دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
تقترب ساعة الحسم في المعركة التي ستكون ذات أثر حاسم في السياسة التركية اتجاه سورية؛ فإما أن تبقي على الغطاء الذي تنعم به أجهزة حزب العدالة والتنمية الحاكم لتنظيم عمليات تسليح المعارضة السورية، أو أن تنزع هذا الغطاء لينتشر أثرها على طول الحدود الجنوبية لتركيا بما يفسح المجال للغضب الشعبي ليجتاح قلاع "العدالة والتنمية". فما هي هذه المعركة وكيف تحضرت الإدارة السورية لها؟
ما هي المعركة التي ستحسم السياسة التركية اتجاه سورية .. وكيف استعدت سورية لها؟
شمال اللاذقية وغرب حلب وادلب، تمتد حتى جبال الأمانوس شمالاً والبحر المتوسط غرباً البقعة الجغرافية المعروفة باسم لواء اسكندرون، ضمت إلى تركيا بعد سنتين من سلخها عن سورية عام ١٩٣٧. ومنذ ذلك الوقت يعيش اللواء حياة مزدوجة بين الانتماء الثقافي والإثني والتاريخي الذي يجمعه ببقية الأراضي السورية، وبين الواقع السياسي والاقتصادي اليومي الذي يعيشه بسبب كونه داخل الحدود التركية.
مع الأزمة السورية عاش اللواء وضعاً فريداً، فهو ضم جنباً إلى جنب أكثر القطاعات تشدداً في ولائها للرئيس السوري بشار الأسد مع القطاعات المتعصبة الموالية تقليدياً منذ عشر أعوام لحزب العدالة والتنمية. فهناك في نفس المدينة في أنطاكية، أهم مدن اللواء، أحياءٌ لا تختلف في ولائها للرئيس الأسد عن أي حي في دمشق أو حلب أو اللاذقية. وهناك أيضاً أحياءٌ هي، بحسب التعبير المتداول بكثرة في الإعلام السوري، أقرب إلى أن تكون "حاضنة شعبية" للمعارضة السورية. وبين هذه وتلك أصبح لانتخابات بلدية أنطاكية، والتي باتت بحسب قانون الانتخابات الجديد تضم المدينة إضافة للبلدات والقرى التابعة لها، أهمية مضاعفة لأنها ستعني أن يكسر طرفٌ الآخر في معركة ويبعده عن ميدان التأثير بكل ما يعني ذلك من انتشار لهزيمة طرف ونصر الآخر وفق تأثير الدومينو إلى باقي المدن الحدودية المحاذية لسورية.
المرشحان الأبرز هما وزير العدل الأسبق "سعد الله أرغين" عن حزب العدالة والتنمية الحاكم، و"لطفي صواش" عن حزب الشعب الجمهوري، وهو عضو سابق في حزب العدالة، لم يلبث أن استقال وانضم إلى حزب الشعب.
يضم القطاع الموالي لحزب العدالة والتنمية الحاكم الفئات الشعبية المتعصبة وأنصار اليمين التقليدي مع ميل واضح للكارتيلات الاقتصادية الكبيرة إلى جانبه. أما حزب الشعب فإن مؤيديه يتوزعون على طيف من اليساريين المعتدلين والكماليين والمتدينين المناهضين للأردوغانية إضافة إلى أنصار التيار القومي العربي في المدينة.
لا يميز التيار القومي العربي إلا تشبثه العاطفي بسورية، وبالرئيس بشار الأسد شخصياً. وليس له تنظيم واقعي على الأرض يمثله. ويبدو أن الفراغ السياسي الذي خلقته هجرة الطاقم الممثل بـ"زكي الأرسوزي" ورفاقه عام ١٩٣٧، والذي أسس فيما بعد حزب البعث العربي في دمشق، لم تستطع أية شخصية أن تملأه بعد. ولذا فهو يتوزع بين الأحزاب اليسارية الصغيرة بشكل عام. ولكنه في الانتخابات البلدية، وفي أنطاكية بالذات، يصف مع حزب الشعب الجمهوري على قاعدة "عدو عدوي صديقي".
يعتبر أغلب أنصار التيار القومي العربي، والذي كما قلنا لا بنية سياسية له وإنما هو شعور عاطفي، أن لا تخيير في مسألة الوقوف مع حزب الشعب الجمهوري، حيث الأولوية الآن هي في إسقاط مرشح حزب العدالة والتنمية بهدف إرباك سياسته اتجاه سورية. وذلك بالرغم من كل المآخذ على حزب الشعب الجمهوري، وعلى رأسها ترشيحه عضواً سابقاً في حزب العدالة.
ويختلف أنصار التيار العربي في هذه النقطة بالذات؛ فمنهم من يرى أن هذا المرشح، وإن كان أردوغانياً سابقاً فإنه في حال نجاحه سيلتزم بالخط السياسي لحزب الشعب، والذي يجنح إلى الاعتدال في المسألة السورية.؛ ومنهم من يعتبر أن وجوده بحد ذاته محبط لآمال التغيير في السياسة اتجاه سورية.
أحد النقاط الهامة في الانتخابات البلدية هو تدفق المهاجرين السوريين. ويلحظ أن المستوى المتدني أخلاقياً لمن يقدمون أنفسهم كمعارضين سوريين أدى لتضاؤل في شعبية حزب العدالة والتنمية في المناطق التي لهم وجود كثيف فيها. ونضرب مثالاً بلدة الريحانية التي تعد قلعة تقليدية من قلاع حزب العدالة والتنمية، أما الآن فإن حزب الشعب الجمهوري بات ينافس بجدية على رئاسة بلديتها، وعلى تصويتها لصالح مرشحه في بلدية أنطاكية. وقد سرع التفجير الشهير في البلدة، والذي تبناه تنظيم "داعش" الإرهابي، من تضاؤل شعبية "العدالة والتنمية" ونمو شعبية "الشعب الجمهوري".
وتتقارب حظوظ المرشحين. ولكن بملاحظة عموم الانتخابات في تركيا يمكن القول أن هناك دائماً قطاعاً يبلغ حوالي ٣٠% من عموم المقترعين غير ثابت على رأي معين. وهذا القطاع يمكن له أن يغير نتيجة الانتخابات. وهذا يجعل الانتخابات مفتوحة على شتى المفاجآت وعموم التقلبات. وعلى سبيل المثال كان للمجزرة الأخيرة في معان في ريف حماه أثر وصدى كبير في اللواء، إذ أن لعائلة آل خضور التي قدمت النصيب الأكبر من الضحايا في المجزرة امتداد آخر بنفس الاسم في اللواء. وتقبل آل خضور اللوائيون العزاء بأقاربهم في سورية، محملين حزب "أردوغان" المسؤولية على قدم المساواة مع التنظيمات الإرهابية.
وهكذا فقد أحس اللوائيون العرب أكثر فأكثر بأنهم قريبون من الصراع، تلفحهم أنفاسه الحارة، ويسقط أقرباؤهم قتلى فيه. وأصبحوا يشعرون بالقلق والتوتر إزاء الإشاعات التي تجوب أحيائهم وقراهم حول خلايا نائمة لـ"داعش" و"النصرة" بينهم. وكل هذا سينعكس على الانتخابات. وهو ما بات يجعل المعركة قريبة إلى أن تكون فاصلة.
وتختلف الاستطلاعات المنشورة في تقديرها لقوة الخصمين لكنها تتفق على أرجحية لمرشح "العدالة والتنمية" بنسبة تتراوح بين نقطة واحدة وخمسة نقاط. وهذا التقارب يعني دوام إمكانية التأثير على النتائج.
ويلاحظ أن زعيم "الشعب الجمهوري"، "كمال كيليتشدار أوغلو"، واثق من وقوف التيار القومي العربي مع حزبه أياً كانت الملاحظات عليه. ولذا فقد قام مؤخراً بانتقاد الرئيس الأسد بشدة دونما خشية من انفضاض أنصار الأخير من حوله. ويمكن تفسير ذلك برغبته بمحاولة اجتذاب ما تيسر من أصوات اليمين التقليدي والأصوات المنفضة من حزب العدالة بعد فضائح الفساد الأخيرة، إذ أن هذه القطاعات لا تزال في جزء هام منها على عداء مستحكم مع ما يمثله الأسد.
وتكشف مناورة "كيليتشدار أوغلو" هذه عن ثقته بخيار أنصار الأسد بسبب محدودية خياراتهم، وأيضاً عن عدم وجود من يفاوض باسمهم.
موقف الإدارة السورية حيال المعركة الانتخابية يبقى مبهماً، وكل من استطعنا الوصول إليهم من المسؤولين لم يعطنا إجابة شافية. وتنوعت الإجابات بين توجيه التحية لـ"الشعب العربي السوري اللوائي"، والتعبير عن "الإدانة بأشد العبارات لسياسات حزب العدالة والتنمية القمعية". كما لم تفلح جهودنا في معرفة اسم الشخص أو الجهة المسؤولة عن الملف، وهل هناك ملف كهذا فعلاً؟
الإجابة تقدمها صحيفة "الثورة" السورية؛ فالصحيفة بدأت في تخصيص صفحة للواء. ولكن كل المواد المنشورة في الصفحة تبدأ منذ التاريخ الموغل في القدم وتتوقف في أواخر الثلاثينات، ولا تتقدم أكثر من ذلك. أما الواقع الحالي للواء وللحركة العربية فيه، وأما تطلعات أنصار الأسد في لواء اسكندرون ومشاكلهم فليست الصفحة في واردها.
وتشخيص وسائل الإعلام الرسمية السورية للمسألة اللوائية يمتاز عموماً بالتبسيط الشديد، معتقداً أنها عبارة عن قطعة أرض مسلوبة سيتم استرجاعها بوسائل شبيهة بالمقاومة اللبنانية، متعامياً عن المشاكل الراهنة التي تحتاج لحلول غير عسكرية مثل التتريك وطمس التاريخ السامي في المنطقة كالآثار الكنعانية، متجاهلاً عدم إمكانية فتح حرب ضد الأتراك لأسباب إنسانية قبل الميدانية.
إن ترك الإدارة السورية الحبل على غاربه في المسألة اللوائية يحمل في طياته حيائها التاريخي من تهمة "العلوية"، فحيث أن أغلب (أغلب وليس كل) أنصار الأسد في لواء اسكندرون من الطائفة العلوية فإن الإدارة في سورية تستحي من اتهامها بالطائفية.
بقي على الانتخابات حوالي الشهر، ولا زالت مفتوحة على المفاجآت. فهل تفعلها الإدارة السورية وتقرر أن تبدأ بالهجوم المعاكس على حزب السلطة في تركيا، أم ستبقى على حيائها من تهمة الطائفية التي لن تسقط عنها طالما بقي للإعلام الأطلسي قائم؟
المصدر :
آسيا /سومر سلطان
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة