عندما يدعو السيد عبد الله غول رئيس تركيا إلى إحداث تغيير جذري في سياسة بلاده تجاه تطورات الأوضاع في سورية وقبل أسبوع من انعقاد مؤتمر جنيف2 الذي سيبحث الوصول إلى حل سياسي كمقدمة لإنهاء الحرب في سورية ، فهذا يعني أن الرئيس  بشار الأسد ونظامه باق في المستقبل المنظور، وأن فرص الرهان على سقوطه باتت محدودة.

السيد غول، وللمرة الأولى منذ تدخل بلاده بقوة سياسيا وعسكريا للتعجيل بإطاحة الرئيس الأسد من خلال دعم المعارضة المسلحة، وتسهيل مرور الأموال والسلاح و"المجاهدين" عبر أراضيها، يعترف في لقاء مع سفراء بلاده في أنقرة “أن الوضع الحالي يشكل سيناريو خاسرا لكل دولة ونظام وشعب في المنطقة، ونحن ندرس ما يمكن أن نفعله للخروج بوضع يخدم الجميع في المنطقة”.

اختيار الرئيس التركي لتفجير هذه القنبلة التراجعية هذه جاء محسوبا، وفي نطاق تبادل الأدوار مع السيد رجب طيب اردوغان رئيس الوزراء التركي الذي كان شرسا في مواقفه وتصريحاته ضد النظام السوري الحالي، لدرجة خروجه عن النص وشن هجوم شخصي على الرئيس الأسد ، والتأكيد أكثر من مرة أن أيامه باتت معدودة.

السؤال الذي يطرح نفسه بقوة هو عن أسباب هذا التحول في الموقف التركي هذا الذي ينبيء بتراجع كبير، ويؤشر لانسحاب تدريجي من الأزمة السورية، ربما يتطور إلى استئناف للعلاقات؟

***

يمكن تلخيص هذه الأسباب وتفرعاتها في النقاط التالية:

*أولا: السيد اردوغان أدرك جيدا أن قراءته ومن ثم حساباته، للوضع السوري كانت غير دقيقة، إن لم تكن متعجلة، ولذلك جاءت إدارته للأزمة مع سورية بنتائج عكسية تماما، وخاصة رهانه على جماعة الإخوان المسلمين كقوة رئيسية للتغيير.

*ثانيا: النظام السوري نجح في امتصاص الدور التركي ومحاربته بالسلاح نفسه، أي تفجير أزمة في الداخل التركي مستخدما كل الأوراق المتاحة له، وعلى رأسها ورقة المعارضة العلمانية (الحزب الجمهوري)، وتحريك الملف الطائفي أيضا، ......

*ثالثا: تصاعد فضائح الفساد التي هزت حكومة السيد اردوغان، وتورط وزراء ومسؤولين كبار في حزبه في هذه الفضائح، وتصاعد وتيرة الاحتجاجات الشعبية ضده، وتراجع شعبيته وحزبه في استطلاعات الرأي الأخيرة.

*رابعا: تبني الدول الغربية بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا لنظرية تقول بأن الأولوية في سورية ليست إطاحة نظام الرئيس بشار الأسد بقدر ما هي مواجهة الجماعات الجهادية.

*خامسا: تراجع أهمية ودور المحور التركي القطري في الأزمة السورية لصالح الدور السعودي، حيث باتت السعودية هي اللاعب الأكبر من خلال ضخ مليارات الدولارات لصالح تمويل وتسليح فصائل المعارضة المقاتلة وتوحيدها في إطار "الجبهة الإسلامية".

*سادسا: نجاح الجماعات الإسلامية التي تتبنى ايديولوجية القاعدة في اختراق الداخل التركي وتجنيد المئات من الشبان الأتراك للقتال في صفوفها، خاصة في المناطق الحدودية مع سورية، وعودة بعض هؤلاء للتبشير بايديولوجيتهم الطائفية الجهادية في العمق التركي.

*سابعا: خوف السيد اردوغان من ملاحقة تركيا قضائيا بتهمة دعم الإرهاب في محاكم دولية بسبب دورها في مرور المجاهدين العرب والأجانب عبر أراضيها إلى سورية.

***

  اردوغان سياسي محنك، ويتمتع بدرجة عالية من البراغماتية، ولا يتورع مطلقا عن التراجع عن سياسات ورهانات يرى أنها خاسرة، مثلما حدث في ملف حديقة غيزي وسط اسطنبول، لذلك من غير المستبعد أن يفعل الشيء نفسه فيما يتعلق بالأزمة السورية، خاصة بعد أن شاهد الانقسامات الحادة في صفوف المعارضة السورية، وتقلب ولاءاتها، وفشل كل المحاولات لتوحيدها تحت مظلة وفد موحد للمشاركة في مؤتمر جنيف في مقابل استمرار قوة النظام وتوقف الانشقاقات في صفوف قواته وسلكه الدبلوماسي.

التمهيد للتراجع التركي هذا بدأ من خلال ترسيخ العلاقة مع طهران، وزيارة السيد احمد داوود اوغلو  إلى طهران، ومن ثم العراق ودعوة السيدين حسن روحاني رئيس ايران ونوري المالكي رئيس وزراء العراق لزيارة أنقرة.

هذا التقارب التركي مع حليفي النظام السوري الأساسيين، أي إيران والعراق، علاوة على زيارة السيد اردوغان الأخيرة إلى موسكو لتعزيز العلاقات معها، كلها بوابات أساسية لإعادة العلاقات مع سورية بطريقة أو بأخرى.

عندما قلنا في مقال سابق أننا لا نستبعد أن نرى السيد اوغلو في دمشق قريبا، استغرب ذلك الكثيرون، وما زلنا عند رأينا، ونرى أن هذه الزيارة باتت أقرب من أي وقت مضى، فالسياسة هي فن المصالح، ولا عواطف أو مبادىء فيها عندما تتعرض هذه المصالح، وخاصة مصلحة بقاء النظام، اي نظام للخطر.

انجازات السيد اردوغان الضخمة السياسية والاقتصادية باتت مهددة بالخطر، والشيء نفسه يقال عن نموذجه الإسلامي المعتدل في الحكم، الأمر الذي بات يحتم عليه التراجع وبسرعة قبل فوات الأوان، وهذا ما عبرت عنه خطوة وتصريحات الرئيس غول بطريقة غير مباشرة في لقائه مع الدبلوماسيين الأتراك.

تركيا اردوغان خسرت مشروعها في دعم حكومات الاخوان في مصر وتونس، واليمن دون أن تكسب السعودية ودول الخليج الأخرى (باستثناء قطر) مثلما خسرت إيران والعراق وروسيا، ولذلك من المتوقع أن تبدأ عملية “ترميم” سياسة ودبلوماسية “زيرو مشاكل” مع دول الجوار، وخاصة سورية في الانطلاق بسرعة اكبر قريبا جدا.

  • فريق ماسة
  • 2014-01-30
  • 7771
  • من الأرشيف

اردوغان يمهد للعودة إلى سورية الأسد عبر البوابتين الإيرانية والروسية / عبد الباري عطوان

عندما يدعو السيد عبد الله غول رئيس تركيا إلى إحداث تغيير جذري في سياسة بلاده تجاه تطورات الأوضاع في سورية وقبل أسبوع من انعقاد مؤتمر جنيف2 الذي سيبحث الوصول إلى حل سياسي كمقدمة لإنهاء الحرب في سورية ، فهذا يعني أن الرئيس  بشار الأسد ونظامه باق في المستقبل المنظور، وأن فرص الرهان على سقوطه باتت محدودة. السيد غول، وللمرة الأولى منذ تدخل بلاده بقوة سياسيا وعسكريا للتعجيل بإطاحة الرئيس الأسد من خلال دعم المعارضة المسلحة، وتسهيل مرور الأموال والسلاح و"المجاهدين" عبر أراضيها، يعترف في لقاء مع سفراء بلاده في أنقرة “أن الوضع الحالي يشكل سيناريو خاسرا لكل دولة ونظام وشعب في المنطقة، ونحن ندرس ما يمكن أن نفعله للخروج بوضع يخدم الجميع في المنطقة”. اختيار الرئيس التركي لتفجير هذه القنبلة التراجعية هذه جاء محسوبا، وفي نطاق تبادل الأدوار مع السيد رجب طيب اردوغان رئيس الوزراء التركي الذي كان شرسا في مواقفه وتصريحاته ضد النظام السوري الحالي، لدرجة خروجه عن النص وشن هجوم شخصي على الرئيس الأسد ، والتأكيد أكثر من مرة أن أيامه باتت معدودة. السؤال الذي يطرح نفسه بقوة هو عن أسباب هذا التحول في الموقف التركي هذا الذي ينبيء بتراجع كبير، ويؤشر لانسحاب تدريجي من الأزمة السورية، ربما يتطور إلى استئناف للعلاقات؟ *** يمكن تلخيص هذه الأسباب وتفرعاتها في النقاط التالية: *أولا: السيد اردوغان أدرك جيدا أن قراءته ومن ثم حساباته، للوضع السوري كانت غير دقيقة، إن لم تكن متعجلة، ولذلك جاءت إدارته للأزمة مع سورية بنتائج عكسية تماما، وخاصة رهانه على جماعة الإخوان المسلمين كقوة رئيسية للتغيير. *ثانيا: النظام السوري نجح في امتصاص الدور التركي ومحاربته بالسلاح نفسه، أي تفجير أزمة في الداخل التركي مستخدما كل الأوراق المتاحة له، وعلى رأسها ورقة المعارضة العلمانية (الحزب الجمهوري)، وتحريك الملف الطائفي أيضا، ...... *ثالثا: تصاعد فضائح الفساد التي هزت حكومة السيد اردوغان، وتورط وزراء ومسؤولين كبار في حزبه في هذه الفضائح، وتصاعد وتيرة الاحتجاجات الشعبية ضده، وتراجع شعبيته وحزبه في استطلاعات الرأي الأخيرة. *رابعا: تبني الدول الغربية بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا لنظرية تقول بأن الأولوية في سورية ليست إطاحة نظام الرئيس بشار الأسد بقدر ما هي مواجهة الجماعات الجهادية. *خامسا: تراجع أهمية ودور المحور التركي القطري في الأزمة السورية لصالح الدور السعودي، حيث باتت السعودية هي اللاعب الأكبر من خلال ضخ مليارات الدولارات لصالح تمويل وتسليح فصائل المعارضة المقاتلة وتوحيدها في إطار "الجبهة الإسلامية". *سادسا: نجاح الجماعات الإسلامية التي تتبنى ايديولوجية القاعدة في اختراق الداخل التركي وتجنيد المئات من الشبان الأتراك للقتال في صفوفها، خاصة في المناطق الحدودية مع سورية، وعودة بعض هؤلاء للتبشير بايديولوجيتهم الطائفية الجهادية في العمق التركي. *سابعا: خوف السيد اردوغان من ملاحقة تركيا قضائيا بتهمة دعم الإرهاب في محاكم دولية بسبب دورها في مرور المجاهدين العرب والأجانب عبر أراضيها إلى سورية. ***   اردوغان سياسي محنك، ويتمتع بدرجة عالية من البراغماتية، ولا يتورع مطلقا عن التراجع عن سياسات ورهانات يرى أنها خاسرة، مثلما حدث في ملف حديقة غيزي وسط اسطنبول، لذلك من غير المستبعد أن يفعل الشيء نفسه فيما يتعلق بالأزمة السورية، خاصة بعد أن شاهد الانقسامات الحادة في صفوف المعارضة السورية، وتقلب ولاءاتها، وفشل كل المحاولات لتوحيدها تحت مظلة وفد موحد للمشاركة في مؤتمر جنيف في مقابل استمرار قوة النظام وتوقف الانشقاقات في صفوف قواته وسلكه الدبلوماسي. التمهيد للتراجع التركي هذا بدأ من خلال ترسيخ العلاقة مع طهران، وزيارة السيد احمد داوود اوغلو  إلى طهران، ومن ثم العراق ودعوة السيدين حسن روحاني رئيس ايران ونوري المالكي رئيس وزراء العراق لزيارة أنقرة. هذا التقارب التركي مع حليفي النظام السوري الأساسيين، أي إيران والعراق، علاوة على زيارة السيد اردوغان الأخيرة إلى موسكو لتعزيز العلاقات معها، كلها بوابات أساسية لإعادة العلاقات مع سورية بطريقة أو بأخرى. عندما قلنا في مقال سابق أننا لا نستبعد أن نرى السيد اوغلو في دمشق قريبا، استغرب ذلك الكثيرون، وما زلنا عند رأينا، ونرى أن هذه الزيارة باتت أقرب من أي وقت مضى، فالسياسة هي فن المصالح، ولا عواطف أو مبادىء فيها عندما تتعرض هذه المصالح، وخاصة مصلحة بقاء النظام، اي نظام للخطر. انجازات السيد اردوغان الضخمة السياسية والاقتصادية باتت مهددة بالخطر، والشيء نفسه يقال عن نموذجه الإسلامي المعتدل في الحكم، الأمر الذي بات يحتم عليه التراجع وبسرعة قبل فوات الأوان، وهذا ما عبرت عنه خطوة وتصريحات الرئيس غول بطريقة غير مباشرة في لقائه مع الدبلوماسيين الأتراك. تركيا اردوغان خسرت مشروعها في دعم حكومات الاخوان في مصر وتونس، واليمن دون أن تكسب السعودية ودول الخليج الأخرى (باستثناء قطر) مثلما خسرت إيران والعراق وروسيا، ولذلك من المتوقع أن تبدأ عملية “ترميم” سياسة ودبلوماسية “زيرو مشاكل” مع دول الجوار، وخاصة سورية في الانطلاق بسرعة اكبر قريبا جدا.

المصدر : الماسة السورية/ عبد الباري عطوان


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة