تطول قائمة المعترضين على المملكة العربية السعودية في أوساط النخبة الأميركية ومن مشارب مختلفة، واللافت النبرة الحادة التي استعملها الكثيرون من المنتقدين ضد حليف مفترض تربطه «علاقة خاصة» بالولايات المتحدة ومن بين هؤلاء موظفون حكوميون سابقون عملوا في إدارات سابقة، لا بل إن منهم مَن هو محسوب على الحزب الجمهوري ولديه الكثير من الانتقادات ضد إدارة أوباما مثل كوري شيك (Kori Schake) التي شغلت مواقع عديدة في البنتاغون ومجلس الأمن القومي ووزارة الخارجية بالإضافة إلى مشاركتها القوية في الحملة الرئاسية للمرشح الجمهوري جون ماكين في العام (2008) نشرت مقالتها في مجلة فورين بوليسي (FP) تحت عنوان: السعودية غير سعيدة. ماذا في ذلك؟

تقول شيك:

«لكن أن يكون السعوديون غير سعيدين ليس دليلاً أن السياسة الأميركية خاطئة. سياسات إدارة أوباما خاطئة لكن ليس للطرائق أو للأسباب التي يندد السعوديون بها. إن حمل السياسات الأميركية لتتوافق مع المملكة العربية السعودية من المرجح خلق شرق أوسط ملائم بدرجة أقل لمصالح الولايات المتحدة مما أفسدته إدارة أوباما».

وتكمل شيك وتقول:

«يريد السعوديون شرق أوسط مختلف عما نفعله.. يعارض السعوديون الديموقراطية.. هم يعارضون حرية الصحافة.. هم يعارضون حرية الاعتقاد وممارسة شعائر خارج الاسلام.. إنهم يعارضون مساواة المرأة أمام القانون.. إنهم يعارضون فكرة أن الافراد لهم حقوق ويقرضونهم بطرق معينة ولأغراض محددة للحكومات».

«لا يعارض السعوديون فقط القيم الأساسية للمجتمع الأميركي، لكنهم موّلوا بعض أشد الجهاديين ضراوة».

«يريد السعوديون أن يدعم الأميركيون الجهاديين في سوريا وعودة الدولة العميقة إلى السلطة في مصر (نموذج يودّون تأبيده في جميع أنحاء المنطقة)».

وبعد أن تعرض الكاتبة للاحتمالات التي قد تذهب إليها الرياض في معارضتها لإدارة أوباما وتقديرها للمخاطر التي قد تنجم عنها هذه الخيارات تقدم نصيحتها لإدارة أوباما مستعيرة عبارة «الخط الأحمر» من الرئيس نفسه، لكن هذه المرة بوجه السعوديين بقولها:

«وإذا كان هناك من خط أحمر يجعل الرئيس أوباما ذا مصداقية، فيكون باستعداده التخلي عن البلدان التي تعتمد على المساعدة الأميركية».

خيارات السعودية حيال الولايات المتحدة:

بعيداً عن الصخب الذي رافق التصعيد الحاد في التوتر في العلاقات بين الرياض وواشنطن، فإن القراءة المتأنية لحقيقة الشراكة بين الطرفين تشير بكل وضوح إلى أن هذه الشراكة غير متكافئة. الطرف السعودي هو الأضعف في هذه العلاقة، وهو ليس في موقع يسمح له أن يملي شروطه، وبالتالي فإن خياراته محدودة إن لم تكن معدومة.

وفقاً لهذا المنظور، فإن ما نقل عن لسان الأمير بندر بن سلطان عن عزم بلاده تقليص مستوى العلاقات مع الولايات المتحدة تحت عنوان أنها لا تريد بعد الآن أن تجد نفسها في وضع التبعية (لواشنطن)، بالإضافة إلى التهديد الذي أطلقه الأمير محمد بن نواف سفير السعودية في بريطانيا عبر مقالة كتبها في صحيفة النيويورك تايمز (17 كانون الأول) بأن كل «الخيارات متاحة» أمام بلاده، فإن هذا النوع من التصريحات هو مجرد أقوال لن ترقى بأي حال من الاحوال إلى مستوى الأفعال، إذ يصعب على المملكة التي احتفظت بتحالف قوي مع الولايات المتحدة لعقود طويلة أن تجد لنفسها تحالفات مع قوى بديلة بهذه السهولة.

تُرى ما هي الخيارات المتاحة امام الأسرة المالكة في السعودية؟

هذه القوى البديلة تنحصر في كل من الصين وروسيا والاتحاد الأوروبي وهذا الأخير هو تجمع فضفاض من بين دوله الـ28 يمكن الاشارة في هذا الخصوص إلى فرنسا وبريطانيا.

الصين: من دون شك أن العلاقات السعودية ـ الصينية شهدت نمواً سريعاً في السنوات الأخيرة، ابتداءً من العام 2009 تجاوزت الصادرات السعودية النفطية إلى الصين تلك إلى الولايات المتحدة الأميركية لتصل إلى 1,2 مليون برميل يومياً لتمثل 21 في المئة من مجموع واردات الصين النفطية من العالم على أقل تقدير، وترافق ذلك مع ارتفاع الاستثمارات الصينية في السعودية في مختلف المجالات، الجدير بالذكر أن شركات المقاولات الصينية هي التي بنت نظام نقل الحجاج بالسكك الحديدية في مكة المكرمة.

لكن لا يبدو أن تنامي العلاقات الاقتصادية بين الرياض وبكين متساوقاً على المستوى السياسي، واحتمال تطور العلاقات السياسية الصينية ـ السعودية يخففه موقفهما المتعارض تجاه الأزمة السورية، كما أن التوتر القائم في اقليم «سيكيانغ» ذي الأغلبية المسلمة في الصين، يُبقي نوعاً من الحذر لدى القيادة الصينية تجاه الاسرة المالكة السعودية، بالإضافة إلى أن الروابط الوثيقة التي تجمع بين بكين وطهران من شأنها أن تثير الريبة والقلق لدى حكام الرياض.

 

روسيا: بعكس الصين فإن روسيا بلد مصدّر للنفط وقد تجاوز إنتاجها اليومي من النفط أواخر العام 2013 الانتاج السعودي ولتتحول إلى البلد الأول المنتج للنفط في العالم 10,38 مليون برميل يومياً مقابل 9,35 مليون برميل للسعودية، وبالتالي فإن العلاقات الاقتصادية بين موسكو والرياض أقرب منها للتنافس من الاعتماد المتبادل.

غير أن السعوديين الراغبين في التنويع في علاقاتهم، يبدون اهتماماً بروسيا كمصدر لتوريد السلاح، وهذا ما جرى التباحث حوله في الزيارتين التي قاما بهما الامير بندر بن سلطان إلى موسكو في النصف الثاني من العام الماضي 2013، كما أن هناك زيارة مرتقبة سيقوم بها نائب وزير الدفاع السعودي سليمان بن سلطان إلى موسكو من أجل وضع اللمسات الأخيرة لصفقات تسلح مع روسيا وقدّرت بعض المصادر بأن قيمة الصفقات المقترحة تصل إلى 12 مليار دولار بالإضافة إلى ما نقلته صحيفة «الكوميرسانت» القريبة من مصادر القرار في الكرملين عن موافقة السعودية على تمويل صفقة سلاح روسية لمصر بقيمة ما يقرب من 2 مليار دولار.

بالطبع، فإن للقيادة السعودية حساباتها الخاصة في اعتماد «سياسة الجزرة» مع موسكو لعلها تنجح بإغرائها للابتعاد عن دمشق، لكن بعد سنوات طويلة من الحرب في الشيشان والعمليات الارهابية التي رافقتها والتي طالت أهدافاً روسية تجعل من الصعب ردم الهوة العميقة بين موسكو والرياض.

فرنسا وبريطانيا:

تبقى فرنسا وبريطانيا في مقدمة هذه «الخيارات المتاحة» بحسب «نواف عبيد» مستشار الحكومة السعودية، فالعلاقات مع بريطانيا قديمة أما مع فرنسا فهي في هذه الأيام في أحسن حالاتها وليس أدل على ذلك من صفقات السلاح التي تعقدها الرياض مع باريس وفي تشرين الأول الماضي زار وزير الدفاع الفرنسي جان ايف لو دريان (Jean Yves Le Drian) المملكة وزيارته هي الثالثة منذ تسلمه منصبه في أيار 2012 وصرّح في زيارته الأخيرة: «أن هناك تطابقاً في وجهات النظر بين السعودية وفرنسا بشأن الأزمات الاقليمية الرئيسة وعلى رأسها الملف النووي الايراني والأزمة السورية».

ووفقاً لأحدث تقرير قُدّم إلى البرلمان الفرنسي عن صادرات الأسلحة، تبقى السعودية الزبون الأول لفرنسا خلال الفترة الممتدة من 2003 ـ 2014 مع ما يقرب من 7 مليارات يورو من العقود متقدمة بذلك على الهند والبرازيل.

إلى أين تتجه العلاقات السعودية الأميركية؟

بعد أن استنفد السعوديون كل ما بوسعهم لإيصال الرسالة إلى الولايات المتحدة الأميركية وللعالم أجمع للتعبير عن سخطهم المرير تجاه إدارة اوباما وسياساتها الشرق أوسطية، فإن السؤال الذي يطرح تلقائياً:

ماذا يريد السعوديون بالتحديد... وإلى أي مدى يمكن ان يذهبوا بعيداً عن واشنطن؟

 

لم يعد سراً أن السعوديين قد راهنوا على تدخل عسكري أميركي مباشر في سوريا كمقدمة للإطاحة بنظام بشار الأسد، وتندرج هذه الحرب المفترضة على سوريا ضمن المواجهة الكبرى التي يخوضها السعوديون ضد إيران، حيث يعولون دائماً في هذه المواجهة على الأميركيين لأنه ليس بمقدورهم الوقوف بوجه إيران، وهذا ما كان يثير الشعور بالمرارة لدى وزير الدفاع الأميركي الأسبق روبير غيتس بقوله: «بأن السعوديين يريدون أن يقاتلوا الإيرانيين حتى آخر أميركي».

لكن توقيع الاتفاق النووي المؤقت بين القوى الغربية وإيران كان بمثابة السيناريو الأسوأ بالنسبة للسعوديين نتيجة خشيتهم من أن تقود احتمالات التقارب الأميركي الإيراني إلى إنهاء عزلة إيران التي حاولت فرضها عليها الولايات المتحدة الأميركية في أعقاب تأسيس الجمهورية الإسلامية العام 1979، وهذا ما وفر فرصة نادرة للمملكة العربية السعودية للبروز كلاعب محوري في الخليج، من هنا فإن أشد الكوابيس وطأة على السعوديين هو تصور استعادة المعادلة الإقليمية التي كانت قائمة في سبعينيات القرن الماضي، حيث لعبت إيران دور القوة الحامية الرئيسة في منطقة الخليج بموافقة من الولايات المتحدة، وترك للسعودية دور الشريك الأصغر ضمن ذلك الترتيب.

لا بديل للسعودية عن الولايات المتحدة:

أما وبعد أن تزعزعت ثقة الأسرة المالكة السعودية بواشنطن وعبّرت عن سخطها بأقصى ما يمكنها ذلك، هل يذهب السعوديون بعيداً عن الولايات المتحدة؟

ليس من المرجح أن يحدث ذلك، ليس لديهم مكان آخر ليذهب إليه السعوديون ـ كما يتندر أكثر من محلل أميركي.

أما روبرت جوردان السفير الأميركي الأسبق لدى الرياض (2001ـ2003) فيقول «لا توجد دولة في العالم قادرة على توفير الحماية لحقولهم النفطية واقتصادهم أكثر من الولايات المتحدة، والسعوديون يدركون ذلك، لن نراهم يخرجون من الفلك الأميركي». ويضيف جوردان: «سيكون الاتصال بالروس والصينيين أكثر مما كان في الماضي، لقد قصدوا من قبل جهات أخرى بحثاً عن أسلحة وسنشهد المزيد من ذلك، لكن المناخ العام سيكون متمحوراً حول الولايات المتحدة».

بالطبع، تشكل فرنسا أحد «الخيارات المتاحة»، كما سبقت الإشارة، لكن يجب عدم المبالغة أبداً في ذلك، وعلى حد تعبير إيان بلاك (Ian Black) في «الغارديان» (كانون الأول الماضي): «الفكرة القائلة بأن الصين أو فرنسا يمكن أن يحل أي منهما محل الولايات المتحدة في الوقت الراهن هي مجرد هراء خيالي».

نحن أمام علاقة عميقة ومتشابكة من مختلف الجوانب، حيث تتم هيكلة الجيش السعودي والقوات الجوية على نسق الجيش الأميركي الذي يوفر لهم كميات هائلة من الأسلحة بالإضافة إلى الدعم والتدريب، كما أن اقتصاد المملكة يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالولايات المتحدة الأميركية، بحيث أن أي محاولة جادة لفك الارتباط على المدى الطويل ستكون باهظة الثمن وصعبة.

 

إن مراجعة «سريعة لأنواع المشروعات التي ينفذها الأميركيون في المملكة وحجم العقود التي أبرموها يشير إلى الروابط التي يصعب الانفكاك منها بين الطرفين، فعلى سبيل المثال هناك تعاون وثيق بين القوى الأمنية والعسكرية الأميركية وبين القوى العسكرية السعودية وليس لدى أي طرف منهما الحافز للتخلي عن هذه الشراكة، إذ يقوم الأميركيون بتجهيز وتدريب قوات الحرس الوطني السعودي، وهي قوة الأمن الداخلية الرئيسة للنظام السعودي وهم يفعلون ذلك منذ العام 1977، ويؤدون المهام نفسها في إنشاء مرافق أمنية لفرقة من 35 ألف عنصر في الحرس الوطني والتي يتم نشرها لحماية المنشآت النفطية ومحطات تحلية المياه ومحطات الطاقة والمرافق الحيوية الاخرى في البلاد.

أما قيمة مشتريات الأسلحة والخدمات العسكرية التي طلبها السعوديون من الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة فتبدو الأرقام خيالية إذ تصل إلى 60 مليار دولار، من بينها 34 مليار دولار هي مجموع مبيعات السلاح الأميركية للسعودية فقط في العام 2012، بزيادة تعادل عشرة أضعاف مبيعات العام 2011، ومؤخراً خطرت وزارة الدفاع الأميركية الكونغرس بعزمها إبرام صفقة أسلحة للمملكة بقيمة 6,8 مليار دولار.

هل يمكن تجاوز التوتر القائم في العلاقات بين الرياض وواشنطن؟

لا ينبغي أن تؤخذ تصريحات المسؤولين السعوديين ضد الولايات المتحدة على أنها إشارة منهم تعكس تخطيطهم للتخلي عن الشراكة الاستراتيجية مع واشنطن، خاصة في غمرة التحولات الكبيرة التي تشهدها المنطقة، غاية الأمر من الحملة السعودية انها تستهدف الضغط للتأثير على السياسات الأميركية التي لا ترضى عنها الرياض، باعتبار أن ما يحصل حالياً بين الحليفين يعبّر عن رؤيتين متناقضتين للتحولات الإقليمية ولا تملك القيادة السعودية أن تفرض إرادتها.. لن يتأخر الحليفان عاجلاً أم آجلاً لتجاوز خلافاتهما، لأن تراجع السعوديين عن علاقتهم بالولايات المتحدة الأميركية من شأن ذلك أن يكلفهم غالياً.

  • فريق ماسة
  • 2014-03-01
  • 9909
  • من الأرشيف

«عواصف الصحراء» السعودية: لا مفرّ من أميركا

 تطول قائمة المعترضين على المملكة العربية السعودية في أوساط النخبة الأميركية ومن مشارب مختلفة، واللافت النبرة الحادة التي استعملها الكثيرون من المنتقدين ضد حليف مفترض تربطه «علاقة خاصة» بالولايات المتحدة ومن بين هؤلاء موظفون حكوميون سابقون عملوا في إدارات سابقة، لا بل إن منهم مَن هو محسوب على الحزب الجمهوري ولديه الكثير من الانتقادات ضد إدارة أوباما مثل كوري شيك (Kori Schake) التي شغلت مواقع عديدة في البنتاغون ومجلس الأمن القومي ووزارة الخارجية بالإضافة إلى مشاركتها القوية في الحملة الرئاسية للمرشح الجمهوري جون ماكين في العام (2008) نشرت مقالتها في مجلة فورين بوليسي (FP) تحت عنوان: السعودية غير سعيدة. ماذا في ذلك؟ تقول شيك: «لكن أن يكون السعوديون غير سعيدين ليس دليلاً أن السياسة الأميركية خاطئة. سياسات إدارة أوباما خاطئة لكن ليس للطرائق أو للأسباب التي يندد السعوديون بها. إن حمل السياسات الأميركية لتتوافق مع المملكة العربية السعودية من المرجح خلق شرق أوسط ملائم بدرجة أقل لمصالح الولايات المتحدة مما أفسدته إدارة أوباما». وتكمل شيك وتقول: «يريد السعوديون شرق أوسط مختلف عما نفعله.. يعارض السعوديون الديموقراطية.. هم يعارضون حرية الصحافة.. هم يعارضون حرية الاعتقاد وممارسة شعائر خارج الاسلام.. إنهم يعارضون مساواة المرأة أمام القانون.. إنهم يعارضون فكرة أن الافراد لهم حقوق ويقرضونهم بطرق معينة ولأغراض محددة للحكومات». «لا يعارض السعوديون فقط القيم الأساسية للمجتمع الأميركي، لكنهم موّلوا بعض أشد الجهاديين ضراوة». «يريد السعوديون أن يدعم الأميركيون الجهاديين في سوريا وعودة الدولة العميقة إلى السلطة في مصر (نموذج يودّون تأبيده في جميع أنحاء المنطقة)». وبعد أن تعرض الكاتبة للاحتمالات التي قد تذهب إليها الرياض في معارضتها لإدارة أوباما وتقديرها للمخاطر التي قد تنجم عنها هذه الخيارات تقدم نصيحتها لإدارة أوباما مستعيرة عبارة «الخط الأحمر» من الرئيس نفسه، لكن هذه المرة بوجه السعوديين بقولها: «وإذا كان هناك من خط أحمر يجعل الرئيس أوباما ذا مصداقية، فيكون باستعداده التخلي عن البلدان التي تعتمد على المساعدة الأميركية». خيارات السعودية حيال الولايات المتحدة: بعيداً عن الصخب الذي رافق التصعيد الحاد في التوتر في العلاقات بين الرياض وواشنطن، فإن القراءة المتأنية لحقيقة الشراكة بين الطرفين تشير بكل وضوح إلى أن هذه الشراكة غير متكافئة. الطرف السعودي هو الأضعف في هذه العلاقة، وهو ليس في موقع يسمح له أن يملي شروطه، وبالتالي فإن خياراته محدودة إن لم تكن معدومة. وفقاً لهذا المنظور، فإن ما نقل عن لسان الأمير بندر بن سلطان عن عزم بلاده تقليص مستوى العلاقات مع الولايات المتحدة تحت عنوان أنها لا تريد بعد الآن أن تجد نفسها في وضع التبعية (لواشنطن)، بالإضافة إلى التهديد الذي أطلقه الأمير محمد بن نواف سفير السعودية في بريطانيا عبر مقالة كتبها في صحيفة النيويورك تايمز (17 كانون الأول) بأن كل «الخيارات متاحة» أمام بلاده، فإن هذا النوع من التصريحات هو مجرد أقوال لن ترقى بأي حال من الاحوال إلى مستوى الأفعال، إذ يصعب على المملكة التي احتفظت بتحالف قوي مع الولايات المتحدة لعقود طويلة أن تجد لنفسها تحالفات مع قوى بديلة بهذه السهولة. تُرى ما هي الخيارات المتاحة امام الأسرة المالكة في السعودية؟ هذه القوى البديلة تنحصر في كل من الصين وروسيا والاتحاد الأوروبي وهذا الأخير هو تجمع فضفاض من بين دوله الـ28 يمكن الاشارة في هذا الخصوص إلى فرنسا وبريطانيا. الصين: من دون شك أن العلاقات السعودية ـ الصينية شهدت نمواً سريعاً في السنوات الأخيرة، ابتداءً من العام 2009 تجاوزت الصادرات السعودية النفطية إلى الصين تلك إلى الولايات المتحدة الأميركية لتصل إلى 1,2 مليون برميل يومياً لتمثل 21 في المئة من مجموع واردات الصين النفطية من العالم على أقل تقدير، وترافق ذلك مع ارتفاع الاستثمارات الصينية في السعودية في مختلف المجالات، الجدير بالذكر أن شركات المقاولات الصينية هي التي بنت نظام نقل الحجاج بالسكك الحديدية في مكة المكرمة. لكن لا يبدو أن تنامي العلاقات الاقتصادية بين الرياض وبكين متساوقاً على المستوى السياسي، واحتمال تطور العلاقات السياسية الصينية ـ السعودية يخففه موقفهما المتعارض تجاه الأزمة السورية، كما أن التوتر القائم في اقليم «سيكيانغ» ذي الأغلبية المسلمة في الصين، يُبقي نوعاً من الحذر لدى القيادة الصينية تجاه الاسرة المالكة السعودية، بالإضافة إلى أن الروابط الوثيقة التي تجمع بين بكين وطهران من شأنها أن تثير الريبة والقلق لدى حكام الرياض.   روسيا: بعكس الصين فإن روسيا بلد مصدّر للنفط وقد تجاوز إنتاجها اليومي من النفط أواخر العام 2013 الانتاج السعودي ولتتحول إلى البلد الأول المنتج للنفط في العالم 10,38 مليون برميل يومياً مقابل 9,35 مليون برميل للسعودية، وبالتالي فإن العلاقات الاقتصادية بين موسكو والرياض أقرب منها للتنافس من الاعتماد المتبادل. غير أن السعوديين الراغبين في التنويع في علاقاتهم، يبدون اهتماماً بروسيا كمصدر لتوريد السلاح، وهذا ما جرى التباحث حوله في الزيارتين التي قاما بهما الامير بندر بن سلطان إلى موسكو في النصف الثاني من العام الماضي 2013، كما أن هناك زيارة مرتقبة سيقوم بها نائب وزير الدفاع السعودي سليمان بن سلطان إلى موسكو من أجل وضع اللمسات الأخيرة لصفقات تسلح مع روسيا وقدّرت بعض المصادر بأن قيمة الصفقات المقترحة تصل إلى 12 مليار دولار بالإضافة إلى ما نقلته صحيفة «الكوميرسانت» القريبة من مصادر القرار في الكرملين عن موافقة السعودية على تمويل صفقة سلاح روسية لمصر بقيمة ما يقرب من 2 مليار دولار. بالطبع، فإن للقيادة السعودية حساباتها الخاصة في اعتماد «سياسة الجزرة» مع موسكو لعلها تنجح بإغرائها للابتعاد عن دمشق، لكن بعد سنوات طويلة من الحرب في الشيشان والعمليات الارهابية التي رافقتها والتي طالت أهدافاً روسية تجعل من الصعب ردم الهوة العميقة بين موسكو والرياض. فرنسا وبريطانيا: تبقى فرنسا وبريطانيا في مقدمة هذه «الخيارات المتاحة» بحسب «نواف عبيد» مستشار الحكومة السعودية، فالعلاقات مع بريطانيا قديمة أما مع فرنسا فهي في هذه الأيام في أحسن حالاتها وليس أدل على ذلك من صفقات السلاح التي تعقدها الرياض مع باريس وفي تشرين الأول الماضي زار وزير الدفاع الفرنسي جان ايف لو دريان (Jean Yves Le Drian) المملكة وزيارته هي الثالثة منذ تسلمه منصبه في أيار 2012 وصرّح في زيارته الأخيرة: «أن هناك تطابقاً في وجهات النظر بين السعودية وفرنسا بشأن الأزمات الاقليمية الرئيسة وعلى رأسها الملف النووي الايراني والأزمة السورية». ووفقاً لأحدث تقرير قُدّم إلى البرلمان الفرنسي عن صادرات الأسلحة، تبقى السعودية الزبون الأول لفرنسا خلال الفترة الممتدة من 2003 ـ 2014 مع ما يقرب من 7 مليارات يورو من العقود متقدمة بذلك على الهند والبرازيل. إلى أين تتجه العلاقات السعودية الأميركية؟ بعد أن استنفد السعوديون كل ما بوسعهم لإيصال الرسالة إلى الولايات المتحدة الأميركية وللعالم أجمع للتعبير عن سخطهم المرير تجاه إدارة اوباما وسياساتها الشرق أوسطية، فإن السؤال الذي يطرح تلقائياً: ماذا يريد السعوديون بالتحديد... وإلى أي مدى يمكن ان يذهبوا بعيداً عن واشنطن؟   لم يعد سراً أن السعوديين قد راهنوا على تدخل عسكري أميركي مباشر في سوريا كمقدمة للإطاحة بنظام بشار الأسد، وتندرج هذه الحرب المفترضة على سوريا ضمن المواجهة الكبرى التي يخوضها السعوديون ضد إيران، حيث يعولون دائماً في هذه المواجهة على الأميركيين لأنه ليس بمقدورهم الوقوف بوجه إيران، وهذا ما كان يثير الشعور بالمرارة لدى وزير الدفاع الأميركي الأسبق روبير غيتس بقوله: «بأن السعوديين يريدون أن يقاتلوا الإيرانيين حتى آخر أميركي». لكن توقيع الاتفاق النووي المؤقت بين القوى الغربية وإيران كان بمثابة السيناريو الأسوأ بالنسبة للسعوديين نتيجة خشيتهم من أن تقود احتمالات التقارب الأميركي الإيراني إلى إنهاء عزلة إيران التي حاولت فرضها عليها الولايات المتحدة الأميركية في أعقاب تأسيس الجمهورية الإسلامية العام 1979، وهذا ما وفر فرصة نادرة للمملكة العربية السعودية للبروز كلاعب محوري في الخليج، من هنا فإن أشد الكوابيس وطأة على السعوديين هو تصور استعادة المعادلة الإقليمية التي كانت قائمة في سبعينيات القرن الماضي، حيث لعبت إيران دور القوة الحامية الرئيسة في منطقة الخليج بموافقة من الولايات المتحدة، وترك للسعودية دور الشريك الأصغر ضمن ذلك الترتيب. لا بديل للسعودية عن الولايات المتحدة: أما وبعد أن تزعزعت ثقة الأسرة المالكة السعودية بواشنطن وعبّرت عن سخطها بأقصى ما يمكنها ذلك، هل يذهب السعوديون بعيداً عن الولايات المتحدة؟ ليس من المرجح أن يحدث ذلك، ليس لديهم مكان آخر ليذهب إليه السعوديون ـ كما يتندر أكثر من محلل أميركي. أما روبرت جوردان السفير الأميركي الأسبق لدى الرياض (2001ـ2003) فيقول «لا توجد دولة في العالم قادرة على توفير الحماية لحقولهم النفطية واقتصادهم أكثر من الولايات المتحدة، والسعوديون يدركون ذلك، لن نراهم يخرجون من الفلك الأميركي». ويضيف جوردان: «سيكون الاتصال بالروس والصينيين أكثر مما كان في الماضي، لقد قصدوا من قبل جهات أخرى بحثاً عن أسلحة وسنشهد المزيد من ذلك، لكن المناخ العام سيكون متمحوراً حول الولايات المتحدة». بالطبع، تشكل فرنسا أحد «الخيارات المتاحة»، كما سبقت الإشارة، لكن يجب عدم المبالغة أبداً في ذلك، وعلى حد تعبير إيان بلاك (Ian Black) في «الغارديان» (كانون الأول الماضي): «الفكرة القائلة بأن الصين أو فرنسا يمكن أن يحل أي منهما محل الولايات المتحدة في الوقت الراهن هي مجرد هراء خيالي». نحن أمام علاقة عميقة ومتشابكة من مختلف الجوانب، حيث تتم هيكلة الجيش السعودي والقوات الجوية على نسق الجيش الأميركي الذي يوفر لهم كميات هائلة من الأسلحة بالإضافة إلى الدعم والتدريب، كما أن اقتصاد المملكة يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالولايات المتحدة الأميركية، بحيث أن أي محاولة جادة لفك الارتباط على المدى الطويل ستكون باهظة الثمن وصعبة.   إن مراجعة «سريعة لأنواع المشروعات التي ينفذها الأميركيون في المملكة وحجم العقود التي أبرموها يشير إلى الروابط التي يصعب الانفكاك منها بين الطرفين، فعلى سبيل المثال هناك تعاون وثيق بين القوى الأمنية والعسكرية الأميركية وبين القوى العسكرية السعودية وليس لدى أي طرف منهما الحافز للتخلي عن هذه الشراكة، إذ يقوم الأميركيون بتجهيز وتدريب قوات الحرس الوطني السعودي، وهي قوة الأمن الداخلية الرئيسة للنظام السعودي وهم يفعلون ذلك منذ العام 1977، ويؤدون المهام نفسها في إنشاء مرافق أمنية لفرقة من 35 ألف عنصر في الحرس الوطني والتي يتم نشرها لحماية المنشآت النفطية ومحطات تحلية المياه ومحطات الطاقة والمرافق الحيوية الاخرى في البلاد. أما قيمة مشتريات الأسلحة والخدمات العسكرية التي طلبها السعوديون من الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة فتبدو الأرقام خيالية إذ تصل إلى 60 مليار دولار، من بينها 34 مليار دولار هي مجموع مبيعات السلاح الأميركية للسعودية فقط في العام 2012، بزيادة تعادل عشرة أضعاف مبيعات العام 2011، ومؤخراً خطرت وزارة الدفاع الأميركية الكونغرس بعزمها إبرام صفقة أسلحة للمملكة بقيمة 6,8 مليار دولار. هل يمكن تجاوز التوتر القائم في العلاقات بين الرياض وواشنطن؟ لا ينبغي أن تؤخذ تصريحات المسؤولين السعوديين ضد الولايات المتحدة على أنها إشارة منهم تعكس تخطيطهم للتخلي عن الشراكة الاستراتيجية مع واشنطن، خاصة في غمرة التحولات الكبيرة التي تشهدها المنطقة، غاية الأمر من الحملة السعودية انها تستهدف الضغط للتأثير على السياسات الأميركية التي لا ترضى عنها الرياض، باعتبار أن ما يحصل حالياً بين الحليفين يعبّر عن رؤيتين متناقضتين للتحولات الإقليمية ولا تملك القيادة السعودية أن تفرض إرادتها.. لن يتأخر الحليفان عاجلاً أم آجلاً لتجاوز خلافاتهما، لأن تراجع السعوديين عن علاقتهم بالولايات المتحدة الأميركية من شأن ذلك أن يكلفهم غالياً.

المصدر : السفير/أحمد ملّي


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة