تكون اميركا او لا تكون. تكون روسيا او لا تكون. هذه هي المشكلة…

يخشى زبغنيو بريجنسكي ان نكون بحاجة الى حرب عالمية ثالثة من اجل انتاج صيغة اخرى لقواعد اللعبة، اذ منذ زوال الاتحاد السوفياتي لا تزال الضبابية تكتنف المشهد الدولي». ولكن ألا يستدرك بريجنسكي قائلا: «حرب عالمية ثالثة تعني اعادة توزيع المقاعد في…العالم الآخر».

ذاك الاحتقان الاستراتيجي لا حل له الا بانفجارات مبرمجة. الرئيس رونالد ريغان قال بـ«حرائق الغابات»، اي الحروب المبرمجة ولغايات محددة. هذا لم يعد ممكنا. الآن لا مجال لاحتواء النزاعات او للسيطرة عليها لان التعبئة الايديولوجية او التاريخية تجعل الحروب كما لو انها مشرّعة على الابد.

وكان وزير الخارجية الفرنسي ايرفيه دوشاريت يرى انه لا بد من اعادة هيكلة العلاقات والتوازنات والمعادلات الدولية، فعندما اطلق الرئيس جورج بوش الاب، وغداة تفكك الامبراطورية السوفياتية، شعار «النظام العالمي الجديد» انما كان يأخذ بتلك الخرافة التي تقول ان الكرة الارضية تقف على قرن ثور، ولكن هل ان اميركا الآن هي اميركا ودرو ويلسون وفرنكلين روزفلت وحتى هاري ترومان وجون كنيدي؟

لا بل ان ثمة من يسأل «حتى عندما كان جورج بوش الابن في ذروة جنونه، كمبعوث شخصي من الله كما كان يقول، ماذا استطاع ان يفعل لجورجيا (2008)، وهي التي لا تمكن مقارنتها لا جيوستراتيجيا، ولا تاريخيا، مع اوكرانيا التي توصف خطاً بالحديقة الخلفية او بالفناء الخلفي لروسيا. يقول المحلل الروسي تيودور لوكيانوف «لقد ولدنا من بطن واحد». اذاَ من يستطيع ان يفصل بين هذين التوأمين السياميين؟

لوكيانوف يسأل «لماذا غزا الاميركيون كوريا وفيتنام ونيكارغوا وافغانستان والعراق، وهي الدول البعيدة عنهم؟ قالوا دفاعا عن مصالحهم الاستراتيجية، لا بل انهم خاضوا الحربين العالميتين الاولى والثانية تحت هذا الشعار، فكيف لا يحق للروس ان يفعلوا الشيء نفسه عندما يوجد من يحاول تفخيخ بلادهم من الداخل؟»، ليسأل عن تلك الجهة التي تولت تفجير اتفاق 21 شباط الفائت، وليقول ان الاستخبارات الروسية تمتلك كل المعطيات حول من اضرم النيران في كييف لكي تصل هذه النيران الى موسكو…

انه منطق الامبراطوريات على كل حال، اذ لا احد يمكنه ان يتصدى للاوكرانيين عندما يقررون مصيرهم. المشكلة هنا، كما هي مشكلة العديد من الدول، ان اوكرانيا دولة مركبة (ومعقدة) طائفيا واتنيا، اي انه لا مجال البتة لتلك العملية القيصرية التي جرت اخيرا، وفي ظروف شديدة الالتباس (ماذا كان يفعل برنار- هنري ليفي وسط المتظاهرين؟). إما التسوية او الموت البطيء. الموت التراجيدي كما يفعل العرب وغير العرب بسوريا الآن..

ولكن ألا يتردد وراء الضوء ان واشنطن وباريس ولندن دعت العرب الى فتح خزائنهم، لكأنها خزائن الف ليلة و ليلة، لانقاذ اوكرانيا، وعلى اساس «ان سقوط روسيا في ايدينا يعني سقوط سوريا في ايديكم».

ديبلوماسي عربي بارز يعترف «اننا في حيرة، اذ كيف لنا ان نبرر دفع دولار واحد من اجل اوكرانيا، فيما السودان يحتضر، والصوماليون يعيشون على حافة القبور، وسوريا تراقص الحطام، ويكاد ابو الهول ان يصرخ في وجهنا من اجل مصر؟».

ألم يحاول بعض العرب، وبتلك السذاجة الفذة، شراء فلاديمير بوتين كما لو انهم يشترون سليم ادريس او عبد الاله البشير او ميشال كيلو او هيثم المالح ناهيك ببرهان غليون وصحبه…

ولكن ألا يقال عربيا «اذا سقط الاميركيون في اوكرانيا، ما علينا سوى ان نلملم عباءاتنا ونرحل عن سوريا؟». المثير ان هناك من يعتبر ان باراك اوباما الذي يتآكل سياسيا لا يستطيع الا ان يرد في مكان ما. هذا المكان هو سوريا. اذاً، متى تقلع القاذفات من الاردن او من تركيا او من حاملات الطائرات لتدمير النظام في سوريا التي يفترض ان تتوزع بين ابي بكر البغدادي وابي محمد الجولاني، ودون اي اعتبار لتلك الرسوم المتحركة الضائعة بين ضفاف البوسفور وضفاف السين؟..

اما توماس فريدمان فيرى ان من ينتصر في اوكرانيا ينتصر في سوريا. وهو الذي يلاحظ كيف «ان الدب القطبي يبدو وكأنه يلاعب القطط». هل تحولت الدول الاوروبية الى قطط فعلا؟ كل ما فعلته انها قدمت 700 مليون يورو لكييف مقابل 15 مليار دولار من روسيا، فيما يسأل احد معلقي «وول ستريت جورنال» ما اذا كان يمكن للاوكرانيين ان يواجهوا الدبابات الروسية بزجاجات الكوكا كولا؟

المعلق يسخر من الكلام حول اخراج روسيا من قمة الثمانية، ومن الحديث عن عزلها اقتصاديا، مذكرّا من يهمه الامر بأن روسيا ليست ايران ولا سوريا ولا كوبا، وبالرغم من ذلك فماذا فعل الحصار بهذه الدول؟

جوزف ستيغليتز هو الذي قال اننا مقبلون على عالم مختلف، اذ ان الناتج المحلي لدول البريكس (روسيا، الصين، الهند، البرازيل وجنوب افريقيا) سيتعدى خلال اقل من عقدين الناتج في الولايات المتحدة وكندا والمانيا وفرنسا وبريطانيا وايطاليا. هنا لعبة المال هي التي تحدد المسار الذي تسلكه لعبة الامم..

ولندع الباحث الاميركي فانس سرشك يسأل «ماذ فعلته الولايات المتحدة للثوار في سوريا لكي تفعله في اوكرانيا؟». بطبيعة الحال، لا احد يمكنه ان يتغاضى عن القوة الميتولوجية للامبراطورية الاميركية، ولكن ماذا عندما يتحدث بعض العرب عن روسيا كما لو انها مجرد مزرعة للدببة. في احسن الاحوال… مزرعة للثلوج؟

كما الكلام عن التسوية في سوريا الكلام عن التسوية في اوكرانيا. ولكن اين هي المرجعية الدولية القادرة على فرض التسويات؟ بريجنسكي هو الذي قال «ثمة كرة ارضية وتتدحرج. لا اصابع قوية تمسك بها».

  • فريق ماسة
  • 2014-03-03
  • 11320
  • من الأرشيف

روسيا في أيدينا سورية في أيديكم

تكون اميركا او لا تكون. تكون روسيا او لا تكون. هذه هي المشكلة… يخشى زبغنيو بريجنسكي ان نكون بحاجة الى حرب عالمية ثالثة من اجل انتاج صيغة اخرى لقواعد اللعبة، اذ منذ زوال الاتحاد السوفياتي لا تزال الضبابية تكتنف المشهد الدولي». ولكن ألا يستدرك بريجنسكي قائلا: «حرب عالمية ثالثة تعني اعادة توزيع المقاعد في…العالم الآخر». ذاك الاحتقان الاستراتيجي لا حل له الا بانفجارات مبرمجة. الرئيس رونالد ريغان قال بـ«حرائق الغابات»، اي الحروب المبرمجة ولغايات محددة. هذا لم يعد ممكنا. الآن لا مجال لاحتواء النزاعات او للسيطرة عليها لان التعبئة الايديولوجية او التاريخية تجعل الحروب كما لو انها مشرّعة على الابد. وكان وزير الخارجية الفرنسي ايرفيه دوشاريت يرى انه لا بد من اعادة هيكلة العلاقات والتوازنات والمعادلات الدولية، فعندما اطلق الرئيس جورج بوش الاب، وغداة تفكك الامبراطورية السوفياتية، شعار «النظام العالمي الجديد» انما كان يأخذ بتلك الخرافة التي تقول ان الكرة الارضية تقف على قرن ثور، ولكن هل ان اميركا الآن هي اميركا ودرو ويلسون وفرنكلين روزفلت وحتى هاري ترومان وجون كنيدي؟ لا بل ان ثمة من يسأل «حتى عندما كان جورج بوش الابن في ذروة جنونه، كمبعوث شخصي من الله كما كان يقول، ماذا استطاع ان يفعل لجورجيا (2008)، وهي التي لا تمكن مقارنتها لا جيوستراتيجيا، ولا تاريخيا، مع اوكرانيا التي توصف خطاً بالحديقة الخلفية او بالفناء الخلفي لروسيا. يقول المحلل الروسي تيودور لوكيانوف «لقد ولدنا من بطن واحد». اذاَ من يستطيع ان يفصل بين هذين التوأمين السياميين؟ لوكيانوف يسأل «لماذا غزا الاميركيون كوريا وفيتنام ونيكارغوا وافغانستان والعراق، وهي الدول البعيدة عنهم؟ قالوا دفاعا عن مصالحهم الاستراتيجية، لا بل انهم خاضوا الحربين العالميتين الاولى والثانية تحت هذا الشعار، فكيف لا يحق للروس ان يفعلوا الشيء نفسه عندما يوجد من يحاول تفخيخ بلادهم من الداخل؟»، ليسأل عن تلك الجهة التي تولت تفجير اتفاق 21 شباط الفائت، وليقول ان الاستخبارات الروسية تمتلك كل المعطيات حول من اضرم النيران في كييف لكي تصل هذه النيران الى موسكو… انه منطق الامبراطوريات على كل حال، اذ لا احد يمكنه ان يتصدى للاوكرانيين عندما يقررون مصيرهم. المشكلة هنا، كما هي مشكلة العديد من الدول، ان اوكرانيا دولة مركبة (ومعقدة) طائفيا واتنيا، اي انه لا مجال البتة لتلك العملية القيصرية التي جرت اخيرا، وفي ظروف شديدة الالتباس (ماذا كان يفعل برنار- هنري ليفي وسط المتظاهرين؟). إما التسوية او الموت البطيء. الموت التراجيدي كما يفعل العرب وغير العرب بسوريا الآن.. ولكن ألا يتردد وراء الضوء ان واشنطن وباريس ولندن دعت العرب الى فتح خزائنهم، لكأنها خزائن الف ليلة و ليلة، لانقاذ اوكرانيا، وعلى اساس «ان سقوط روسيا في ايدينا يعني سقوط سوريا في ايديكم». ديبلوماسي عربي بارز يعترف «اننا في حيرة، اذ كيف لنا ان نبرر دفع دولار واحد من اجل اوكرانيا، فيما السودان يحتضر، والصوماليون يعيشون على حافة القبور، وسوريا تراقص الحطام، ويكاد ابو الهول ان يصرخ في وجهنا من اجل مصر؟». ألم يحاول بعض العرب، وبتلك السذاجة الفذة، شراء فلاديمير بوتين كما لو انهم يشترون سليم ادريس او عبد الاله البشير او ميشال كيلو او هيثم المالح ناهيك ببرهان غليون وصحبه… ولكن ألا يقال عربيا «اذا سقط الاميركيون في اوكرانيا، ما علينا سوى ان نلملم عباءاتنا ونرحل عن سوريا؟». المثير ان هناك من يعتبر ان باراك اوباما الذي يتآكل سياسيا لا يستطيع الا ان يرد في مكان ما. هذا المكان هو سوريا. اذاً، متى تقلع القاذفات من الاردن او من تركيا او من حاملات الطائرات لتدمير النظام في سوريا التي يفترض ان تتوزع بين ابي بكر البغدادي وابي محمد الجولاني، ودون اي اعتبار لتلك الرسوم المتحركة الضائعة بين ضفاف البوسفور وضفاف السين؟.. اما توماس فريدمان فيرى ان من ينتصر في اوكرانيا ينتصر في سوريا. وهو الذي يلاحظ كيف «ان الدب القطبي يبدو وكأنه يلاعب القطط». هل تحولت الدول الاوروبية الى قطط فعلا؟ كل ما فعلته انها قدمت 700 مليون يورو لكييف مقابل 15 مليار دولار من روسيا، فيما يسأل احد معلقي «وول ستريت جورنال» ما اذا كان يمكن للاوكرانيين ان يواجهوا الدبابات الروسية بزجاجات الكوكا كولا؟ المعلق يسخر من الكلام حول اخراج روسيا من قمة الثمانية، ومن الحديث عن عزلها اقتصاديا، مذكرّا من يهمه الامر بأن روسيا ليست ايران ولا سوريا ولا كوبا، وبالرغم من ذلك فماذا فعل الحصار بهذه الدول؟ جوزف ستيغليتز هو الذي قال اننا مقبلون على عالم مختلف، اذ ان الناتج المحلي لدول البريكس (روسيا، الصين، الهند، البرازيل وجنوب افريقيا) سيتعدى خلال اقل من عقدين الناتج في الولايات المتحدة وكندا والمانيا وفرنسا وبريطانيا وايطاليا. هنا لعبة المال هي التي تحدد المسار الذي تسلكه لعبة الامم.. ولندع الباحث الاميركي فانس سرشك يسأل «ماذ فعلته الولايات المتحدة للثوار في سوريا لكي تفعله في اوكرانيا؟». بطبيعة الحال، لا احد يمكنه ان يتغاضى عن القوة الميتولوجية للامبراطورية الاميركية، ولكن ماذا عندما يتحدث بعض العرب عن روسيا كما لو انها مجرد مزرعة للدببة. في احسن الاحوال… مزرعة للثلوج؟ كما الكلام عن التسوية في سوريا الكلام عن التسوية في اوكرانيا. ولكن اين هي المرجعية الدولية القادرة على فرض التسويات؟ بريجنسكي هو الذي قال «ثمة كرة ارضية وتتدحرج. لا اصابع قوية تمسك بها».

المصدر : الديار / نبيه البرجي


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة