يخطئ كثيرون عندما يعوّلون - أو يتحدثون عما يتمنون- بأن تغيّر تركيا - أردوغان سياستها تجاه سوريا، علمًا أن شخصية أردوغان وتصريحات وزير خارجيته أحمد داود اوغلو لا تشي بهذا الأمر. ولعل ما تعيشه تركيا من تداعيات داخلية نتيجة تدخلها في الحدث السوري بشكل خاص، و"الربيع" العربي بشكل عام، ينبئ بأن نهاية الأردوغانية لن تكون نهاية سعيدة في تركيا، بل سيصحبها الكثير من الهزات السياسية والأمنية وانقسامات داخل النظام السياسي الذي يسيطر عليه حزب العدالة والتنمية.

تعيش تركيا اليوم وضعًا لا يشبه وضعها قبل بدء موجة التغيير العربي، حيث حلم أردوغان بأن ينصّب نفسه سلطانًا عثمانيًا، يحكم المساحة الممتدة من الخليج الى المحيط، ويصل الى معظم آسيا الوسطى، وكل ذلك برضى وموافقة غربية.

ويعتقد أردوغان مخطئًا أنه يستطيع أن يقود مشروعًا ويفشل فيه، ويبقى مستمرًا في الحكم وكأن شيئًا لم يكن، لا بل يحلم بأن يجدده عبر وسائل أخرى منها التقرب من الايرانيين والسباق الى إقامة الاتفاقيات التجارية معهم وتبادل الزيارات والكلام الانفتاحي. ثم محاولة إقامة علاقات اقتصادية مع جزء من الأكراد في العراق متحديًا السلطة المركزية في بغداد، بينما تجري اشتباكات دامية بين أنصار منظمة حزب العمال الكردستاني وقوات الشرطة، في عدد من مدن وبلدات منطقة جنوب شرقي تركيا، وخاصة في محافظة هكاري المجاورة للعراق.

كما يحاول أردوغان أن يدغدغ مشاعر العرب والاتراك في الداخل من خلال التصريحات النارية التي تراجع فيها عن التسوية التي جرت مع رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو، حول قضية سفينة مرمرة والتي قام خلالها نتياهو بالاعتذار من الاتراك والتعهد  بدفع تعويضات مادية، وما أن وصلت الأمور الى خواتيمها حتى رفع أردوغان السقف مشترطًا رفع الحصار البحري المفروض على غزة قبل إعادة العلاقات الى سابق عهدها، وهو لم يكن في صلب المفاوضات بين الاثنين في أي وقت من الاوقات.

لكن محاولات أردوغان لإعادة تعويم الاقتصاد وتعويم نفسه، يقابها تقارير قد تؤدي الى أعتبار تركيا دولة فاشلة بكل المقاييس ومنها:

- - التدخل في شؤون السلطة القضائية وتهديدها، فقد أقالت السلطات التركية نحو 20 شخصًا من كبار المدعين العامّين، على خلفية قيامهم بالتحقيق في قضايا الفساد التي طالت عددًا من الوزراء في حكومة إردوغان. هذا بالاضافة الى مشروع قانون قدمه حزب العدالة والتنمية الحاكم يهدف الى السيطرة على القضاء، ويمنح وزارة العدل الكلمة الفصل بتعيين القضاة في مؤسسات قضائية مهمة مثل المحكمة الدستورية، في تحدٍ صريح لمبدأ الفصل بين السلطات المعمول به في كل النظم الدستورية.

- - الوضع الاقتصادي الذي يشكّل ضغوطًا قوية على الليرة التركية، التي هبطت الى أدنى مستوى لها تجاه الدولار خلال شهر كانون الثاني الماضي، خاصة بعد الكشف عن فضيحة الفساد المتورط بها العديد من المصرفيين الكبار في تركيا. كما تعاني تركيا من مشكلة التضخم، بعد أن ارتفعت مؤشراته من 5.3′ إلى 6.6 ‘ في العام 2014.

- الحريات الاعلامية: تنتشر التقارير التي تتحدث عن افتقار تركيا للهياكل القانونية اللازمة لحماية حرية الرأي والتعبير. وقد ذكرت منظمة “مراسلون بلا حدود” في تصنيفها السنوي لعام 2014 لحرية الإعلام في العالم أن تركيا لا تزال تشكل واحدًا من أكبر السجون في العالم بالنسبة إلى الصحفيين. كما أنها لم تسجل أي تقدم في ما يتعلق بحرية الصحافة والإعلام خلال العام الماضي لتحلّ في المرتبة الـ154 على قائمة المنظمة.

وتتحدث التقارير عن ترهيب للاعلاميين بالسجن أو بالطرد من أعمالهم، وبتدخل مباشر من أردوغان أحيانًا، للتغطية والتعتيم على على قضايا الفساد وتقييد الحريات والقمع. ولعل تبني البرلمان التركي لقانون الانترنت الجديد المثير للجدل، والذي يسمح للسلطات بحجب صفحات وإغلاق مواقع إلكترونية دون أمر من المحكمة، وإجبار مزودي خدمة الإنترنت على تخزين كافة بيانات المستخدمين لمدة تصل إلى سنتين، وتسليمها للحكومة عند الطلب، يشير الى عمق الأزمة في تركيا، والتي تتجه الى مزيد من التصعيد كلما اقتربت الانتخابات المحلية.

- التضييق على حرية التجمع والجمعيات غير الحكومية حيث يهدد أردوغان منظمات المجتمع المدني ويتهمها بالتورط في مؤامرات أجنبية لإثارة اضطرابات شعبية، ويقوم بالتضييق على الجمعيات التي تتلقى تمويلاً أجنبيًا، وخاصة تلك المعروفة بتلقي الدعم من الولايات المتحدة الاميركية.

- سياسات التطهير التعسفية خاصة للشرطة، فقد قامت وزراة الداخلية ومديرية الأمن العام في تركيا، بإصدار قرارات بنقل ضباط وأفراد من الشرطة والاستخبارات، على خلفية كشفهم قضايا فساد ورشاوى قامت بها مجموعات تابعة لأردوغان، كما أقالت السلطات التركية أقالت جميع الشرطيين في محافظة (فان) الذين شاركوا في عملية القبض على أشخاص يشتبه في انتمائهم لتنظيم القاعدة.

 

كل ما يحدث في تركيا، ومحاولة أردوغان وحكومته لدفن رؤوسهم في الرمال، ومحاولة المواجهة بدل الاحتواء والاعتراف بالخطأ في السياسات الداخلية والخارجية، خاصة في ما يختص بالتدخل في شؤون سوريا، يدلّ على أن تركيا تتجه لأن تصبح دولة فاشلة سرعان ما تهرب منها الرساميل التي لا ترغب بالاستثمار إلا في دول يحترم فيها القانون والمؤسسات ولا يتمّ التدخل في شؤون القضاء، وأن يكون الجميع - بمن فيهم أردوغان شخصيًا- تحت سقف القانون. وهكذا يكون "الربيع" العربي، قد ضرب تركيا داخليًا، وقوّض سمعتها الخارجية، وجعل على حدودها خطرين لا يختلفان من حيث الخطورة بالنسبة للاتراك: قيام اقليم كردي سوري ذا حكم ذاتي، وقيام دويلة داعش على حدودها المباشرة مع سوريا.

  • فريق ماسة
  • 2014-02-15
  • 9187
  • من الأرشيف

هل حان دور الربيع التركي؟

يخطئ كثيرون عندما يعوّلون - أو يتحدثون عما يتمنون- بأن تغيّر تركيا - أردوغان سياستها تجاه سوريا، علمًا أن شخصية أردوغان وتصريحات وزير خارجيته أحمد داود اوغلو لا تشي بهذا الأمر. ولعل ما تعيشه تركيا من تداعيات داخلية نتيجة تدخلها في الحدث السوري بشكل خاص، و"الربيع" العربي بشكل عام، ينبئ بأن نهاية الأردوغانية لن تكون نهاية سعيدة في تركيا، بل سيصحبها الكثير من الهزات السياسية والأمنية وانقسامات داخل النظام السياسي الذي يسيطر عليه حزب العدالة والتنمية. تعيش تركيا اليوم وضعًا لا يشبه وضعها قبل بدء موجة التغيير العربي، حيث حلم أردوغان بأن ينصّب نفسه سلطانًا عثمانيًا، يحكم المساحة الممتدة من الخليج الى المحيط، ويصل الى معظم آسيا الوسطى، وكل ذلك برضى وموافقة غربية. ويعتقد أردوغان مخطئًا أنه يستطيع أن يقود مشروعًا ويفشل فيه، ويبقى مستمرًا في الحكم وكأن شيئًا لم يكن، لا بل يحلم بأن يجدده عبر وسائل أخرى منها التقرب من الايرانيين والسباق الى إقامة الاتفاقيات التجارية معهم وتبادل الزيارات والكلام الانفتاحي. ثم محاولة إقامة علاقات اقتصادية مع جزء من الأكراد في العراق متحديًا السلطة المركزية في بغداد، بينما تجري اشتباكات دامية بين أنصار منظمة حزب العمال الكردستاني وقوات الشرطة، في عدد من مدن وبلدات منطقة جنوب شرقي تركيا، وخاصة في محافظة هكاري المجاورة للعراق. كما يحاول أردوغان أن يدغدغ مشاعر العرب والاتراك في الداخل من خلال التصريحات النارية التي تراجع فيها عن التسوية التي جرت مع رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو، حول قضية سفينة مرمرة والتي قام خلالها نتياهو بالاعتذار من الاتراك والتعهد  بدفع تعويضات مادية، وما أن وصلت الأمور الى خواتيمها حتى رفع أردوغان السقف مشترطًا رفع الحصار البحري المفروض على غزة قبل إعادة العلاقات الى سابق عهدها، وهو لم يكن في صلب المفاوضات بين الاثنين في أي وقت من الاوقات. لكن محاولات أردوغان لإعادة تعويم الاقتصاد وتعويم نفسه، يقابها تقارير قد تؤدي الى أعتبار تركيا دولة فاشلة بكل المقاييس ومنها: - - التدخل في شؤون السلطة القضائية وتهديدها، فقد أقالت السلطات التركية نحو 20 شخصًا من كبار المدعين العامّين، على خلفية قيامهم بالتحقيق في قضايا الفساد التي طالت عددًا من الوزراء في حكومة إردوغان. هذا بالاضافة الى مشروع قانون قدمه حزب العدالة والتنمية الحاكم يهدف الى السيطرة على القضاء، ويمنح وزارة العدل الكلمة الفصل بتعيين القضاة في مؤسسات قضائية مهمة مثل المحكمة الدستورية، في تحدٍ صريح لمبدأ الفصل بين السلطات المعمول به في كل النظم الدستورية. - - الوضع الاقتصادي الذي يشكّل ضغوطًا قوية على الليرة التركية، التي هبطت الى أدنى مستوى لها تجاه الدولار خلال شهر كانون الثاني الماضي، خاصة بعد الكشف عن فضيحة الفساد المتورط بها العديد من المصرفيين الكبار في تركيا. كما تعاني تركيا من مشكلة التضخم، بعد أن ارتفعت مؤشراته من 5.3′ إلى 6.6 ‘ في العام 2014. - الحريات الاعلامية: تنتشر التقارير التي تتحدث عن افتقار تركيا للهياكل القانونية اللازمة لحماية حرية الرأي والتعبير. وقد ذكرت منظمة “مراسلون بلا حدود” في تصنيفها السنوي لعام 2014 لحرية الإعلام في العالم أن تركيا لا تزال تشكل واحدًا من أكبر السجون في العالم بالنسبة إلى الصحفيين. كما أنها لم تسجل أي تقدم في ما يتعلق بحرية الصحافة والإعلام خلال العام الماضي لتحلّ في المرتبة الـ154 على قائمة المنظمة. وتتحدث التقارير عن ترهيب للاعلاميين بالسجن أو بالطرد من أعمالهم، وبتدخل مباشر من أردوغان أحيانًا، للتغطية والتعتيم على على قضايا الفساد وتقييد الحريات والقمع. ولعل تبني البرلمان التركي لقانون الانترنت الجديد المثير للجدل، والذي يسمح للسلطات بحجب صفحات وإغلاق مواقع إلكترونية دون أمر من المحكمة، وإجبار مزودي خدمة الإنترنت على تخزين كافة بيانات المستخدمين لمدة تصل إلى سنتين، وتسليمها للحكومة عند الطلب، يشير الى عمق الأزمة في تركيا، والتي تتجه الى مزيد من التصعيد كلما اقتربت الانتخابات المحلية. - التضييق على حرية التجمع والجمعيات غير الحكومية حيث يهدد أردوغان منظمات المجتمع المدني ويتهمها بالتورط في مؤامرات أجنبية لإثارة اضطرابات شعبية، ويقوم بالتضييق على الجمعيات التي تتلقى تمويلاً أجنبيًا، وخاصة تلك المعروفة بتلقي الدعم من الولايات المتحدة الاميركية. - سياسات التطهير التعسفية خاصة للشرطة، فقد قامت وزراة الداخلية ومديرية الأمن العام في تركيا، بإصدار قرارات بنقل ضباط وأفراد من الشرطة والاستخبارات، على خلفية كشفهم قضايا فساد ورشاوى قامت بها مجموعات تابعة لأردوغان، كما أقالت السلطات التركية أقالت جميع الشرطيين في محافظة (فان) الذين شاركوا في عملية القبض على أشخاص يشتبه في انتمائهم لتنظيم القاعدة.   كل ما يحدث في تركيا، ومحاولة أردوغان وحكومته لدفن رؤوسهم في الرمال، ومحاولة المواجهة بدل الاحتواء والاعتراف بالخطأ في السياسات الداخلية والخارجية، خاصة في ما يختص بالتدخل في شؤون سوريا، يدلّ على أن تركيا تتجه لأن تصبح دولة فاشلة سرعان ما تهرب منها الرساميل التي لا ترغب بالاستثمار إلا في دول يحترم فيها القانون والمؤسسات ولا يتمّ التدخل في شؤون القضاء، وأن يكون الجميع - بمن فيهم أردوغان شخصيًا- تحت سقف القانون. وهكذا يكون "الربيع" العربي، قد ضرب تركيا داخليًا، وقوّض سمعتها الخارجية، وجعل على حدودها خطرين لا يختلفان من حيث الخطورة بالنسبة للاتراك: قيام اقليم كردي سوري ذا حكم ذاتي، وقيام دويلة داعش على حدودها المباشرة مع سوريا.

المصدر : ليلى نقولا الرحباني -


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة