركا الاستمرار في السيطرة على الحجم الاوسع من المسلحين وامتلاك زمام المبادرة في تحريكهم ورفع معنوياتهم لمواصلة القتال، وهي ترى أنها بحاجة الى هذ الأمر من اجل متابعة تنفيذ استراتيجيتها في استنزاف الجيش العربي السوري وتدمير ما يمكن تدميره بعد في الساحة السورية خدمة للمشروع الصهيو-أميركي، وهي ترى في التلويح بجبهة الجنوب شحنة معنوية ضرورية للمسلحين بعد هذا الكم الكبير من انهياراتهم.
وأخيراً ترى اميركا أن كمية محدودة من الاسلحة المدفوعة الثمن طبعا من خزائن الخليج (السعودية وقطر) تعود عليها بكسب معنوي ومادي يكون أمراً جيداً ترضي به ادواتها الخليجيين المستميتين في القتال ضد سورية وهم يتوهمون بانهم بهذا ينقذون عروشهم المهتزة.
فإذا كانت هذه هي الدوافع، فهل فتح الجبهة ممكن كما يلوح به، وهل اميركا قادرة على إحداث التغيير الذي تريده هي وادواتها الخليجية من اجل العودة الى التفاوض في شروط وظروف افضل؟
قد يتراءى للبعض أن هذه الجبهة باتت المخرج الوحيد امام اميركا للخروج من دوائر الاخفاق وخاصة بعد أن تم تنفيس الورقة الأخيرة في كسب، وبالتالي وحسب هذا البعض سيكون حتما ولوج اميركا بزخم شديد الى الساحة السورية من البوابة الاردنية بأداة قتالية تسميها معتدلة ممولة بمال سعودي بشكل خاص ومدعومة بنار إسرائيلية ومنظومة قيادة وسيطرة تتحكم بها اميركا وتشارك فيها إسرائيل.
نظرياً الأمر قد يقبله الذهن، لكن في الواقع نجد عوائق ومحاذير تحول دون تنفيذه وفقاً لما يشاء الاميركي والسعودي لاعتبارات عدة في طليعتها عدم ضمان النجاح الميداني مع استعداد سوري عسكري يجري وتعلم به اميركا عبر اقمارها الاصطناعية، وعدم قدرة اميركا على تحمل الخسارة وإجهاض الورقة الاخيرة التي تمتلك التهديد بها، ثم عدم قدرة اميركا وإسرائيل على استيعاب ردة الفعل الدفاعية والتحكم بنطاقها الجغرافي والميداني، ومن جهة اخرى عدم قدرة الاردن على احتمال ردات الفعل على انخراطه في العدوان بشكل علني واضح.
لهذا نعود الى قولنا السابق بأن الحديث عن فتح جبهة الجنوب هو في معظمه تهويل لو كان سيعمل به، لما كان حديث عنه يجهض عنصر المفاجأة، دون أن نستبعد امكانية العمل تحت سقف منخفض لا يقترن بمسؤولية اميركية مباشرة عن النتائج السلبية لعمليات محدودة تعطي لإسرائيل دوراً يثبت وجودها في الجبهة ويخفف من تداعيات تعثر مفاوضاتها التصفوية او التهديد بوقفها. وبالتالي لن تفجر الجبهة بالشكل الذي تلوح به اميركا وتريده السعودية، هذا إذا كان المنطق المصلحي الاميركي هو المسيطر – وعادة ما يكون هكذا - وإلا سيكون حديثاً آخر، إذ انه مع الانتحاري يكون التصرف بعيدا عن المنطق.
المصدر :
الثورة/أمين حطيط
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة