كسبت روسيا الجولة الأولى من المواجهة بعد ضم -أو انضمام- القرم اليها. اختفى فجأة الحديث عن عقوبات اضافية. كل ما يرجوه الغرب أن لا تهدد روسيا الحدود الشرقية لأوكرانيا من خلال الحشود العسكرية التي وصلت - كما يقال - الى مئة ألف جندي. التفاوض يجري على تقرير مصير المناطق الأوكرانية ذات الغالبية الناطقة بالروسية: هل سيتاح لها الإنفصال، أم سيكون هناك نظام فيدرالي، كما تطالب موسكو الآن؟

صحيح ان موسكو ليست لديها اليوم أيديولوجيا عالمية، على غرار الأيديولوجيا الإشتراكية، وصحيح انها لا تقود مجموعة دول على غرار الكتلة الشرقية أيام الاتحاد السوفياتي، لكنها اليوم تعبر بصورة متزايدة عن نفسها وطموحاتها في شكل يهدد بعض خطوط السياسة الاميركية التقليدية.

في خطابه الى البرلمان في ديسمبر/كانون الأول الماضي، حدد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين رؤيته القيادية من منظور شامل بالاشارة الى ان "العديد من الدول تقوم اليوم بمراجعة قيمها الأخلاقية، والى ان هناك المزيد والمزيد من الناس في العالم الذين يؤيدون موقفنا في الدفاع عن القيم التقليدية". تحدث بوتين عن القيم الاجتماعية كمدماك للدول، رافضاً "المساواة بين مفاهيم الخير والشر". هو يدرك أيضاً ان نجم أميركا الآفل يتطلب حجز مكان مسبقاً على الساحة الدولية، ولا يُخفي الإعتقاد بأن هناك العشرات من الدول التي لا ترتاح للمبادئ الغربية والسيطرة الغربية على المؤسسات والمعايير العالمية وتريد بدائل لهذا الوضع. وهذا بالضبط يتلاقى مع شكاوى وتطلعات دول كثيرة في العالم الاسلامي والعربي وأخرى صاعدة مثل الصين والهند. هذه الدول تحتفظ بقيمها التقليدية وبنائها الثقافي الخاص وترفض المثال الغربي المفرط في الليبرالية والذي يقود تدريجياً الى الإنحلال الاجتماعي والتفكك الأسري وتضعضع التماسك الوطني في المجتمعات المتنوعة، كما ترفض العولمة الأميركية التي تتخذ الحريات والموازين في مجلس الأمن والمؤسسات الدولية مطية للقيام بانقلابات ناعمة في العديد من الدول.

 

من هذا المنطلق، صمم بوتين في السنوات الماضية على إعادة الاعتبار للقيم الاجتماعية والوطنية لروسيا مستفيداً من مكامن قوة علمية وتكنولوجية واقتصادية وثقافية خاصة. وانطلق من الداخل في اتجاه الخارج ليركز جهوده على العمل لبناء اتحاد "أوراسي" يستخدم إمكانات روسيا ودول اوروبية وآسيوية لوقف تمدد الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو الى حدود روسيا، بما يشكل خطراً داهماً على بنيتها وأمنها الإقليمي. وترتسم معالم هذا التوجه شيئاً فشيئاً من خلال طبيعة الاتفاقات الطويلة الأجل التي تعقدها روسيا على الصعد الدفاعية والنفطية والنووية مع دول صاعدة مثل الصين والهند.

ومن دون شك، فإن روسيا تشعر حالياً بأن لديها القوة اللازمة الجاهزة لاستخدامها او التلويح بها، في حين ان الغرب لا يسعى للحرب، وهذا يعطي موسكو رجحاناً في قوة الشد والجذب. وبذلك فإن القرم ليست سوى بداية لظهور موسكو دولياً لتمثل تحدياً منهجياً للإتحاد الأوروبي ولمنظمة حلف شمال الأطلسي.

المصالح المشتركة والإفتراقات

لقد أخطأت الادارة الأميركية في فهم الرئيس الروسي ودوافعه، برغم الاستعانة بخبراء لغة الجسد، اضافة الى تقارير الاستخبارات، وقللت باستمرار من تقدير فلاديمير بوتين، عن طريق النظر اليه على انه حالة عابرة او معزولة. وتبعاً لذلك، فشلت أميركا ومعها الغرب الأوروبي في التنبؤ بردة فعل روسيا بشأن العديد من القضايا الإقليمية، ومنها استمرارها بالوقوف الى جانب سوريا أو مضيها بتغيير الوقائع الجغرافية على حدود اوروبا.

ثمة مصالح أميركية أكيدة تشترك مع مصالح روسيا، ومنها منع الانتشار النووي ومكافحة الإرهاب. وفي ضوء استبعاد التصادم العسكري بين الجانبين، تسعى واشنطن الى تفاهم غامض حتى الآن مع موسكو بهدف تجنيب أوروبا خضات تنجم عن ترددات زلزال القرم، وبالتالي الحفاظ على ماء وجه الولايات المتحدة على الصعيد الدولي. وقد فضحت الأزمة الاوكرانية ضعف وركاكة سياسات ادارة اوباما في مواجهة التحديات الاقليمية والدولية.

وسواء ربحت روسيا في أوكرانيا أم خسرت، وهي تربح حتى الآن، فإن مجريات الأحداث في أوكرانيا زرعت المزيد من الشكوك ونصبت متاريس إضافية بين موسكو وواشنطن. وسيستخدم الطرفان مختلف الأوراق المتوافرة لدى كل منهما لإضعاف نفوذ الآخر او للضغط عليه من أجل التوصل الى تفاهم مقبول من الجانبين. ويمثل الشرق الأوسط ساحة رئيسية لكباشهما الذي تصاعد خلال الأزمة السورية معبّراً عن نفسه باستخدام روسيا، ومعها الصين، الفيتو 3 مرات في مجلس الأمن الدولي ضد مشاريع غربية ضد سوريا.

الإنعكاسات على الشرق الاوسط

حتى لو أصيبت سياسة روسيا في اوكرانيا بنكسة، فليس مؤكداً أن ذلك سيُضعف من عزيمة بوتين على تحدي نفوذ الولايات المتحدة في الشرق الاوسط، بل ربما يصبح اكثر تحدياً وعناداً.

هناك ملفات يمكن رصد آثار الكباش الروسي- الأميركي فيها:

1- الملف النووي الايراني: لعل تصريحات نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف الشهر الماضي التي هدَّد فيها "باتخاذ إجراءات انتقامية" محتملة بشأن الملف النووي الإيراني إذا ما ضغطت واشنطن على موسكو بشأن شبه جزيرة القرم، أوضحُ إشارة الى ان أحداث أوكرانيا لن تبقى في مكانها بل ستترك آثاراً على واقع قضايا اقليمية هامة. إنها تشير الى رغبة روسيا في استخدام الأسلحة المتوفرة لديها لدفع واشنطن الى الامتناع عن الاستمرار في تحدي نفوذ موسكو في حديقتها الخلفية. ماذا يمكن ان تفعل روسيا في هذا الشأن، وهل يمكن ان يقود ذلك الى تنازلات اميركية لروسيا او لإيران ؟

يمكن ان يصعّب بوتين على واشنطن مفاوضات الحل النهائي الدولية مع ايران، وهي مرحلة دقيقة وحساسة تعوّل عليها واشنطن لاختراق ايران. وتستطيع موسكو عرقلة أي اتفاق لا يلبي تطلعاتها في تعزيز موقعها في هذه المنطقة او اي اتفاق يعلّي من شأن المصالح الأميركية او تفسره واشنطن على انه انتصار دبلوماسي، كما ان بإمكانها، وهذا ربما الأهم، منع أميركا من العودة مجدداً الى مجلس الأمن لفرض عقوبات اضافية على ايران في حال فشلت المفاوضات. وبذلك لن يكون في يد واشنطن سلاح إضافي تهدد به ايرانَ لإرغامها على تقديم تنازلات. ومن هنا تحتاج واشنطن الى تأييد موسكو وتعاونها. وتجدر الاشارة الى انه بينما كانت الأزمة ناشبة في القرم، كان نيكولاي سباسكي نائب مدير شركة "روساتوم" يزور طهران حيث وقّع مع المسؤولين الايرانيين على اتفاق مبدئي لبناء ما لا يقل عن محطتين جديدتين لتوليد الطاقة النووية في ايران. بل إن إيران وروسيا حققتا تقدماً نحو اتفاق لمبادلة النفط بالسلع قد تصل قيمته إلى 20 مليار دولار سيمكن طهران من زيادة صادراتها من الطاقة، الأمر الذي يعتبره البيت الأبيض مثيراً "لبواعث قلق خطيرة" وسيكون غير منسجم مع المحادثات النووية بين إيران والقوى العالمية، بحسب ما نقلت وكالة رويترز عن مصادر غربية مطلعة. ويمكن - في اطار تكثيف الضغوط الروسية - أن تزود موسكو طهران بنظم دفاع جوي متقدمة لتقوية موقفها ازاء واشنطن وخيارها العسكري المحتمل.

من وجهة نظر واشنطن، قد يكون من الأفضل الاعتراف ببعض المكاسب لإيران، خصوصا لجهة تخصيب اليورانيوم باعتباره أمراً واقعاً، بدلاً من تقديم تنازلات أخرى لروسيا في أوكرانيا وما بعدها. فالكباش في أوروبا أشد تأثيراً على مكانة اميركا بين حلفائها الأوروبيين، مع التذكير دائماً بأن أوروبا كانت مسرحاً للشرارة الأولى لحربين عالمين والساحة َالأساسية للحرب الباردة التي امتدت 45 عاماً. وقد تحولت الأزمة الأوكرانية الساحة الرئيسية حالياً لاختبار نفوذ أميركا وإثبات قدرتها على القيادة، لكنها لا تملك الى الآن خيارات كثيرة.

ومن وجهة نظر ايران، فإن الأزمة بين روسيا والغرب قد تكون فرصة لتعزيز موقعها التفاوضي في الشأن النووي، انطلاقاً من حاجة اميركا الى إنجاز ما في سياساتها الخارجية المليئة بالاخفاقات، ومن حاجتها أيضاً لسد ثغرة يمكن ان تنفذ منها روسيا لتقوية موقفها في الكباش الحاصل في اوروبا. وإضافة الى ذلك، ترى ايران ان الغرب يُظهر حالياً علامات ضعف، ما قد يساعدها في توسيع نطاق المناورة على الصعيد التفاوضي.

وبالإجمال، في حال استمرت او تصاعدت المواجهة الاميركية- الروسية، سيكون من الصعب على اميركا الاعتماد على روسيا لإدانة ايران او تشديد العقوبات او التلويح بالخيار العسكري في حال عدم التوصل الى اتفاق نووي بحلول 20 تموز/ يوليو المقبل موعد انتهاء مفعول الاتفاق المرحلي.

2- الملف السوري: تنظر سوريا الى وثبة روسيا في القرم على أنها تقدمٌ إضافي لحليف استراتيجي يمكن ان يكون لفوزه بهذه الجولة أثر إيجابي على الموقف السوري. وخلال أزمة مماثلة في جورجيا عام 2008، ثمة من راهن على ان موسكو ستفقد بعض اهتمامها بالشرق الأوسط إنْ غضّ الغرب النظر عن ضمها لأبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، لكن هذا الرهان لم يتحقق. بل إن الدبلوماسية الروسية بدت خلال السنوات التالية أكثر ثباتاً ونشاطاً في الشرق الأوسط واستطاعت خلال الأزمة السورية أن تقنع الغرب بصحة موقفها القائل بأن سوريا أضحت ساحة رئيسية من ساحات الإرهاب الدولي العابر للحدود. وبهذا، فإن انتصار روسيا في أزمة أوكرانيا سيبعث برسائل إضافية تثير قلق الحلف المناهض لسوريا.

3- حلفاء اميركا: تنظر اسرائيل بريبة شديدة الى تراجع مكانة الولايات المتحدة في غير ساحة، وهي رأت ما تعنيه تعهدات الولايات المتحدة باستخدام القوة في سوريا، وحتى ضد إيران. واستنتجت أن هذا الكلام لا يعني الكثير. وتعتبر اسرائيل ان أداء اميركا في اوكرانيا دليل على ضعف عزمها على حماية حلفائها والدفاع عنهم. تدرك اسرائيل ان روسيا لا تريد ان تُثقِل عليها، لكن فوز موسكو على واشنطن في القرم يقلق تل ابيب بسبب انعكاساته الايجابية لمصلحة ايران وسوريا.

ومن جهتهم، وصل السعوديون إلى استنتاجات مماثلة. ثقتهم بإدارة أوباما منخفضة جدا، برغم زيارته الأخيرة الى الرياض ومحاولته طمأنة المملكة حيال التعامل مع ملفات رئيسية مثل سوريا وايران. المشكلة ان سقف توقعات السعوديين من اميركا بقي عالياً، بينما يتعذر على واشنطن تحقيق تطلعات الرياض الى شن حملات عسكرية ضد سوريا وايران. الرئيس الاميركي الحالي - كما يقول خصومه في واشنطن- يكره المخاطرة بشدة، ويركز على الشأن الداخلي بشكل أكبر من اهتمامه بالسياسة الخارجية، وهو رئيس ملتزم بمساعدة الطبقة الوسطى أكثر من الشرق الأوسط ومشاكله العويصة.

هذه المعطيات لا تسرّ خاطر حلفاء واشنطن في الشرق الاوسط الذين ينتظرون منها الإقدام والضرب بيد من حديد كي يرتدع خصومهم، في حين تنتظر الادارة الأميركية منهم تفهم أولوياتها والتعامل بمرونة وواقعية مع التحديات من حولهم وخفض سقف تطلعاتهم، الأمر الذي يزيد الفجوة بين واشنطن وحلفائها ويُشعرهم بتعاظم الفراغ الناجم عن ضعف الحضور الأميركي في الشرق الأوسط والعالم.

خلاصة:

- تمضي الدول الكبرى الى إعادة تموضع ناتجة عن تبدل في المعطيات الاقتصادية والعسكرية وتنافر الرؤى السياسية. ولقد صدقت التوقعات التي أطلقت بُعيد انهيار الاتحاد السوفياتي والقائلة بأن الولايات المتحدة، التي ابتهجت لسقوط "امبراطورية الشر"، ستعاني لاحقاً بسبب عدم قدرتها على إدارة العالم لوحدها. وتبينَ أن السعي حثيثاً لـ "أمركة" العالم جلب لواشنطن الكثير من العداوات، وهي تقرّ بعد كل هذا العناء على مدى عقدين بأن لقدراتها حدوداً!

- هناك مفارقة بين الإدارتين الروسية والأميركية: يقف خلف بوتين طموح لإعادة رسم مكانة بلاده انطلاقاً من الداخل باتجاه الخارج، بينما يرسم أوباما دور بلاده بصورة معاكسة: الإنسحاب من الخارج الى الداخل. زيادة على ذلك، لا يمكن التنبؤ بتصرفات بوتين، بعكس اوباما الذي أعلنها واضحة : الشعب الأميركي لا يريد حرباً.

- قد يكون وصف ما يجري بين روسيا وأميركا بحرب باردة جديدة أمراً مبالغاً فيه، من وجهة نظر البعض، لكنه تطورٌ يرسم حدوداً للهيمنة الأميركية والغربية عموماً على الساحة الدولية ويفتح الآفاق أمام فرص جديدة لا سيما في الشرق الأوسط.

- اذا لم يتم تنظيم تراجع نفوذ الولايات المتحدة في أوكرانيا وفي أوروبا، سيكون لذلك مردود سلبي على حلفائها في المنطقة، ما قد يدفع هؤلاء الى تدبر أمورهم بعيدا عن واشنطن إما بنسج تحالفات جديدة مع قوى كبرى أخرى، وهذا خيار لا يمثل بديلاً كلياً عن دور واشنطن، أو سيدفع باتجاه خيارات "مُرّة" من موقع أقل تكافؤاً مثل إيجاد تفاهمات اقليمية، على غرار ما قد يحصل بين السعودية وايران، أو قد يدفع باتجاه أكثر تشدداً وعدوانية، على غرار تلميح اسرائيل بالهجوم على ايران.

- يصعب تقدير الإنعكاس المباشر للمواجهة الأميركية - الروسية على الأزمة في سوريا، لكن روسيا ترسل، من موقع قوتها الجديد في القرم، إشارات الى انها لن تقبل تدخلاً تركياً عسكرياً مباشراً في سوريا او تزويداً أميركياً للجماعات المسلحة فيها بمنظومات صواريخ ارض- جو. وأي تقدم تحققه روسيا في أوكرانيا سينعكس سلباً على الحلف المناهض لسوريا، وربما نشهد في هذه الأثناء تسعيراً للمواجهات العسكرية من أجل تحقيق مكاسب موضعية قبل التوجه الى المفاوضات لإغلاق هذا الجرح النازف للجميع، وإن بمستويات مختلفة.

  • فريق ماسة
  • 2014-04-04
  • 10065
  • من الأرشيف

زلزال القرم وارتداداته المتوقعة على الشرق الاوسط

كسبت روسيا الجولة الأولى من المواجهة بعد ضم -أو انضمام- القرم اليها. اختفى فجأة الحديث عن عقوبات اضافية. كل ما يرجوه الغرب أن لا تهدد روسيا الحدود الشرقية لأوكرانيا من خلال الحشود العسكرية التي وصلت - كما يقال - الى مئة ألف جندي. التفاوض يجري على تقرير مصير المناطق الأوكرانية ذات الغالبية الناطقة بالروسية: هل سيتاح لها الإنفصال، أم سيكون هناك نظام فيدرالي، كما تطالب موسكو الآن؟ صحيح ان موسكو ليست لديها اليوم أيديولوجيا عالمية، على غرار الأيديولوجيا الإشتراكية، وصحيح انها لا تقود مجموعة دول على غرار الكتلة الشرقية أيام الاتحاد السوفياتي، لكنها اليوم تعبر بصورة متزايدة عن نفسها وطموحاتها في شكل يهدد بعض خطوط السياسة الاميركية التقليدية. في خطابه الى البرلمان في ديسمبر/كانون الأول الماضي، حدد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين رؤيته القيادية من منظور شامل بالاشارة الى ان "العديد من الدول تقوم اليوم بمراجعة قيمها الأخلاقية، والى ان هناك المزيد والمزيد من الناس في العالم الذين يؤيدون موقفنا في الدفاع عن القيم التقليدية". تحدث بوتين عن القيم الاجتماعية كمدماك للدول، رافضاً "المساواة بين مفاهيم الخير والشر". هو يدرك أيضاً ان نجم أميركا الآفل يتطلب حجز مكان مسبقاً على الساحة الدولية، ولا يُخفي الإعتقاد بأن هناك العشرات من الدول التي لا ترتاح للمبادئ الغربية والسيطرة الغربية على المؤسسات والمعايير العالمية وتريد بدائل لهذا الوضع. وهذا بالضبط يتلاقى مع شكاوى وتطلعات دول كثيرة في العالم الاسلامي والعربي وأخرى صاعدة مثل الصين والهند. هذه الدول تحتفظ بقيمها التقليدية وبنائها الثقافي الخاص وترفض المثال الغربي المفرط في الليبرالية والذي يقود تدريجياً الى الإنحلال الاجتماعي والتفكك الأسري وتضعضع التماسك الوطني في المجتمعات المتنوعة، كما ترفض العولمة الأميركية التي تتخذ الحريات والموازين في مجلس الأمن والمؤسسات الدولية مطية للقيام بانقلابات ناعمة في العديد من الدول.   من هذا المنطلق، صمم بوتين في السنوات الماضية على إعادة الاعتبار للقيم الاجتماعية والوطنية لروسيا مستفيداً من مكامن قوة علمية وتكنولوجية واقتصادية وثقافية خاصة. وانطلق من الداخل في اتجاه الخارج ليركز جهوده على العمل لبناء اتحاد "أوراسي" يستخدم إمكانات روسيا ودول اوروبية وآسيوية لوقف تمدد الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو الى حدود روسيا، بما يشكل خطراً داهماً على بنيتها وأمنها الإقليمي. وترتسم معالم هذا التوجه شيئاً فشيئاً من خلال طبيعة الاتفاقات الطويلة الأجل التي تعقدها روسيا على الصعد الدفاعية والنفطية والنووية مع دول صاعدة مثل الصين والهند. ومن دون شك، فإن روسيا تشعر حالياً بأن لديها القوة اللازمة الجاهزة لاستخدامها او التلويح بها، في حين ان الغرب لا يسعى للحرب، وهذا يعطي موسكو رجحاناً في قوة الشد والجذب. وبذلك فإن القرم ليست سوى بداية لظهور موسكو دولياً لتمثل تحدياً منهجياً للإتحاد الأوروبي ولمنظمة حلف شمال الأطلسي. المصالح المشتركة والإفتراقات لقد أخطأت الادارة الأميركية في فهم الرئيس الروسي ودوافعه، برغم الاستعانة بخبراء لغة الجسد، اضافة الى تقارير الاستخبارات، وقللت باستمرار من تقدير فلاديمير بوتين، عن طريق النظر اليه على انه حالة عابرة او معزولة. وتبعاً لذلك، فشلت أميركا ومعها الغرب الأوروبي في التنبؤ بردة فعل روسيا بشأن العديد من القضايا الإقليمية، ومنها استمرارها بالوقوف الى جانب سوريا أو مضيها بتغيير الوقائع الجغرافية على حدود اوروبا. ثمة مصالح أميركية أكيدة تشترك مع مصالح روسيا، ومنها منع الانتشار النووي ومكافحة الإرهاب. وفي ضوء استبعاد التصادم العسكري بين الجانبين، تسعى واشنطن الى تفاهم غامض حتى الآن مع موسكو بهدف تجنيب أوروبا خضات تنجم عن ترددات زلزال القرم، وبالتالي الحفاظ على ماء وجه الولايات المتحدة على الصعيد الدولي. وقد فضحت الأزمة الاوكرانية ضعف وركاكة سياسات ادارة اوباما في مواجهة التحديات الاقليمية والدولية. وسواء ربحت روسيا في أوكرانيا أم خسرت، وهي تربح حتى الآن، فإن مجريات الأحداث في أوكرانيا زرعت المزيد من الشكوك ونصبت متاريس إضافية بين موسكو وواشنطن. وسيستخدم الطرفان مختلف الأوراق المتوافرة لدى كل منهما لإضعاف نفوذ الآخر او للضغط عليه من أجل التوصل الى تفاهم مقبول من الجانبين. ويمثل الشرق الأوسط ساحة رئيسية لكباشهما الذي تصاعد خلال الأزمة السورية معبّراً عن نفسه باستخدام روسيا، ومعها الصين، الفيتو 3 مرات في مجلس الأمن الدولي ضد مشاريع غربية ضد سوريا. الإنعكاسات على الشرق الاوسط حتى لو أصيبت سياسة روسيا في اوكرانيا بنكسة، فليس مؤكداً أن ذلك سيُضعف من عزيمة بوتين على تحدي نفوذ الولايات المتحدة في الشرق الاوسط، بل ربما يصبح اكثر تحدياً وعناداً. هناك ملفات يمكن رصد آثار الكباش الروسي- الأميركي فيها: 1- الملف النووي الايراني: لعل تصريحات نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف الشهر الماضي التي هدَّد فيها "باتخاذ إجراءات انتقامية" محتملة بشأن الملف النووي الإيراني إذا ما ضغطت واشنطن على موسكو بشأن شبه جزيرة القرم، أوضحُ إشارة الى ان أحداث أوكرانيا لن تبقى في مكانها بل ستترك آثاراً على واقع قضايا اقليمية هامة. إنها تشير الى رغبة روسيا في استخدام الأسلحة المتوفرة لديها لدفع واشنطن الى الامتناع عن الاستمرار في تحدي نفوذ موسكو في حديقتها الخلفية. ماذا يمكن ان تفعل روسيا في هذا الشأن، وهل يمكن ان يقود ذلك الى تنازلات اميركية لروسيا او لإيران ؟ يمكن ان يصعّب بوتين على واشنطن مفاوضات الحل النهائي الدولية مع ايران، وهي مرحلة دقيقة وحساسة تعوّل عليها واشنطن لاختراق ايران. وتستطيع موسكو عرقلة أي اتفاق لا يلبي تطلعاتها في تعزيز موقعها في هذه المنطقة او اي اتفاق يعلّي من شأن المصالح الأميركية او تفسره واشنطن على انه انتصار دبلوماسي، كما ان بإمكانها، وهذا ربما الأهم، منع أميركا من العودة مجدداً الى مجلس الأمن لفرض عقوبات اضافية على ايران في حال فشلت المفاوضات. وبذلك لن يكون في يد واشنطن سلاح إضافي تهدد به ايرانَ لإرغامها على تقديم تنازلات. ومن هنا تحتاج واشنطن الى تأييد موسكو وتعاونها. وتجدر الاشارة الى انه بينما كانت الأزمة ناشبة في القرم، كان نيكولاي سباسكي نائب مدير شركة "روساتوم" يزور طهران حيث وقّع مع المسؤولين الايرانيين على اتفاق مبدئي لبناء ما لا يقل عن محطتين جديدتين لتوليد الطاقة النووية في ايران. بل إن إيران وروسيا حققتا تقدماً نحو اتفاق لمبادلة النفط بالسلع قد تصل قيمته إلى 20 مليار دولار سيمكن طهران من زيادة صادراتها من الطاقة، الأمر الذي يعتبره البيت الأبيض مثيراً "لبواعث قلق خطيرة" وسيكون غير منسجم مع المحادثات النووية بين إيران والقوى العالمية، بحسب ما نقلت وكالة رويترز عن مصادر غربية مطلعة. ويمكن - في اطار تكثيف الضغوط الروسية - أن تزود موسكو طهران بنظم دفاع جوي متقدمة لتقوية موقفها ازاء واشنطن وخيارها العسكري المحتمل. من وجهة نظر واشنطن، قد يكون من الأفضل الاعتراف ببعض المكاسب لإيران، خصوصا لجهة تخصيب اليورانيوم باعتباره أمراً واقعاً، بدلاً من تقديم تنازلات أخرى لروسيا في أوكرانيا وما بعدها. فالكباش في أوروبا أشد تأثيراً على مكانة اميركا بين حلفائها الأوروبيين، مع التذكير دائماً بأن أوروبا كانت مسرحاً للشرارة الأولى لحربين عالمين والساحة َالأساسية للحرب الباردة التي امتدت 45 عاماً. وقد تحولت الأزمة الأوكرانية الساحة الرئيسية حالياً لاختبار نفوذ أميركا وإثبات قدرتها على القيادة، لكنها لا تملك الى الآن خيارات كثيرة. ومن وجهة نظر ايران، فإن الأزمة بين روسيا والغرب قد تكون فرصة لتعزيز موقعها التفاوضي في الشأن النووي، انطلاقاً من حاجة اميركا الى إنجاز ما في سياساتها الخارجية المليئة بالاخفاقات، ومن حاجتها أيضاً لسد ثغرة يمكن ان تنفذ منها روسيا لتقوية موقفها في الكباش الحاصل في اوروبا. وإضافة الى ذلك، ترى ايران ان الغرب يُظهر حالياً علامات ضعف، ما قد يساعدها في توسيع نطاق المناورة على الصعيد التفاوضي. وبالإجمال، في حال استمرت او تصاعدت المواجهة الاميركية- الروسية، سيكون من الصعب على اميركا الاعتماد على روسيا لإدانة ايران او تشديد العقوبات او التلويح بالخيار العسكري في حال عدم التوصل الى اتفاق نووي بحلول 20 تموز/ يوليو المقبل موعد انتهاء مفعول الاتفاق المرحلي. 2- الملف السوري: تنظر سوريا الى وثبة روسيا في القرم على أنها تقدمٌ إضافي لحليف استراتيجي يمكن ان يكون لفوزه بهذه الجولة أثر إيجابي على الموقف السوري. وخلال أزمة مماثلة في جورجيا عام 2008، ثمة من راهن على ان موسكو ستفقد بعض اهتمامها بالشرق الأوسط إنْ غضّ الغرب النظر عن ضمها لأبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، لكن هذا الرهان لم يتحقق. بل إن الدبلوماسية الروسية بدت خلال السنوات التالية أكثر ثباتاً ونشاطاً في الشرق الأوسط واستطاعت خلال الأزمة السورية أن تقنع الغرب بصحة موقفها القائل بأن سوريا أضحت ساحة رئيسية من ساحات الإرهاب الدولي العابر للحدود. وبهذا، فإن انتصار روسيا في أزمة أوكرانيا سيبعث برسائل إضافية تثير قلق الحلف المناهض لسوريا. 3- حلفاء اميركا: تنظر اسرائيل بريبة شديدة الى تراجع مكانة الولايات المتحدة في غير ساحة، وهي رأت ما تعنيه تعهدات الولايات المتحدة باستخدام القوة في سوريا، وحتى ضد إيران. واستنتجت أن هذا الكلام لا يعني الكثير. وتعتبر اسرائيل ان أداء اميركا في اوكرانيا دليل على ضعف عزمها على حماية حلفائها والدفاع عنهم. تدرك اسرائيل ان روسيا لا تريد ان تُثقِل عليها، لكن فوز موسكو على واشنطن في القرم يقلق تل ابيب بسبب انعكاساته الايجابية لمصلحة ايران وسوريا. ومن جهتهم، وصل السعوديون إلى استنتاجات مماثلة. ثقتهم بإدارة أوباما منخفضة جدا، برغم زيارته الأخيرة الى الرياض ومحاولته طمأنة المملكة حيال التعامل مع ملفات رئيسية مثل سوريا وايران. المشكلة ان سقف توقعات السعوديين من اميركا بقي عالياً، بينما يتعذر على واشنطن تحقيق تطلعات الرياض الى شن حملات عسكرية ضد سوريا وايران. الرئيس الاميركي الحالي - كما يقول خصومه في واشنطن- يكره المخاطرة بشدة، ويركز على الشأن الداخلي بشكل أكبر من اهتمامه بالسياسة الخارجية، وهو رئيس ملتزم بمساعدة الطبقة الوسطى أكثر من الشرق الأوسط ومشاكله العويصة. هذه المعطيات لا تسرّ خاطر حلفاء واشنطن في الشرق الاوسط الذين ينتظرون منها الإقدام والضرب بيد من حديد كي يرتدع خصومهم، في حين تنتظر الادارة الأميركية منهم تفهم أولوياتها والتعامل بمرونة وواقعية مع التحديات من حولهم وخفض سقف تطلعاتهم، الأمر الذي يزيد الفجوة بين واشنطن وحلفائها ويُشعرهم بتعاظم الفراغ الناجم عن ضعف الحضور الأميركي في الشرق الأوسط والعالم. خلاصة: - تمضي الدول الكبرى الى إعادة تموضع ناتجة عن تبدل في المعطيات الاقتصادية والعسكرية وتنافر الرؤى السياسية. ولقد صدقت التوقعات التي أطلقت بُعيد انهيار الاتحاد السوفياتي والقائلة بأن الولايات المتحدة، التي ابتهجت لسقوط "امبراطورية الشر"، ستعاني لاحقاً بسبب عدم قدرتها على إدارة العالم لوحدها. وتبينَ أن السعي حثيثاً لـ "أمركة" العالم جلب لواشنطن الكثير من العداوات، وهي تقرّ بعد كل هذا العناء على مدى عقدين بأن لقدراتها حدوداً! - هناك مفارقة بين الإدارتين الروسية والأميركية: يقف خلف بوتين طموح لإعادة رسم مكانة بلاده انطلاقاً من الداخل باتجاه الخارج، بينما يرسم أوباما دور بلاده بصورة معاكسة: الإنسحاب من الخارج الى الداخل. زيادة على ذلك، لا يمكن التنبؤ بتصرفات بوتين، بعكس اوباما الذي أعلنها واضحة : الشعب الأميركي لا يريد حرباً. - قد يكون وصف ما يجري بين روسيا وأميركا بحرب باردة جديدة أمراً مبالغاً فيه، من وجهة نظر البعض، لكنه تطورٌ يرسم حدوداً للهيمنة الأميركية والغربية عموماً على الساحة الدولية ويفتح الآفاق أمام فرص جديدة لا سيما في الشرق الأوسط. - اذا لم يتم تنظيم تراجع نفوذ الولايات المتحدة في أوكرانيا وفي أوروبا، سيكون لذلك مردود سلبي على حلفائها في المنطقة، ما قد يدفع هؤلاء الى تدبر أمورهم بعيدا عن واشنطن إما بنسج تحالفات جديدة مع قوى كبرى أخرى، وهذا خيار لا يمثل بديلاً كلياً عن دور واشنطن، أو سيدفع باتجاه خيارات "مُرّة" من موقع أقل تكافؤاً مثل إيجاد تفاهمات اقليمية، على غرار ما قد يحصل بين السعودية وايران، أو قد يدفع باتجاه أكثر تشدداً وعدوانية، على غرار تلميح اسرائيل بالهجوم على ايران. - يصعب تقدير الإنعكاس المباشر للمواجهة الأميركية - الروسية على الأزمة في سوريا، لكن روسيا ترسل، من موقع قوتها الجديد في القرم، إشارات الى انها لن تقبل تدخلاً تركياً عسكرياً مباشراً في سوريا او تزويداً أميركياً للجماعات المسلحة فيها بمنظومات صواريخ ارض- جو. وأي تقدم تحققه روسيا في أوكرانيا سينعكس سلباً على الحلف المناهض لسوريا، وربما نشهد في هذه الأثناء تسعيراً للمواجهات العسكرية من أجل تحقيق مكاسب موضعية قبل التوجه الى المفاوضات لإغلاق هذا الجرح النازف للجميع، وإن بمستويات مختلفة.

المصدر : المنار / علي عبادي


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة