على الرغم من ارتباط اسم مدينة جنيف بالعديد من المعاهدات التي كان لها دور كبير في تغيير مسارات العالم ، فإن اسم جنيف لا يرتبط بذاكرتي إلا بالكرسي ذي القوائم الثلاث المنصوب في ساحة الأمم المتحدة، هذا الكرسي ـ الذي أبدعه النحات العالمي دانييل بيرست ـ يُعتبر رمزا للنضال العالمي ضد الألغام المضادة للأشخاص ، لكنه بالنسبة لي كان دائما رمزا لاختلال العالم ، فحول هذا الكرسي مازالت تُنظم المظاهرات المناوئة لكل الشرور التي تجلبها واشنطن للبشرية ، هناك تظاهرنا ـ مع لفيف من الأصدقاء ـ ضد احتلال العراق في 2003 و ضد مجازر غزة في 2009 ، وبين هذين التاريخين مازالت واشنطن تمارس جرائمها ضد الشعوب و على مرأى و مسمع من 192 دولة ترفرف إعلامها ـ منذ عام 1946 ـ على مدخل المبنى التابع للأمم المتحدة ، هذا المبنى الذي شهد عام 1954 أول مؤتمر سياسي دولي في عهد الأمم المتحدة و نتج عنه تقسيم شبه الجزيرة الكورية إلى كوريتين ، هذا التقسيم وصِف بأنه أفضل الحلول لإنهاء حالة الاقتتال بين كوريا الشمالية المدعومة من بكين و موسكو من جهة ، و كوريا الجنوبية المدعومة واشنطن من جهة أخرى .

تقول الحكاية انه في مؤتمر القاهرة المنعقد عام 1943 اتفق كل من روزفلت و تشرشل و نشانغ كاي تشك على العمل سوية لإعطاء شبه الجزيرة الكورية استقلالها فور تحريرها من اليابانيين.

هذا الالتزام تأكد في مؤتمر بوتسدام عام 1945 ، و عندما استسلم اليابانيون اتفق الروس و الأمريكيون على أن يقبل كل منهما استسلام اليابانيين على جانبي خط العرض 38 .

لكن الخلافات ما لبثت أن تصعدت بين موسكو و واشنطن حول مسالة توحيد كوريا بالرغم من اتفاقهما على ذلك، و عليه رفعت واشنطن ـ في دورة عام 1947 ـ أمر الخلاف إلى الجمعية العامة التي أنشئت " لجنة الأمم المتحدة المؤقتة حول كوريا" و ذلك بهدف العمل على إجراء انتخابات حرّة تمهد لتوحيد شبه الجزيرة الكورية ، و لكن ـ و بدعم من موسكو ـ رفض الشطر الشمالي التعاون مع اللجنة لأسباب لها علاقة بمهمتها ، فما كان من واشنطن إلا أن أوعزت للجنة بإجراء الانتخابات في الجزء الجنوبي للجزيرة ، و لينتج عنها حكومة موالية لواشنطن ادعت سيادتها على كل الجزيرة الكورية ، بالنتيجة رفض السوفيت و الكوريون الشماليون الانتخابات و أعلنوا تأسيس جمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية شمال خط العرض 38 و التي شنّت حكومتها ـ في 25 حزيران ـ الحرب على قوات كوريا الجنوبية.

انعقد مجلس الأمن بغياب المندوب الروسي و اتخذ قرارا اعتبر فيه العمل العسكري لكوريا الشمالية خرقا للأمن و السلم الدوليين و دعا القوات الشمالية للانسحاب حتى خط العرض 38 و طلب من جميع الدول الأعضاء مساعدة الأمم المتحدة لتنفيذ القرار و قطع كل دعم عن كوريا الشمالية.

فسّر الرئيس الأمريكي ترومان القرار بأنه يمنح لبلاده الحق في الدفاع عن كوريا الجنوبية فأمر قواته البرية و البحرية و الجوية بتهيئة الغطاء الملائم لحمايتها. لكن هجوم كوريا الشمالية استمر، فاجتمع مجلس الأمن مجددا ـ و بغياب المندوب الروسي أيضا ـ و اصدر قرارا هدفه تغطية التحرك العسكري لواشنطن من خارج الشرعية الدولية ، هذا القرار حثّ الدول على تقديم كل مساعدة ممكنة لكوريا الجنوبية، ثم اتبعه في السابع من تموز ـ و بغياب المندوب الروسي للمرة الثالثة ـ بقرار يطلب فيه من الدول التي قدمت مساعدات عسكرية لكوريا الجنوبية بموجب قراره السابق بوضع تلك المساعدات تحت قيادة واشنطن التي فوضت بالتدخل ضد " المعتدين "تحت علم الأمم المتحدة.

على اثر ذلك أوعز ترومان إلى قائده ( ماك ارثر ) أن يتولى قيادة عمليات الأمم المتحدة ، و زج ب 250 ألف مقاتل مقابل 30 ألف من الـ 16 دولة التي قبلت الاشتراك بالعمليات العسكرية.

استمر الصراع الدامي بين أبناء الكوريتين حتى عام 1953 ، و كانت المعارك تتراوح بين كرّ و فرّ ، و لكن بعد أن استشعرت الدول العظمى بأنه لا أمل لأي منها في إحراز نصر عسكري حاسم قررت ـ عام 1951 ـ الدخول في مفاوضات استمرت حتى 27 تموز عام 1953 حيث تم توقيع اتفاق الهدنة و الذي تضمّن بندا خاصا بعقد مؤتمر جنيف حول كوريا في عام 1954 ، في هذا المؤتمر تم تكريس ليس فقط انقسام الكوريتين بل أيضا كرس جلوس العالم على كرسي ذي ثلاث قوائم موضوع على حافة الهاوية ، أمر الحيلولة دون سقوطه في الهاوية أوكل إلى دول الفيتو و التي ارتأت انه في حال اختلافها حول الهيمنة على بلد معين فعلى أبناء ذلك البلد أن يدفعوا الثمن من حريتهم دمائهم و سيادة بلدانهم درءا لحرب نووية لا تبق و لا تذر يشنها أقطاب الفيتو على العالم بأسره .

كان النزاع في شبه الجزيرة الكورية هو أول امتحان لقدرة الأمم المتحدة على حل النزاعات الدولية بشكل سلمي إعمالا لمبدأ الشرعية الذي كان الأساس النظري لميثاق الأمم المتحدة، لكن نتيجة هذا الامتحان جاءت لتؤكد أن العالم لن يهنئ بالسلام مادامت دول الفيتو كلها مصّرة على عدم تركيب القائمة الرابعة للكرسي : أقصد الإقرار بحق الضعيف بالحياة.

 

الدكتور عصام التكروري

دكتور القانون العام ـ جامعة دمشق

  • فريق ماسة
  • 2014-01-22
  • 10593
  • من الأرشيف

جنيف 1954: عندما جلس العالم على كرسي ذي قوائم ثلاث/ الدكتور عصام التكروري

على الرغم من ارتباط اسم مدينة جنيف بالعديد من المعاهدات التي كان لها دور كبير في تغيير مسارات العالم ، فإن اسم جنيف لا يرتبط بذاكرتي إلا بالكرسي ذي القوائم الثلاث المنصوب في ساحة الأمم المتحدة، هذا الكرسي ـ الذي أبدعه النحات العالمي دانييل بيرست ـ يُعتبر رمزا للنضال العالمي ضد الألغام المضادة للأشخاص ، لكنه بالنسبة لي كان دائما رمزا لاختلال العالم ، فحول هذا الكرسي مازالت تُنظم المظاهرات المناوئة لكل الشرور التي تجلبها واشنطن للبشرية ، هناك تظاهرنا ـ مع لفيف من الأصدقاء ـ ضد احتلال العراق في 2003 و ضد مجازر غزة في 2009 ، وبين هذين التاريخين مازالت واشنطن تمارس جرائمها ضد الشعوب و على مرأى و مسمع من 192 دولة ترفرف إعلامها ـ منذ عام 1946 ـ على مدخل المبنى التابع للأمم المتحدة ، هذا المبنى الذي شهد عام 1954 أول مؤتمر سياسي دولي في عهد الأمم المتحدة و نتج عنه تقسيم شبه الجزيرة الكورية إلى كوريتين ، هذا التقسيم وصِف بأنه أفضل الحلول لإنهاء حالة الاقتتال بين كوريا الشمالية المدعومة من بكين و موسكو من جهة ، و كوريا الجنوبية المدعومة واشنطن من جهة أخرى . تقول الحكاية انه في مؤتمر القاهرة المنعقد عام 1943 اتفق كل من روزفلت و تشرشل و نشانغ كاي تشك على العمل سوية لإعطاء شبه الجزيرة الكورية استقلالها فور تحريرها من اليابانيين. هذا الالتزام تأكد في مؤتمر بوتسدام عام 1945 ، و عندما استسلم اليابانيون اتفق الروس و الأمريكيون على أن يقبل كل منهما استسلام اليابانيين على جانبي خط العرض 38 . لكن الخلافات ما لبثت أن تصعدت بين موسكو و واشنطن حول مسالة توحيد كوريا بالرغم من اتفاقهما على ذلك، و عليه رفعت واشنطن ـ في دورة عام 1947 ـ أمر الخلاف إلى الجمعية العامة التي أنشئت " لجنة الأمم المتحدة المؤقتة حول كوريا" و ذلك بهدف العمل على إجراء انتخابات حرّة تمهد لتوحيد شبه الجزيرة الكورية ، و لكن ـ و بدعم من موسكو ـ رفض الشطر الشمالي التعاون مع اللجنة لأسباب لها علاقة بمهمتها ، فما كان من واشنطن إلا أن أوعزت للجنة بإجراء الانتخابات في الجزء الجنوبي للجزيرة ، و لينتج عنها حكومة موالية لواشنطن ادعت سيادتها على كل الجزيرة الكورية ، بالنتيجة رفض السوفيت و الكوريون الشماليون الانتخابات و أعلنوا تأسيس جمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية شمال خط العرض 38 و التي شنّت حكومتها ـ في 25 حزيران ـ الحرب على قوات كوريا الجنوبية. انعقد مجلس الأمن بغياب المندوب الروسي و اتخذ قرارا اعتبر فيه العمل العسكري لكوريا الشمالية خرقا للأمن و السلم الدوليين و دعا القوات الشمالية للانسحاب حتى خط العرض 38 و طلب من جميع الدول الأعضاء مساعدة الأمم المتحدة لتنفيذ القرار و قطع كل دعم عن كوريا الشمالية. فسّر الرئيس الأمريكي ترومان القرار بأنه يمنح لبلاده الحق في الدفاع عن كوريا الجنوبية فأمر قواته البرية و البحرية و الجوية بتهيئة الغطاء الملائم لحمايتها. لكن هجوم كوريا الشمالية استمر، فاجتمع مجلس الأمن مجددا ـ و بغياب المندوب الروسي أيضا ـ و اصدر قرارا هدفه تغطية التحرك العسكري لواشنطن من خارج الشرعية الدولية ، هذا القرار حثّ الدول على تقديم كل مساعدة ممكنة لكوريا الجنوبية، ثم اتبعه في السابع من تموز ـ و بغياب المندوب الروسي للمرة الثالثة ـ بقرار يطلب فيه من الدول التي قدمت مساعدات عسكرية لكوريا الجنوبية بموجب قراره السابق بوضع تلك المساعدات تحت قيادة واشنطن التي فوضت بالتدخل ضد " المعتدين "تحت علم الأمم المتحدة. على اثر ذلك أوعز ترومان إلى قائده ( ماك ارثر ) أن يتولى قيادة عمليات الأمم المتحدة ، و زج ب 250 ألف مقاتل مقابل 30 ألف من الـ 16 دولة التي قبلت الاشتراك بالعمليات العسكرية. استمر الصراع الدامي بين أبناء الكوريتين حتى عام 1953 ، و كانت المعارك تتراوح بين كرّ و فرّ ، و لكن بعد أن استشعرت الدول العظمى بأنه لا أمل لأي منها في إحراز نصر عسكري حاسم قررت ـ عام 1951 ـ الدخول في مفاوضات استمرت حتى 27 تموز عام 1953 حيث تم توقيع اتفاق الهدنة و الذي تضمّن بندا خاصا بعقد مؤتمر جنيف حول كوريا في عام 1954 ، في هذا المؤتمر تم تكريس ليس فقط انقسام الكوريتين بل أيضا كرس جلوس العالم على كرسي ذي ثلاث قوائم موضوع على حافة الهاوية ، أمر الحيلولة دون سقوطه في الهاوية أوكل إلى دول الفيتو و التي ارتأت انه في حال اختلافها حول الهيمنة على بلد معين فعلى أبناء ذلك البلد أن يدفعوا الثمن من حريتهم دمائهم و سيادة بلدانهم درءا لحرب نووية لا تبق و لا تذر يشنها أقطاب الفيتو على العالم بأسره . كان النزاع في شبه الجزيرة الكورية هو أول امتحان لقدرة الأمم المتحدة على حل النزاعات الدولية بشكل سلمي إعمالا لمبدأ الشرعية الذي كان الأساس النظري لميثاق الأمم المتحدة، لكن نتيجة هذا الامتحان جاءت لتؤكد أن العالم لن يهنئ بالسلام مادامت دول الفيتو كلها مصّرة على عدم تركيب القائمة الرابعة للكرسي : أقصد الإقرار بحق الضعيف بالحياة.   الدكتور عصام التكروري دكتور القانون العام ـ جامعة دمشق

المصدر : الوطن/ الدكتور عصام التكروري


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة