هي واحدة من المرات القليلة، بل النادرة، التي تتوجه فيها واشنطن الى “قادة المنطقة” لطلب “اتخاذ التدابير الفعالة لمنع تمويل وتجنيد عناصر في المجموعات (الارهابية)، ومن بينها الدولة الإسلامية في العراق والشام وجبهة النصرة، وإيقاف تدفق المقاتلين الأجانب إلى سورية، حيث يقوم الكثير منهم لاحقاً بتنفيذ تفجيرات انتحارية ضد مدنيين أبرياء في العراق”.

تبدو إذاعة البيان متوافقة زمنياً مع التفجيرات التي تستهدف مدنيين أبرياء في العراق، لكنها تعكس رسالة واضحة لا تحتمل اللبس. هي تحمل معنى الطلب وايضاً الإتهام في الوقت عينه: فلم يكن الطلب ضرورياً لولا علم أكيد لدى واشنطن بأن قادة في المنطقة لا يفعلون ما هو ضروري لمنع تمويل وتجنيد عناصر في الشبكات المتطرفة العنيفة، هذا اذا لم يكونوا على دراية ووعي ورعاية لما يدور على أراضيهم وربما خارجها من عمليات تجنيد وتمويل لهذه الشبكات. ويسري الحديث منذ أشهر طويلة عن شبكات مموَّلة خليجياً تقوم بعمليات تجنيد في بعض دول المغرب العربي لآلاف من الشبان الذين يتم تدريبهم في ليبيا اولاً قبل ان يتم شحنهم الى تركيا للجهاد في سوريا وأحياناً في العراق عن طريق كردستان. وهذا ما يفسر تركز جنسيات مغاربية في صفوف القتلى من غير السوريين في سوريا، اذا أخذنا بأرقام التيار السلفي الجهادي في الأردن الذي تحدث عن مصرع 1902 تونسيين في هذا البلد (أعلى رقم في القائمة)، غالبيتهم من “داعش” وجبهة النصرة، يليهم الليبيون: 1807 قتلى، وهناك من المغرب 412 قتيلا، ومن الجزائر 274 قتيلا. واللافت أن السعودية باتت مؤخراً تحتل موقعاً متقدماً في قائمة القتلى من دول الخليج بواقع 714 قتيلا، متجاوزة حتى الحصيلة اليمنية (571).

الرسالة الأميركية تندرج ضمن أولوية أميركية جديدة تعمل لعزل المجموعات التي تكاثرت وتنامت على الارض السورية في ظل الأزمة، وبعضها مثل تنظيم داعش بات يقيم ما يشبه إمارة ممتدة عبر الحدود الى العراق. وتوقن أميركا ان اللعبة انفلشت أكثر من اللازم، وان هدف تغيير النظام في سوريا يجب ان لا يعمي أبصار قادة المنطقة عن خطر الارهاب الذي “يشكل تهديداً لمنطقة الشرق الأوسط الكبير”، وفق تعبير الخارجية الاميركية. إنما لواشنطن طريقتها الدبلوماسية في إرشاد وتوجيه الحلفاء الذين أخذت بهم المغامرة مأخذاً شططاً يجب تداركه قبل أن تنعكس الأمور عليهم وعلى المصالح الأميركية.

من المقصود بالرسالة الأميركية؟

ليس من الصعب التكهن بأن لأميركا ملاحظات ملموسة على تورط أنظمة خليجية في الذهاب بعيداً في لعبة إسقاط النظام السوري من دون احتساب المضاعفات الجانبية للعملية الجراحية الجارية، وخاصة لجهة المساهمة عن قصد او عن غير قصد في إعلاء كعب المتطرفين (سوريين وأجانب) الذين يبدون اليوم في صدارة مشهد المعارضين المسلحين في سوريا ولا يخفون مناهضتهم للتغيير الديمقراطي في سوريا وعدم التزامهم بأي من معايير حقوق الانسان بدعوى انهم لا يحتكمون الا لشرع الله كما يفهمونه (قديماً قال الخوارج: “لا حكم الا لله” وكانت كلمة أخّاذة أسرت قلوبهم وفتحت الباب أمام ملاحم وفتن أودت بحياة الآلاف من المسلمين).

لقد لفت المراقبين خبران تلازما مع صدور الطلب الاميركي:

الخبر الأول: وضعت وزارة الخزانة الاميركية القطري عبدالرحمن النعيمي، رئيس مجلس مؤسسة “الكرامة” لحقوق الإنسان التي تنشط من سويسرا، على اللائحة 13224 لداعمي الإرهاب، واتهمته بتوفير دعم مادي لتنظيمات تابعة للقاعدة في اليمن وسوريا والعراق. ووفقاً لمسؤولين أميركيين، فإن النعيمي كان يعمل ممولاً لتنظيم القاعدة سراً، حيث كان يحوّل ملايين الدولارات إلى الشركات التابعة لمجموعات في سوريا والعراق. وذكرت المصادر أن النعيمي وزميله اليمني عبدالوهاب بن محمد بن عبدالرحمن الحميقاني خدما كمستشارَيْن للمؤسسات المدعومة من الحكومة في قطر وتوليا مناصب رفيعة في المجموعات الدولية لحقوق الإنسان.

ومن المثير للإنتباه اشارة الوزارة الاميركية الى ان النعيمي قام بتحويل 600 ألف دولار إلى قيادي بتنظيم القاعدة في سوريا يدعى “أبوخالد السوري”، علاوة على مبالغ شهرية وصلت أحياناً إلى مليوني دولار شهرياً لمصلحة القاعدة في العراق. واسم “أبو خالد السوري” ورد سابقاً في معلومات استخبارية أميركية على انه موفد من زعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري لحل الإشكال بين جبهة النصرة وتنظيم داعش. (يُفتح السؤال هنا عن توقيت عملية تلميع صورة زعيم النصرة “أبو محمد الجولاني” من خلال المقابلة التي بثتها قناة الجزيرة القطرية وبدا فيها صاحب آراء “معتدلة”، وهل لذلك من علاقة مع التجاذب القائم بشأن تحشيد الجماعات المسلحة لمصلحة هذا الطرف الاقليمي او ذاك، ومحاولة تعديل تصنيف الدول الغربية لـ “النصرة” كمنظمة إرهابية؟).

 

وتتزامن هذه الاتهامات مع جدل داخل الإدارة الأميركية حول الدور الذي يلعبه رجال أعمال قطريون في تمويل الجماعات المتشددة في سوريا، تحت غطاء جمعيات خيرية، وعلى رأسها جمعية تعرف باسم “حملة مدد أهل الشام” التي يقال إن جبهة النصرة في سوريا قد اعتبرتها في آب/أغسطس الماضي إحدى القنوات التمويلية المفضلة لدى التنظيم.

وفي حين نفى النعيمي الاتهامات الأميركية، مؤكداً في الوقت نفسه انه من معارضي سياسة أمريكا في العالم العربي ودول الخليج بشكل خاص منذ غزو العراق سنة 2003، قال مساعد وزير الخزانة الأميركي لتمويل الإرهاب دانيال غلاسر إن واشنطن تتوقع من قطر عزل الأشخاص الذين يمولون القاعدة. وحدها الكويت من بين دول الخليج المشار إليها لقيت مديحاً من غلاسر لتعاونها “الوثيق” مع بلاده، وخاصة مع إصدارها قانون مكافحة الإرهاب الجديد.

ويبدو تخصيص القطري بالإسم رسالة موجهة ضمناً الى الشريك الخليجي الأكبر على طريقة المثل القائل: إياكَ أعني واسمعي يا جارة.

السعودية: التمويل وتجنيد الملاحَقين

الخبر الثاني: تأكيد مصادر سعودية لصحيفة “الحياة” بتاريخ 21 الجاري انضمام متهمين في قضايا إرهاب أفرجت عنهم المحكمة الجزائية في المملكة بكفالة، إلى تنظيم القاعدة في اليمن وإلى “الدولة الإسلامية في العراق والشام” (داعش). وبحسب المصادر، فإن “معظم الموقوفين يتقدمون بطلبات إخلاء سبيلهم، فينظر فيها القضاة ويقررون إطلاقهم بكفالة على أن تستكمل محاكمتهم أو التريث في ذلك، وهؤلاء كانوا يُظهرون التسامح والندم على ما بدر منهم أمام القاضي، ويخفون بداخلهم الفكر الإرهابي الذي سيطر عليهم”.

ويأتي نشر هذا الخبر في أعقاب ظهور إشارات مختلفة على تشجيع حكومي سعودي لبعض المحكومين في سجون المملكة للذهاب إلى سوريا، إما للتخلص منهم حين يُقتلون على الأراضي السورية او لتفريغ طاقتهم الاحتجاجية في مكان آخر.

وهناك تقارير اميركية متواترة عن هذا التوجه. أستعيد هنا ما ورد في تحقيق استقصائي نشر مبكراً هذه السنة في موقع NPR (الاذاعة الوطنية الأميركية سابقاً) وموقع غلوبال بوست الإخباري الأميركي(*). التحقيق أجراه الصحافي “ريس إرليخ” من داخل المملكة العربية السعودية والبحرين وتضمن مقابلات هامة مع ذوي شباب سعوديين ذهبوا للقتال في سوريا وشخصيات وحقوقيين يتابعون هذه القضية (1).

يقول إرليخ إنه “بموافقة ضمنية من آل سعود وبدعم مالي من النخب السعودية الغنية، حمل الشباب السلاح في ما يسميه رجال الدين السعوديون “الجهاد” أو “الحرب المقدسة” ضد نظام الأسد”. وينقل عن “أكثر من عشرة مصادر أن السعوديين الأثرياء، وكذلك الحكومة، يسلحون بعض الجماعات المتمردة السورية. وتؤكد مصادر سعودية وسورية أن مئات من السعوديين ينضمون إلى المتمردين، لكن الحكومة تنفي أي دور في رعاية ذلك”.

وفي حالة موثقة، ينقل الواقعة التالية: شجّع قاضٍ في إحدى المحاكم الشباب السعوديين المحتجين المناهضين للحكومة على القتال في سوريا بدلاً من مواجهة العقوبات في الوطن. فقد اعتـُقل محمد آل طلق ، 22 عاما، واعتـُبر مذنباً بتهمة المشاركة في مظاهرة في مدينة بريدة شمال البلاد. وبعد الحكم على 19 شاباً صغيراً بالسجن مع وقف التنفيذ في هذه القضية، دعا القاضي المتهمين الى غرفة جانبية وألقى عليهم محاضرة طويلة حول ضرورة محاربة المسلمين الشيعة في سوريا، وفقاً لوالد محمد، عبد الرحمن آل طلق. أضاف الوالد إن القاضي قال للشباب: “يجب ادخار كل طاقتكم ومحاربة العدو الحقيقي، الشيعة، وليس القتال داخل المملكة”، وهكذا أعطاهم القاضي سبباً للذهاب إلى سوريا. وفي غضون أسابيع من تلك الواقعة، غادر 11 من الشباب الـ 19 للإنضمام الى المتمردين في سوريا. وفي ديسمبر/كانون الأول 2012، قـُتل محمد آل طلق في سوريا، فقدّم والده شكوى رسمية ضد القاضي أواخر العام نفسه، لكنه قال انه لم يتلق أي رد.

ويلقي التحقيق الضوء على كيفية التحاق متابَعين أمام القضاء السعودي بالمسلحين في سوريا: “المدانون بارتكاب جرائم أو مدرجون على قوائم المراقبة لا يتمكنون من السفر دون إذن رسمي من وزارة الداخلية. ومع ذلك، يقول منتقدو الحكومة انه يُسمح لهؤلاء بمغادرة الوطن مع غمزة وإيماءة. ثم إنهم يتسللون عبر الحدود الأردنية إلى جنوب سوريا”.

وفي الخطاب الرسمي تقول السلطات السعودية ان “القتال في سوريا غير قانوني، وسوف يتم القبض على أي شخص يريد السفر خارج المملكة العربية السعودية من أجل المشاركة في مثل هذه النزاعات ومحاكمته، فقط إذا كانت لدينا أدلة قبل أن يغادر البلاد”، وفق تعبير اللواء منصور التركي المتحدث باسم وزارة الداخلية.

وضمن هذا التحقيق مقابلة مع محمد فهد القحطاني، ناشط في مجال حقوق الإنسان وأستاذ الاقتصاد في معهد الدراسات الدبلوماسية في الرياض، يقول الأخير: “تسعى الحكومة لتشتيت الضغوط الداخلية من خلال تجنيد الأطفال الصغار للمشاركة في حرب اخرى بالوكالة في المنطقة، إنهم ينضمون إلى الجماعات المتشددة التي هي بالتأكيد ضد الديمقراطية وحقوق الإنسان، ويمكن أن تكون العواقب خطيرة جداً في المنطقة بأسرها”. القحطاني يصف سياسة السعودية الفعلية بشأن تجنيد الشباب السعوديين للذهاب الى سوريا قائلا: انها تقوم على اساس “لا تسأل، ولا تخبر عن السياسة القائمة”.

وقال ان السلطات السعودية لديها هدف استراتيجي في سوريا: “سياستهم في نهاية المطاف هي أن يكون هناك تغيير للنظام على غرار ما حدث في اليمن، حيث إنهم يريدون استبدال رئيس الدولة بواحد أكثر ودية تجاه السعوديين “، وفق ما قال القحطاني الذي حكمت محكمة سعودية عليه لاحقاً بالسجن لعشرة أعوام بعد اتهامه بإحداث فتنة وتقديم معلومات كاذبة لوسائل الاعلام الاجنبية.

وتفيد تقارير عن مقتل عدد كبير من الشباب السعوديين في سوريا، وهم يفضلون ان يُنسبوا الى جزيرة العرب على نسبتهم الى آل سعود، وينتشرون بفعالية في صفوف الجماعات المسلحة المتشددة في سوريا، ولا سيما داعش والنصرة.

التسلل برعاية حكومية

ومن بين أهم الاتجاهات خلال نصف العام الماضي هو الارتفاع في الأرقام الإجمالية للمقاتلين السعوديين في سوريا وعدد القتلى في صفوفهم، والذي يتجاوز بكثير عدد الذين قُتلوا من جميع الجنسيات الأخرى، بحسب دراسة استقصائية أعدها هارون ي. زيلين من معهد واشنطن بعنوان: “الجهاديون الأجانب في سوريا: تعقب شبكات التجنيد”(2). ويضيف ان “الشبكة الأكبر في مجموعة بيانات النعي للمقاتلين تأتي من داخل العاصمة الرياض، الأمر الذي يثير تساؤلات حول ما إذا كانت الحكومة السعودية مراوغة و/أو تدير ظهرها للنشاط الجهادي الكبير في عاصمتها”. واذ يقول انه ينبغي على الولايات المتحدة أن تلفت انتباه تركيا إلى السهولة التي ينتقل بها المقاتلون الأجانب عبر أراضيها، يرى انه في دول مثل المملكة العربية السعودية، قد لا تتوافر الرغبة السياسية لدى المسؤولين للعمل (من أجل وقف تسلل “الجهاديين” الى سوريا) في ظل المصالح المحددة لحكومتهم في الصراع السوري. ومن ثم، يجب على واشنطن أن تتأكد من تتبع المشكلة بنفسها حتى مع عدم تعاون حكومات أخرى بشكل كامل.

 

برغم ذلك كله، يجادل البعض بأن السعودية لا مصلحة لها في السماح لمواطنيها بالسفر الى سوريا او للعراق او الى اليمن (حيث كان للسعوديين الحضور الأبرز بين المسلحين الذين هاجموا مجمع وزارة الدفاع في صنعاء مؤخراً)، لأن ذلك من شأنه أن يرتد على أمنها بسبب الخبرة القتالية التي يمكن ان ينقلها هؤلاء الى معارفهم داخل المملكة وروح التمرد والعسكرة التي سيحملونها الى أقرانهم بطريقة أو بأخرى في ظل انفتاح العالم اليوم عبر وسائل الاتصال والتواصل. لكن المؤشرات التي ذكرنا بعضاً منها أعلاه تفتح باباً للتساؤل عما اذا كانت سياسة المنع تطبق فعلاً بشكل صارم أو ان هناك استثناءات تهدف للتخلص من بعض الأشخاص، او لتوجيه الأنظار الى قضية هامة في الخارج لحشد التأييد وراء القيادة السعودية وإضفاء شرعية اضافية عليها، او لتغليب الأهداف السياسية الاقليمية على اعتبارات أمنية محددة. علاوة على ذلك، فإن عواقب المغامرة في سوريا قد تكون أسوأ من تلك التي جنتها السعودية بعد حملة التجنيد والتسهيلات لـ “المجاهدين” الذاهبين الى أفغانستان ونتج عنها ولادة تنظيم القاعدة، لاسيما في ضوء حقيقة ان المجتمع السعودي بتلاوينه المختلفة بات أكثر تعبيراً عن نفسه وأكثر تشدداً ومجاهرة بمعارضة بعض السياسات الحكومية أو حتى ممارسات بعض أفراد العائلة الحاكمة، مما سيصعّب مهمة ضبط إيقاعه في ما بعد.

 

  • فريق ماسة
  • 2013-12-28
  • 10859
  • من الأرشيف

طلب عاجل من واشنطن الى حلفائها: ضبط لعبة الإرهاب؟

هي واحدة من المرات القليلة، بل النادرة، التي تتوجه فيها واشنطن الى “قادة المنطقة” لطلب “اتخاذ التدابير الفعالة لمنع تمويل وتجنيد عناصر في المجموعات (الارهابية)، ومن بينها الدولة الإسلامية في العراق والشام وجبهة النصرة، وإيقاف تدفق المقاتلين الأجانب إلى سورية، حيث يقوم الكثير منهم لاحقاً بتنفيذ تفجيرات انتحارية ضد مدنيين أبرياء في العراق”. تبدو إذاعة البيان متوافقة زمنياً مع التفجيرات التي تستهدف مدنيين أبرياء في العراق، لكنها تعكس رسالة واضحة لا تحتمل اللبس. هي تحمل معنى الطلب وايضاً الإتهام في الوقت عينه: فلم يكن الطلب ضرورياً لولا علم أكيد لدى واشنطن بأن قادة في المنطقة لا يفعلون ما هو ضروري لمنع تمويل وتجنيد عناصر في الشبكات المتطرفة العنيفة، هذا اذا لم يكونوا على دراية ووعي ورعاية لما يدور على أراضيهم وربما خارجها من عمليات تجنيد وتمويل لهذه الشبكات. ويسري الحديث منذ أشهر طويلة عن شبكات مموَّلة خليجياً تقوم بعمليات تجنيد في بعض دول المغرب العربي لآلاف من الشبان الذين يتم تدريبهم في ليبيا اولاً قبل ان يتم شحنهم الى تركيا للجهاد في سوريا وأحياناً في العراق عن طريق كردستان. وهذا ما يفسر تركز جنسيات مغاربية في صفوف القتلى من غير السوريين في سوريا، اذا أخذنا بأرقام التيار السلفي الجهادي في الأردن الذي تحدث عن مصرع 1902 تونسيين في هذا البلد (أعلى رقم في القائمة)، غالبيتهم من “داعش” وجبهة النصرة، يليهم الليبيون: 1807 قتلى، وهناك من المغرب 412 قتيلا، ومن الجزائر 274 قتيلا. واللافت أن السعودية باتت مؤخراً تحتل موقعاً متقدماً في قائمة القتلى من دول الخليج بواقع 714 قتيلا، متجاوزة حتى الحصيلة اليمنية (571). الرسالة الأميركية تندرج ضمن أولوية أميركية جديدة تعمل لعزل المجموعات التي تكاثرت وتنامت على الارض السورية في ظل الأزمة، وبعضها مثل تنظيم داعش بات يقيم ما يشبه إمارة ممتدة عبر الحدود الى العراق. وتوقن أميركا ان اللعبة انفلشت أكثر من اللازم، وان هدف تغيير النظام في سوريا يجب ان لا يعمي أبصار قادة المنطقة عن خطر الارهاب الذي “يشكل تهديداً لمنطقة الشرق الأوسط الكبير”، وفق تعبير الخارجية الاميركية. إنما لواشنطن طريقتها الدبلوماسية في إرشاد وتوجيه الحلفاء الذين أخذت بهم المغامرة مأخذاً شططاً يجب تداركه قبل أن تنعكس الأمور عليهم وعلى المصالح الأميركية. من المقصود بالرسالة الأميركية؟ ليس من الصعب التكهن بأن لأميركا ملاحظات ملموسة على تورط أنظمة خليجية في الذهاب بعيداً في لعبة إسقاط النظام السوري من دون احتساب المضاعفات الجانبية للعملية الجراحية الجارية، وخاصة لجهة المساهمة عن قصد او عن غير قصد في إعلاء كعب المتطرفين (سوريين وأجانب) الذين يبدون اليوم في صدارة مشهد المعارضين المسلحين في سوريا ولا يخفون مناهضتهم للتغيير الديمقراطي في سوريا وعدم التزامهم بأي من معايير حقوق الانسان بدعوى انهم لا يحتكمون الا لشرع الله كما يفهمونه (قديماً قال الخوارج: “لا حكم الا لله” وكانت كلمة أخّاذة أسرت قلوبهم وفتحت الباب أمام ملاحم وفتن أودت بحياة الآلاف من المسلمين). لقد لفت المراقبين خبران تلازما مع صدور الطلب الاميركي: الخبر الأول: وضعت وزارة الخزانة الاميركية القطري عبدالرحمن النعيمي، رئيس مجلس مؤسسة “الكرامة” لحقوق الإنسان التي تنشط من سويسرا، على اللائحة 13224 لداعمي الإرهاب، واتهمته بتوفير دعم مادي لتنظيمات تابعة للقاعدة في اليمن وسوريا والعراق. ووفقاً لمسؤولين أميركيين، فإن النعيمي كان يعمل ممولاً لتنظيم القاعدة سراً، حيث كان يحوّل ملايين الدولارات إلى الشركات التابعة لمجموعات في سوريا والعراق. وذكرت المصادر أن النعيمي وزميله اليمني عبدالوهاب بن محمد بن عبدالرحمن الحميقاني خدما كمستشارَيْن للمؤسسات المدعومة من الحكومة في قطر وتوليا مناصب رفيعة في المجموعات الدولية لحقوق الإنسان. ومن المثير للإنتباه اشارة الوزارة الاميركية الى ان النعيمي قام بتحويل 600 ألف دولار إلى قيادي بتنظيم القاعدة في سوريا يدعى “أبوخالد السوري”، علاوة على مبالغ شهرية وصلت أحياناً إلى مليوني دولار شهرياً لمصلحة القاعدة في العراق. واسم “أبو خالد السوري” ورد سابقاً في معلومات استخبارية أميركية على انه موفد من زعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري لحل الإشكال بين جبهة النصرة وتنظيم داعش. (يُفتح السؤال هنا عن توقيت عملية تلميع صورة زعيم النصرة “أبو محمد الجولاني” من خلال المقابلة التي بثتها قناة الجزيرة القطرية وبدا فيها صاحب آراء “معتدلة”، وهل لذلك من علاقة مع التجاذب القائم بشأن تحشيد الجماعات المسلحة لمصلحة هذا الطرف الاقليمي او ذاك، ومحاولة تعديل تصنيف الدول الغربية لـ “النصرة” كمنظمة إرهابية؟).   وتتزامن هذه الاتهامات مع جدل داخل الإدارة الأميركية حول الدور الذي يلعبه رجال أعمال قطريون في تمويل الجماعات المتشددة في سوريا، تحت غطاء جمعيات خيرية، وعلى رأسها جمعية تعرف باسم “حملة مدد أهل الشام” التي يقال إن جبهة النصرة في سوريا قد اعتبرتها في آب/أغسطس الماضي إحدى القنوات التمويلية المفضلة لدى التنظيم. وفي حين نفى النعيمي الاتهامات الأميركية، مؤكداً في الوقت نفسه انه من معارضي سياسة أمريكا في العالم العربي ودول الخليج بشكل خاص منذ غزو العراق سنة 2003، قال مساعد وزير الخزانة الأميركي لتمويل الإرهاب دانيال غلاسر إن واشنطن تتوقع من قطر عزل الأشخاص الذين يمولون القاعدة. وحدها الكويت من بين دول الخليج المشار إليها لقيت مديحاً من غلاسر لتعاونها “الوثيق” مع بلاده، وخاصة مع إصدارها قانون مكافحة الإرهاب الجديد. ويبدو تخصيص القطري بالإسم رسالة موجهة ضمناً الى الشريك الخليجي الأكبر على طريقة المثل القائل: إياكَ أعني واسمعي يا جارة. السعودية: التمويل وتجنيد الملاحَقين الخبر الثاني: تأكيد مصادر سعودية لصحيفة “الحياة” بتاريخ 21 الجاري انضمام متهمين في قضايا إرهاب أفرجت عنهم المحكمة الجزائية في المملكة بكفالة، إلى تنظيم القاعدة في اليمن وإلى “الدولة الإسلامية في العراق والشام” (داعش). وبحسب المصادر، فإن “معظم الموقوفين يتقدمون بطلبات إخلاء سبيلهم، فينظر فيها القضاة ويقررون إطلاقهم بكفالة على أن تستكمل محاكمتهم أو التريث في ذلك، وهؤلاء كانوا يُظهرون التسامح والندم على ما بدر منهم أمام القاضي، ويخفون بداخلهم الفكر الإرهابي الذي سيطر عليهم”. ويأتي نشر هذا الخبر في أعقاب ظهور إشارات مختلفة على تشجيع حكومي سعودي لبعض المحكومين في سجون المملكة للذهاب إلى سوريا، إما للتخلص منهم حين يُقتلون على الأراضي السورية او لتفريغ طاقتهم الاحتجاجية في مكان آخر. وهناك تقارير اميركية متواترة عن هذا التوجه. أستعيد هنا ما ورد في تحقيق استقصائي نشر مبكراً هذه السنة في موقع NPR (الاذاعة الوطنية الأميركية سابقاً) وموقع غلوبال بوست الإخباري الأميركي(*). التحقيق أجراه الصحافي “ريس إرليخ” من داخل المملكة العربية السعودية والبحرين وتضمن مقابلات هامة مع ذوي شباب سعوديين ذهبوا للقتال في سوريا وشخصيات وحقوقيين يتابعون هذه القضية (1). يقول إرليخ إنه “بموافقة ضمنية من آل سعود وبدعم مالي من النخب السعودية الغنية، حمل الشباب السلاح في ما يسميه رجال الدين السعوديون “الجهاد” أو “الحرب المقدسة” ضد نظام الأسد”. وينقل عن “أكثر من عشرة مصادر أن السعوديين الأثرياء، وكذلك الحكومة، يسلحون بعض الجماعات المتمردة السورية. وتؤكد مصادر سعودية وسورية أن مئات من السعوديين ينضمون إلى المتمردين، لكن الحكومة تنفي أي دور في رعاية ذلك”. وفي حالة موثقة، ينقل الواقعة التالية: شجّع قاضٍ في إحدى المحاكم الشباب السعوديين المحتجين المناهضين للحكومة على القتال في سوريا بدلاً من مواجهة العقوبات في الوطن. فقد اعتـُقل محمد آل طلق ، 22 عاما، واعتـُبر مذنباً بتهمة المشاركة في مظاهرة في مدينة بريدة شمال البلاد. وبعد الحكم على 19 شاباً صغيراً بالسجن مع وقف التنفيذ في هذه القضية، دعا القاضي المتهمين الى غرفة جانبية وألقى عليهم محاضرة طويلة حول ضرورة محاربة المسلمين الشيعة في سوريا، وفقاً لوالد محمد، عبد الرحمن آل طلق. أضاف الوالد إن القاضي قال للشباب: “يجب ادخار كل طاقتكم ومحاربة العدو الحقيقي، الشيعة، وليس القتال داخل المملكة”، وهكذا أعطاهم القاضي سبباً للذهاب إلى سوريا. وفي غضون أسابيع من تلك الواقعة، غادر 11 من الشباب الـ 19 للإنضمام الى المتمردين في سوريا. وفي ديسمبر/كانون الأول 2012، قـُتل محمد آل طلق في سوريا، فقدّم والده شكوى رسمية ضد القاضي أواخر العام نفسه، لكنه قال انه لم يتلق أي رد. ويلقي التحقيق الضوء على كيفية التحاق متابَعين أمام القضاء السعودي بالمسلحين في سوريا: “المدانون بارتكاب جرائم أو مدرجون على قوائم المراقبة لا يتمكنون من السفر دون إذن رسمي من وزارة الداخلية. ومع ذلك، يقول منتقدو الحكومة انه يُسمح لهؤلاء بمغادرة الوطن مع غمزة وإيماءة. ثم إنهم يتسللون عبر الحدود الأردنية إلى جنوب سوريا”. وفي الخطاب الرسمي تقول السلطات السعودية ان “القتال في سوريا غير قانوني، وسوف يتم القبض على أي شخص يريد السفر خارج المملكة العربية السعودية من أجل المشاركة في مثل هذه النزاعات ومحاكمته، فقط إذا كانت لدينا أدلة قبل أن يغادر البلاد”، وفق تعبير اللواء منصور التركي المتحدث باسم وزارة الداخلية. وضمن هذا التحقيق مقابلة مع محمد فهد القحطاني، ناشط في مجال حقوق الإنسان وأستاذ الاقتصاد في معهد الدراسات الدبلوماسية في الرياض، يقول الأخير: “تسعى الحكومة لتشتيت الضغوط الداخلية من خلال تجنيد الأطفال الصغار للمشاركة في حرب اخرى بالوكالة في المنطقة، إنهم ينضمون إلى الجماعات المتشددة التي هي بالتأكيد ضد الديمقراطية وحقوق الإنسان، ويمكن أن تكون العواقب خطيرة جداً في المنطقة بأسرها”. القحطاني يصف سياسة السعودية الفعلية بشأن تجنيد الشباب السعوديين للذهاب الى سوريا قائلا: انها تقوم على اساس “لا تسأل، ولا تخبر عن السياسة القائمة”. وقال ان السلطات السعودية لديها هدف استراتيجي في سوريا: “سياستهم في نهاية المطاف هي أن يكون هناك تغيير للنظام على غرار ما حدث في اليمن، حيث إنهم يريدون استبدال رئيس الدولة بواحد أكثر ودية تجاه السعوديين “، وفق ما قال القحطاني الذي حكمت محكمة سعودية عليه لاحقاً بالسجن لعشرة أعوام بعد اتهامه بإحداث فتنة وتقديم معلومات كاذبة لوسائل الاعلام الاجنبية. وتفيد تقارير عن مقتل عدد كبير من الشباب السعوديين في سوريا، وهم يفضلون ان يُنسبوا الى جزيرة العرب على نسبتهم الى آل سعود، وينتشرون بفعالية في صفوف الجماعات المسلحة المتشددة في سوريا، ولا سيما داعش والنصرة. التسلل برعاية حكومية ومن بين أهم الاتجاهات خلال نصف العام الماضي هو الارتفاع في الأرقام الإجمالية للمقاتلين السعوديين في سوريا وعدد القتلى في صفوفهم، والذي يتجاوز بكثير عدد الذين قُتلوا من جميع الجنسيات الأخرى، بحسب دراسة استقصائية أعدها هارون ي. زيلين من معهد واشنطن بعنوان: “الجهاديون الأجانب في سوريا: تعقب شبكات التجنيد”(2). ويضيف ان “الشبكة الأكبر في مجموعة بيانات النعي للمقاتلين تأتي من داخل العاصمة الرياض، الأمر الذي يثير تساؤلات حول ما إذا كانت الحكومة السعودية مراوغة و/أو تدير ظهرها للنشاط الجهادي الكبير في عاصمتها”. واذ يقول انه ينبغي على الولايات المتحدة أن تلفت انتباه تركيا إلى السهولة التي ينتقل بها المقاتلون الأجانب عبر أراضيها، يرى انه في دول مثل المملكة العربية السعودية، قد لا تتوافر الرغبة السياسية لدى المسؤولين للعمل (من أجل وقف تسلل “الجهاديين” الى سوريا) في ظل المصالح المحددة لحكومتهم في الصراع السوري. ومن ثم، يجب على واشنطن أن تتأكد من تتبع المشكلة بنفسها حتى مع عدم تعاون حكومات أخرى بشكل كامل.   برغم ذلك كله، يجادل البعض بأن السعودية لا مصلحة لها في السماح لمواطنيها بالسفر الى سوريا او للعراق او الى اليمن (حيث كان للسعوديين الحضور الأبرز بين المسلحين الذين هاجموا مجمع وزارة الدفاع في صنعاء مؤخراً)، لأن ذلك من شأنه أن يرتد على أمنها بسبب الخبرة القتالية التي يمكن ان ينقلها هؤلاء الى معارفهم داخل المملكة وروح التمرد والعسكرة التي سيحملونها الى أقرانهم بطريقة أو بأخرى في ظل انفتاح العالم اليوم عبر وسائل الاتصال والتواصل. لكن المؤشرات التي ذكرنا بعضاً منها أعلاه تفتح باباً للتساؤل عما اذا كانت سياسة المنع تطبق فعلاً بشكل صارم أو ان هناك استثناءات تهدف للتخلص من بعض الأشخاص، او لتوجيه الأنظار الى قضية هامة في الخارج لحشد التأييد وراء القيادة السعودية وإضفاء شرعية اضافية عليها، او لتغليب الأهداف السياسية الاقليمية على اعتبارات أمنية محددة. علاوة على ذلك، فإن عواقب المغامرة في سوريا قد تكون أسوأ من تلك التي جنتها السعودية بعد حملة التجنيد والتسهيلات لـ “المجاهدين” الذاهبين الى أفغانستان ونتج عنها ولادة تنظيم القاعدة، لاسيما في ضوء حقيقة ان المجتمع السعودي بتلاوينه المختلفة بات أكثر تعبيراً عن نفسه وأكثر تشدداً ومجاهرة بمعارضة بعض السياسات الحكومية أو حتى ممارسات بعض أفراد العائلة الحاكمة، مما سيصعّب مهمة ضبط إيقاعه في ما بعد.  

المصدر : المنار/علي عبادي


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة