مَن يعترض على الإشارات التي توحي بأن المشير عبد الفتاح السيسي هو عبد الناصر الجديد، لا يقارع المشير نفسه، لأن الرجل لم يقل أو يوحِ يوماً أنه يتوقع لنفسه هذا الدور. لكن هناك مَن يضع السيسي في هذا الإطار، كنوع من الترويج لمعركته أو من قبيل النوستالجيا، ليس أكثر.

فكلما انشقّت طريق الرئاسة أمام المشير تُرمى على كتفيه، أكثر فأكثر، أعباء التاريخ. أن ينسب إلى الرجل أنه باعث الحركة الناصرية المنتظر فهذا يضعه أمام تحديات وامتحانات لا حدود لها.

خلفية هذه الإيحاءات لا تعصى على الفهم. فنسبة الدور الاستثنائي للمشير السيسي هي، أحياناً، مجرد رد استباقي على سؤال محرج ومحبط في آن: كيف يؤول "الربيع المصري" إلى حكم عسكري بعد عامين على انطلاقته الواعدة؟ وكان الرد على هذا السؤال هو بالدعوة إلى الصمت وغض النظر عن النتيجة المحبطة، لأن الدور المنتظر من الرجل يتجاوز هذا النوع من الأسئلة والإشكاليات السطحية.

معرفتنا المحدودة بكفاءات المشير لا تسمح بالحكم عمّا إذا كان، أو لم يكن، مؤهلاً لبعث الناصرية وخلافة جمال عبد الناصر. ولكن الرئيس الراحل لم يكن مجرد ضابط قادم إلى السلطة من الجيش حتى تجوز مقارنته بأي حاكم عسكري جديد. زعامة عبد الناصر ارتكزت إلى جسرين عملاقين: إطلاق حركة قومية عربية واجهت النفوذين الإنكليزي والفرنسي وصلّبت الموقف العربي من قضية فلسطين، ومن جهة أخرى، إحداث تغييرات جذرية في البنية الاقتصادية والاجتماعية في مصر.

هل سيتاح للمشير عبد الفتاح السيسي أن يستعيد تجربة عبد الناصر العربية؟ القضية موجودة ولا ينقصها إلا القائد. فالعالم العربي بحاجة إلى قيادة رائدة تستنهض الموقف العربي من المسألة الفلسطينية وتنقذه من الترهّل، وتتصدى للتشرذم وللتصدّع المذهبي الذي يكاد أن يقضي على تاريخ أمة بكامل فصوله. ولآتي الأيام أن يجيب عمّا إذا كان هذا الدور ممكناً، أو مسموحاً به.

من جهة أخرى، إن عبد الناصر لم ينقذ المصريين كلياً من الفقر. فضعف الموارد وارتفاع معدل الولادات وفشل التخطيط المركزي للاقتصاد، منعته من تحقيق إنجازات اقتصادية تعادل إنجازاته كزعيم قومي. ولكن مصر شهدت في عهده تحوّلات جذرية في البنية الاقتصادية والبنية الاجتماعية، بما يضع معايير صعبة للمقارنة بين إنجازاته على هذا الصعيد وإنجازات أي زعيم مصري من بعده. لقد تسلّم اقتصاداً مصرياً يتميّز بالتبعية الكاملة للأجنبي وسيطرة العلاقات الإقطاعية بين مالكي الأراضي والفلاحين، ويتصف بالتخلّف وانعدام الصناعة والاعتماد بشكل أساسي على زراعة القطن. كان 960 شخصاً يسيطرون على المناصب الأساسية في مجالس إدارات الشركات الصناعية، بينهم أقل من 300 مصري، فيما يستحوذ "باركليز بنك" البريطاني على أكثر من نصف الودائع في البلاد.

واجه عبد الناصر هذا الواقع بالإصلاح الزراعي وتنمية الريف وبناء السد العالي، وتعميم التعليم والخدمات الصحية والضمانات الاجتماعية. وسعى إلى بناء قاعدة صناعية وطنية بدءاً بخطة الاستثمارات العامة سنة 1953، وقد بلغ نمو الاقتصاد المصري 7% سنوياً في العقد الذي سبق هزيمة 1967.

الاقتصاد المصري اليوم يواجه تحديات لا تقل عن تلك التي كانت قائمة عشية ثورة الضباط الأحرار، وإن كانت تختلف عنها نوعاً وكماً، فهل بالإمكان تنفيذ هجوم اقتصادي مضاد مبني على مبادرات جبارة وفعّالة على غرار ما فعله عبد الناصر؟

لقد تراجع معدل النمو الاقتصادي إلى أقل من النصف منذ نهاية عهد مبارك، بفعل تراجع السياحة وتقلّص الاستثمار الداخلي والخارجي، نتيجة لعدم الاستقرار. فتفاقمت بذلك المشاكل العضوية التي يشكو منها الاقتصاد المصري، حيث ربع السكان فقراء، ونسبة العاطلين عن العمل تبلغ 12,5%، تسعون في المئة منهم من فئة الشباب. وتشكو البلاد من التفاوت الهائل في النمو بين المناطق وفئات السكان ومن ضعف شبكات الأمان، ممّا يبقيها بصورة دائمة على فوّهة بركان سياسي واجتماعي يهدد بزعزعة استقرارها في كل حين.

آن الأوان لكي يدرك الحكّام، والمرشحون للحكم، أن القبضة الأمنية تحل بعض المشاكل لبعض الوقت، ولكنها لا تجعل الأنظمة بمنأى عن تحمّل التبعات والنتائج إلى الأبد. فلتكن المواجهة مع الواقع المؤلم بالمبادرات الصحيحة والحلول، وليس بطمسه بالوسائل الأمنية.

كان أسهل لعبد الناصر أن يحكم مصر بقبضة حديدية لأنه جاء إلى السلطة على رأس ثورة الجيش، ومع ذلك فقد بنى تجربته وسمعته بالدرجة الأولى على ما حقق وما أنجز. والحكم بالقوة أصعب كثيراً بالنسبة إلى الجنرال السيسي، لأن الفضل في قيام نظامه، في جزء كبير منه، يعود إلى دماء وحناجر الليبراليين وشباب مصر المستنير، التي انفجرت مرتين في سنتين، فأسقطت في المرة الأولى حكم مبارك وفي الثانية نظام الإخوان المسلمين.

  • فريق ماسة
  • 2014-01-29
  • 11420
  • من الأرشيف

البكباشي هو البكباشي والمشير هو المشير

مَن يعترض على الإشارات التي توحي بأن المشير عبد الفتاح السيسي هو عبد الناصر الجديد، لا يقارع المشير نفسه، لأن الرجل لم يقل أو يوحِ يوماً أنه يتوقع لنفسه هذا الدور. لكن هناك مَن يضع السيسي في هذا الإطار، كنوع من الترويج لمعركته أو من قبيل النوستالجيا، ليس أكثر. فكلما انشقّت طريق الرئاسة أمام المشير تُرمى على كتفيه، أكثر فأكثر، أعباء التاريخ. أن ينسب إلى الرجل أنه باعث الحركة الناصرية المنتظر فهذا يضعه أمام تحديات وامتحانات لا حدود لها. خلفية هذه الإيحاءات لا تعصى على الفهم. فنسبة الدور الاستثنائي للمشير السيسي هي، أحياناً، مجرد رد استباقي على سؤال محرج ومحبط في آن: كيف يؤول "الربيع المصري" إلى حكم عسكري بعد عامين على انطلاقته الواعدة؟ وكان الرد على هذا السؤال هو بالدعوة إلى الصمت وغض النظر عن النتيجة المحبطة، لأن الدور المنتظر من الرجل يتجاوز هذا النوع من الأسئلة والإشكاليات السطحية. معرفتنا المحدودة بكفاءات المشير لا تسمح بالحكم عمّا إذا كان، أو لم يكن، مؤهلاً لبعث الناصرية وخلافة جمال عبد الناصر. ولكن الرئيس الراحل لم يكن مجرد ضابط قادم إلى السلطة من الجيش حتى تجوز مقارنته بأي حاكم عسكري جديد. زعامة عبد الناصر ارتكزت إلى جسرين عملاقين: إطلاق حركة قومية عربية واجهت النفوذين الإنكليزي والفرنسي وصلّبت الموقف العربي من قضية فلسطين، ومن جهة أخرى، إحداث تغييرات جذرية في البنية الاقتصادية والاجتماعية في مصر. هل سيتاح للمشير عبد الفتاح السيسي أن يستعيد تجربة عبد الناصر العربية؟ القضية موجودة ولا ينقصها إلا القائد. فالعالم العربي بحاجة إلى قيادة رائدة تستنهض الموقف العربي من المسألة الفلسطينية وتنقذه من الترهّل، وتتصدى للتشرذم وللتصدّع المذهبي الذي يكاد أن يقضي على تاريخ أمة بكامل فصوله. ولآتي الأيام أن يجيب عمّا إذا كان هذا الدور ممكناً، أو مسموحاً به. من جهة أخرى، إن عبد الناصر لم ينقذ المصريين كلياً من الفقر. فضعف الموارد وارتفاع معدل الولادات وفشل التخطيط المركزي للاقتصاد، منعته من تحقيق إنجازات اقتصادية تعادل إنجازاته كزعيم قومي. ولكن مصر شهدت في عهده تحوّلات جذرية في البنية الاقتصادية والبنية الاجتماعية، بما يضع معايير صعبة للمقارنة بين إنجازاته على هذا الصعيد وإنجازات أي زعيم مصري من بعده. لقد تسلّم اقتصاداً مصرياً يتميّز بالتبعية الكاملة للأجنبي وسيطرة العلاقات الإقطاعية بين مالكي الأراضي والفلاحين، ويتصف بالتخلّف وانعدام الصناعة والاعتماد بشكل أساسي على زراعة القطن. كان 960 شخصاً يسيطرون على المناصب الأساسية في مجالس إدارات الشركات الصناعية، بينهم أقل من 300 مصري، فيما يستحوذ "باركليز بنك" البريطاني على أكثر من نصف الودائع في البلاد. واجه عبد الناصر هذا الواقع بالإصلاح الزراعي وتنمية الريف وبناء السد العالي، وتعميم التعليم والخدمات الصحية والضمانات الاجتماعية. وسعى إلى بناء قاعدة صناعية وطنية بدءاً بخطة الاستثمارات العامة سنة 1953، وقد بلغ نمو الاقتصاد المصري 7% سنوياً في العقد الذي سبق هزيمة 1967. الاقتصاد المصري اليوم يواجه تحديات لا تقل عن تلك التي كانت قائمة عشية ثورة الضباط الأحرار، وإن كانت تختلف عنها نوعاً وكماً، فهل بالإمكان تنفيذ هجوم اقتصادي مضاد مبني على مبادرات جبارة وفعّالة على غرار ما فعله عبد الناصر؟ لقد تراجع معدل النمو الاقتصادي إلى أقل من النصف منذ نهاية عهد مبارك، بفعل تراجع السياحة وتقلّص الاستثمار الداخلي والخارجي، نتيجة لعدم الاستقرار. فتفاقمت بذلك المشاكل العضوية التي يشكو منها الاقتصاد المصري، حيث ربع السكان فقراء، ونسبة العاطلين عن العمل تبلغ 12,5%، تسعون في المئة منهم من فئة الشباب. وتشكو البلاد من التفاوت الهائل في النمو بين المناطق وفئات السكان ومن ضعف شبكات الأمان، ممّا يبقيها بصورة دائمة على فوّهة بركان سياسي واجتماعي يهدد بزعزعة استقرارها في كل حين. آن الأوان لكي يدرك الحكّام، والمرشحون للحكم، أن القبضة الأمنية تحل بعض المشاكل لبعض الوقت، ولكنها لا تجعل الأنظمة بمنأى عن تحمّل التبعات والنتائج إلى الأبد. فلتكن المواجهة مع الواقع المؤلم بالمبادرات الصحيحة والحلول، وليس بطمسه بالوسائل الأمنية. كان أسهل لعبد الناصر أن يحكم مصر بقبضة حديدية لأنه جاء إلى السلطة على رأس ثورة الجيش، ومع ذلك فقد بنى تجربته وسمعته بالدرجة الأولى على ما حقق وما أنجز. والحكم بالقوة أصعب كثيراً بالنسبة إلى الجنرال السيسي، لأن الفضل في قيام نظامه، في جزء كبير منه، يعود إلى دماء وحناجر الليبراليين وشباب مصر المستنير، التي انفجرت مرتين في سنتين، فأسقطت في المرة الأولى حكم مبارك وفي الثانية نظام الإخوان المسلمين.

المصدر : السفير/غسان العيّاش


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة