لا تريد فرنسا حرق أوراقها مع حزب الله. يكفيها أنها أحرقتها جميعاً مع الرئيس بشار الأسد، باستثناء الأمنية منها على الأرجح.

تريد فرنسا، في المقابل، عدم المساس بموقع رئاسة الجمهورية في لبنان. تريد انتخابات. إذا تعذّر ذلك فلا بأس. يمكن الاتفاق على التجديد او التمديد. المهم عدم حدوث الفراغ الرئاسي. هي، بذلك، تلتقي مع السعودية في الشق الثاني، وتتمايز عنها في ما يتعلق بحزب الله. الحزب، في السعودية، «شيطان» لا بد من اخراجه من سوريا وتقزيمه في لبنان.

السفير الفرنسي في بيروت باتريس باولي ذو خبرة طويلة في ملفات العرب ولغتهم. عاش بينهم في اليمن والكويت ومصر وأبو ظبي وصولاً الى بيروت. لم يدع، بالمصادفة، اللبنانيين من قلب «بيت الوسط» الى الوحدة الوطنية. للدعوة، أثناء التعزية بالوزير محمد شطح، رمزية خاصة في زمن الفتن وبراميل البارود.

كان وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس سبَّاقاً في دفع شركائه الاوروبيين نحو وضع الجناح العسكري لحزب الله على لائحة الارهاب الاوروبي. تعددت التبريرات في حينه. فابيوس يقول إن ذلك جرى بسبب تورط الحزب في سوريا. وآخرون، وبينهم باولي نفسه، يبرّرون الامر بتُهم أُلصقت بالحزب في قبرص وبلغاريا.

لم يمنع ذلك وزارة الخارجية الفرنسية من استقبال عضو كتلة الوفاء للمقاومة النائب علي فياض. جرى اخراج اللقاء على نحو لافت، ربما منعاً للاحراج. كان فياض متوجهاً مع زميليه النائبين غسان مخيبر وسمير الجسر الى ندوة حول تحريم عقوبة الاعدام في البرلمان الفرنسي. أُوقف الباص ودُعي فياض وحده الى الخارجية. ناقشه كبار مسؤوليها في شأن مشاركة الحزب في القتال السوري وفي مستقبل لبنان. أسهب فياض في الحديث عن الارهاب والتكفير. اتفق الطرفان على تجنيب لبنان خضّات أمنية وضمان استقراره.

ليس الحزب الاشتراكي الحاكم محبّاً لحزب الله أو مؤيّداً لادواره ضد اسرائيل او في سوريا وغيرها، لكن فرنسا الاشتراكية تدرك ان حكم لبنان حالياً، من دون الحزب وحلفائه او ضدهم، يعني الفوضى. غالباً ما تطغى العقلانية الفرنسية في حالات كهذه على المشاعر.

لا شك في أن الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند وجد منذ أمس، في السعودية، مشاعر متأججة ضد الحزب وايران والرئيس بشار الاسد. مشاعر تطغى على العقلانية السعودية المعهودة. فماذا يفعل؟ هل يذهب صوب الرياض أكثر نظراً الى المصالح الاقتصادية الكبيرة التي توفّرها لبلاده، أم يخفف من النار التي قد تشعل فتيل برميل البارود اللبناني وقد تحرق دور فرنسا. ألم يحترق الدور سابقاً حين فُجّر مقر المظليين الفرنسيين في بيروت، وقرر الرئيس الاشتراكي فرانسوا ميتران الانسحاب؟

حين قدّمت مضيفة الطائرة إلى هولاند صحف أمس، في طريقه للقاء الملك عبد الله والقيادة السعودية، ربما وجد صورته متجهّمة قليلا على الصفحة الاولى لـ Journal du dimanche (صحيفة الأحد). كيف لا يتجهّم وأرقام البطالة سجلت ارتفاعاً مقلقاً لشهر تشرين الثاني الماضي؟ الرجل بنى جلَّ وعوده الانتخابية على خفض هذه الارقام. بسببها خصوصاً انتصر على منافسه نيكولا ساركوزي، وأخرجه من الحكم.

قد يشيح بنظره قليلاً عن الصحف وينظر الى المقاعد الخلفية في الطائرة ليذكّر الوفد الاقتصادي الكبير الذي يرافقه بضرورة عدم مغادرة السعودية قبل توقيع عقود مهمة. أربعة وزراء، بينهم وزيرا الخارجية والدفاع، و30 رئيس شركة يرافقونه. أصبحت السعودية الشريك الثاني لفرنسا في الشرق الاوسط، والزبون الاول مع تبادلات تجارية تخطّت في عام 2013 وحده ثمانية مليارات دولار، منها ثلاثة مليارات صادرات نحو المملكة، والباقي واردات نفطية.

كلما توتّرت علاقات الرياض بالشريك الاميركي، زادت الصفقات السعودية الفرنسية. هذا ما حصل في العام الحالي أيضاً. تعدّدت العقود والصفقات: مترو الرياض مع شركة «الستوم»، تجهيز الحرس الوطني، تحديث الأسطول البحري، انشاء مراكز نووية لغايات علمية سلمية... تعدّدت الآمال أيضاً، أبرزها أمل بعقد «سواري 3» لبيع فرقاطات بنحو 10 مليارات دولار.

اكتشف الفرنسيون، فجأة، ان السعودية احتلت موقع الصدارة، التي كانت معقودة في الاعوام الماضية للامارات وقطر. كبر الاحراج مع الدوحة بعد صدور تقارير وكتب كثيرة تؤكد تورطاً قطرياً في ايصال اسلحة الى ارهابيين في مالي، قاتلوا القوات الفرنسية، والى ليبيا وغيرها.

كل هذه العقود تساعد هولاند على اعادة تحسين صورته التي تراجعت كثيراً في بلاده بسبب الاقتصاد، وربما ايضاً في اعقاب التورط العسكري في افريقيا الوسطى بعد مالي. فبمَ يساعد السعودية؟

فرنسا ورقة مهمة للتلويح بها أمام اميركا. فرنسا أثلجت قلب السعودية حين كادت تعطّل الاتفاق الايراني ــــ الغربي. هي ضمانة سعودية لمستقبل هذا الاتفاق. أثلجت أكثر قلب المضيف السعودي برفض بقاء الاسد بعد «جنيف 2». سارت الى حد التطرف في دعم المعارضة السورية وفتح سفارة للائتلاف. أسهمت في وضع الجناح العسكري لحزب الله على لائحة الارهاب الاوروبية. تجاهد لايصال المحكمة الدولية الى مبتغاها بشأن اغتيال الرئيس رفيق الحريري. لم تتمايز عن السعودية سوى حيال مصر. الرياض تدعم اللواء عبد الفتاح السياسي ضد الاخوان، وباريس تريد اشراك الجميع وتنتقد استبعاد الجماعة.

الآن اصبح لبنان هو الفيصل. هل يغامر هولاند فيذهب صوب الرغبة السعودية بفرض أمر واقع جديد في بيروت؟ أم يكتفي بالتصريحات الداعية الى الوحدة واحترام المواعيد الانتخابية والمؤسسات ودعم الجيش فيُغضب السعودية؟

ربما امام فرنسا فرصة ذهبية للوساطة وتبريد الاجواء. فدورها، رغم كل شيء، لا يزال مقبولاً. عكس ذلك خطير. الوضع غاية في الحساسية، وأي «دعسة ناقصة» قد تشعل البركان.

  • فريق ماسة
  • 2013-12-29
  • 13063
  • من الأرشيف

هولاند والسعودية والبركان اللبناني ثالثهما

لا تريد فرنسا حرق أوراقها مع حزب الله. يكفيها أنها أحرقتها جميعاً مع الرئيس بشار الأسد، باستثناء الأمنية منها على الأرجح. تريد فرنسا، في المقابل، عدم المساس بموقع رئاسة الجمهورية في لبنان. تريد انتخابات. إذا تعذّر ذلك فلا بأس. يمكن الاتفاق على التجديد او التمديد. المهم عدم حدوث الفراغ الرئاسي. هي، بذلك، تلتقي مع السعودية في الشق الثاني، وتتمايز عنها في ما يتعلق بحزب الله. الحزب، في السعودية، «شيطان» لا بد من اخراجه من سوريا وتقزيمه في لبنان. السفير الفرنسي في بيروت باتريس باولي ذو خبرة طويلة في ملفات العرب ولغتهم. عاش بينهم في اليمن والكويت ومصر وأبو ظبي وصولاً الى بيروت. لم يدع، بالمصادفة، اللبنانيين من قلب «بيت الوسط» الى الوحدة الوطنية. للدعوة، أثناء التعزية بالوزير محمد شطح، رمزية خاصة في زمن الفتن وبراميل البارود. كان وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس سبَّاقاً في دفع شركائه الاوروبيين نحو وضع الجناح العسكري لحزب الله على لائحة الارهاب الاوروبي. تعددت التبريرات في حينه. فابيوس يقول إن ذلك جرى بسبب تورط الحزب في سوريا. وآخرون، وبينهم باولي نفسه، يبرّرون الامر بتُهم أُلصقت بالحزب في قبرص وبلغاريا. لم يمنع ذلك وزارة الخارجية الفرنسية من استقبال عضو كتلة الوفاء للمقاومة النائب علي فياض. جرى اخراج اللقاء على نحو لافت، ربما منعاً للاحراج. كان فياض متوجهاً مع زميليه النائبين غسان مخيبر وسمير الجسر الى ندوة حول تحريم عقوبة الاعدام في البرلمان الفرنسي. أُوقف الباص ودُعي فياض وحده الى الخارجية. ناقشه كبار مسؤوليها في شأن مشاركة الحزب في القتال السوري وفي مستقبل لبنان. أسهب فياض في الحديث عن الارهاب والتكفير. اتفق الطرفان على تجنيب لبنان خضّات أمنية وضمان استقراره. ليس الحزب الاشتراكي الحاكم محبّاً لحزب الله أو مؤيّداً لادواره ضد اسرائيل او في سوريا وغيرها، لكن فرنسا الاشتراكية تدرك ان حكم لبنان حالياً، من دون الحزب وحلفائه او ضدهم، يعني الفوضى. غالباً ما تطغى العقلانية الفرنسية في حالات كهذه على المشاعر. لا شك في أن الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند وجد منذ أمس، في السعودية، مشاعر متأججة ضد الحزب وايران والرئيس بشار الاسد. مشاعر تطغى على العقلانية السعودية المعهودة. فماذا يفعل؟ هل يذهب صوب الرياض أكثر نظراً الى المصالح الاقتصادية الكبيرة التي توفّرها لبلاده، أم يخفف من النار التي قد تشعل فتيل برميل البارود اللبناني وقد تحرق دور فرنسا. ألم يحترق الدور سابقاً حين فُجّر مقر المظليين الفرنسيين في بيروت، وقرر الرئيس الاشتراكي فرانسوا ميتران الانسحاب؟ حين قدّمت مضيفة الطائرة إلى هولاند صحف أمس، في طريقه للقاء الملك عبد الله والقيادة السعودية، ربما وجد صورته متجهّمة قليلا على الصفحة الاولى لـ Journal du dimanche (صحيفة الأحد). كيف لا يتجهّم وأرقام البطالة سجلت ارتفاعاً مقلقاً لشهر تشرين الثاني الماضي؟ الرجل بنى جلَّ وعوده الانتخابية على خفض هذه الارقام. بسببها خصوصاً انتصر على منافسه نيكولا ساركوزي، وأخرجه من الحكم. قد يشيح بنظره قليلاً عن الصحف وينظر الى المقاعد الخلفية في الطائرة ليذكّر الوفد الاقتصادي الكبير الذي يرافقه بضرورة عدم مغادرة السعودية قبل توقيع عقود مهمة. أربعة وزراء، بينهم وزيرا الخارجية والدفاع، و30 رئيس شركة يرافقونه. أصبحت السعودية الشريك الثاني لفرنسا في الشرق الاوسط، والزبون الاول مع تبادلات تجارية تخطّت في عام 2013 وحده ثمانية مليارات دولار، منها ثلاثة مليارات صادرات نحو المملكة، والباقي واردات نفطية. كلما توتّرت علاقات الرياض بالشريك الاميركي، زادت الصفقات السعودية الفرنسية. هذا ما حصل في العام الحالي أيضاً. تعدّدت العقود والصفقات: مترو الرياض مع شركة «الستوم»، تجهيز الحرس الوطني، تحديث الأسطول البحري، انشاء مراكز نووية لغايات علمية سلمية... تعدّدت الآمال أيضاً، أبرزها أمل بعقد «سواري 3» لبيع فرقاطات بنحو 10 مليارات دولار. اكتشف الفرنسيون، فجأة، ان السعودية احتلت موقع الصدارة، التي كانت معقودة في الاعوام الماضية للامارات وقطر. كبر الاحراج مع الدوحة بعد صدور تقارير وكتب كثيرة تؤكد تورطاً قطرياً في ايصال اسلحة الى ارهابيين في مالي، قاتلوا القوات الفرنسية، والى ليبيا وغيرها. كل هذه العقود تساعد هولاند على اعادة تحسين صورته التي تراجعت كثيراً في بلاده بسبب الاقتصاد، وربما ايضاً في اعقاب التورط العسكري في افريقيا الوسطى بعد مالي. فبمَ يساعد السعودية؟ فرنسا ورقة مهمة للتلويح بها أمام اميركا. فرنسا أثلجت قلب السعودية حين كادت تعطّل الاتفاق الايراني ــــ الغربي. هي ضمانة سعودية لمستقبل هذا الاتفاق. أثلجت أكثر قلب المضيف السعودي برفض بقاء الاسد بعد «جنيف 2». سارت الى حد التطرف في دعم المعارضة السورية وفتح سفارة للائتلاف. أسهمت في وضع الجناح العسكري لحزب الله على لائحة الارهاب الاوروبية. تجاهد لايصال المحكمة الدولية الى مبتغاها بشأن اغتيال الرئيس رفيق الحريري. لم تتمايز عن السعودية سوى حيال مصر. الرياض تدعم اللواء عبد الفتاح السياسي ضد الاخوان، وباريس تريد اشراك الجميع وتنتقد استبعاد الجماعة. الآن اصبح لبنان هو الفيصل. هل يغامر هولاند فيذهب صوب الرغبة السعودية بفرض أمر واقع جديد في بيروت؟ أم يكتفي بالتصريحات الداعية الى الوحدة واحترام المواعيد الانتخابية والمؤسسات ودعم الجيش فيُغضب السعودية؟ ربما امام فرنسا فرصة ذهبية للوساطة وتبريد الاجواء. فدورها، رغم كل شيء، لا يزال مقبولاً. عكس ذلك خطير. الوضع غاية في الحساسية، وأي «دعسة ناقصة» قد تشعل البركان.

المصدر : الاخبار/سامي كليب


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة