دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
لم يشهد التاريخ حرباً بهذا التعقيد و المستويات المتعددة و المتشابكة ضمن مساحة محدودة كما هي حال الحرب الدائرة اليوم على الأرض السورية, صراع أشبه ما يكون بحرب عالمية تتواجه فيها دول و مصالح و إرادات و إيديولوجيات في معركة كسر عظم أو ما يمكن تسميته ( معركة المصير ) التي ستؤسس لنظام عالمي جديد و لمرحلة جديدة يفرض فيها المنتصر إرادته على المهزوم. في سورية العقدة و منها سيأتي الحل ..هذا ما تدركه كل القوى المتصارعة على الساحة السورية و لهذا لم يدّخر أي من الأطراف جهداً في سبيل الخروج منها منتصراً.
هي حرب اتخذت أشكالاً و صعداً مختلفة عسكرية و اقتصادية و نفسية و إعلامية و فكرية, لكن أخطرها ربما كانت الحرب الاستخبارية بحكم أنها الأساس الذي بنيت عليه الحرب بمستوياتها الأخرى, إذ لا يمكن الانتصار في أية معركة بغض النظر إن كانت عسكرية أم اقتصادية أم نفسية أم إعلامية بدون الحصول على أكبر قدر من المعلومات عن الخصم و قدراته و مكامن قوته و ضعفه, و كثير من المتابعين تشكلت لديهم قناعة بأن التحضير لهذه الحرب لم يبدأ قبل ثلاثة أعوام بل إن ما حدث في عام 2011 هو ثمرة جهد مخابراتي معقد وضع في خدمته شبكات تجسس و وسائل إعلام و مثقفون و خبراء حروب اقتصادية و نفسية و أموال ضخمة على مدى عقود ليتم لاحقاً تطوير الهجوم بالشكل الذي جرت عليه الأمور فيما تلا انطلاق ما سمي ( الربيع العربي ) و لا يتورع أولئك عن الإلقاء باللائمة على الأجهزة الأمنية السورية و حليفاتها لعدم كشفها لهذا المخطط مسبقاً أو الرد عليه.
قد يكون هذا الرأي محل أخذ و رد و سجال طويل, لكن الحقيقة التي يدركها الجميع اليوم هي أن الأرض السورية باتت ساحة صراع كبرى ما بين أجهزة استخبارات و جواسيس و عملاء تستخدم فيها الأطراف المتصارعة أحدث ما توصل إليه العلم و التكنولوجيا من أقمار صناعية و أجهزة تنصت و رصد و متابعة و تشويش..إلخ, لكن العامل الحاسم بالنسبة لهكذا مواجهة كان و سيبقى هو العنصر البشري.
لا شك لديّ بأن أعداء سورية استطاعوا تجنيد عدد كبير من العملاء للعمل داخل الأرض السورية و حتى داخل أجهزة الدولة المختلفة مستغلين حالة فقدان التوازن التي عاشتها البلاد في بدايات الأحداث و الغشاوة التي غطت عيون و قلوب كثير من السوريين و منعتهم من رؤية الحقيقة كما هي عدا عن القلوب الفاسدة و العقول المريضة أساساً, و أنا هنا لا أتحدث عمن يقدم خدماته للعدو دون أن يعي ذلك, بل عن جواسيس سوريين تم تجنيدهم مباشرة و بكامل إرادتهم من قبل الموساد والسي آي إيه و الإم آي –6 و أجهزة استخبارات أخرى ( قطرية_ سعودية_ تركية..الخ ), كثير من هؤلاء لم يحن الوقت المناسب بعد لتفعيلهم بالنسبة لمشغليهم خاصة بعد ثبوت فشل التوقيت و الأسلوب الذي أضاع عليهم فرصة استغلال موقع مهم كان يشغله الخائن رياض حجاب بالشكل الأمثل على سبيل المثال لا الحصر, و منهم من لا زال يبدي وقوفه إلى جانب الدولة و القوات المسلحة بل يزايد على الآخرين في حب القائد و الوطن و الجيش في بعض الأحيان بانتظار ( اللحظة المناسبة )!
من يدرك مدى ضراوة الحرب التي تشن على سورية وطناً و شعباً و قيادة و جيشاً , سيعي شراسة المعركة التي تخوضها أجهزة الاستخبارات السورية و حجم الضغوط و المسؤوليات الكبرى التي تقع على عاتقها و سيعلم حجم الجهود و البطولات و التضحيات التي بذلها و يبذلها عناصر تلك الأجهزة بصمت مطبق بعيداً عن أعين وسائل الإعلام و أقلام الكتّاب و المحللين, بل إن الطرف الأكثر إدراكاً لعظمة تلك البطولات و التضحيات هي أجهزة استخبارات العدو ذاتها.
و لا أجد ضيراً في الإتيان بشواهد قليلة عنها سيّما و أنها باتت أمراً مألوفاً لخصومنا:
يروي الرقيب ( م ) من مرتبات احد الأجهزة الأمنية السورية ”الذي نال القسم الأكبر من حملات التشويه و الشيطنة على يد وسائل إعلام العدو” تفاصيل المهمة التي كلّف بها و التي تقضي ( بانشقاقه ) و الالتحاق بإحدى المجموعات الإرهابية في ريف إدلب و عن طبيعة عمل هكذا مجموعات و هيكليتها و مصادر تمويلها و تسليحها بالإضافة لأسماء عناصرها و خلفياتهم, و كيف كان يطلق النار معهم على حواجز الجيش العربي السوري و يضع خطط الهجوم و الانسحاب دون أن ينسى إطلاق التكبيرات مع كل رصاصة!و كيف أن الأوامر كانت تقضي بفعل كل ما يلزم حتى ينال ثقة المجموعة و قائدها…يتابع الرقيب ( م ) الحديث بصوت متهدج يعكس ألمه و العناء الذي تكبده أثناء مجاراته لأفعالهم الدنيئة الإجرامية و التي يعجز اللسان عن وصف مدى قبحها و همجيتها, لكن صوته هذا لا يلبث أن يتبدل ليعكس ارتياحه و علامات الثقة بالنصر و إيمانه بضآلة التضحيات أمام الحفاظ على الوطن و الدفاع عنه خاصة بعد أن أفضت المعلومات التي جمعها إلى القضاء على معظم أفراد المجموعة الإرهابية و اعتقال من تبقى منهم على قيد الحياة…ليختم ضاحكاً ( بعد انتهاء الحرب..سيفاجأ المرتزقة كيف كنا نحصي أنفاسهم واحداً واحداً حتى أثناء نومهم, هذا إن بقي أحد منهم على قيد الحياة حينها!).
في مكان آخر لكن هذه المرة في أقصى الجنوب السوري, يتجمع العشرات من الإرهابيين القادمين من الخليج و مناطق أخرى و هم يتحضرون لـ ( غزوة ) جديدة تضاف إلى لائحة غزوات قتل المدنيين العزل بالدرجة الأولى, يجري قائد المجموعة اتصالاً ( آمناً ) عبر هاتف يستخدم الأقمار الصناعية, ما هي إلا لحظات تمرّ حتى يَسمع من في المكان صوتاً هادراً مألوفاً يجوب السماء, ليكون ذلك آخر صوت تسمعه آذانهم المليئة بصملاخ فتاوى التكفير و القتل و قطع الرؤوس, قبل أن تحوّل صواريخ الـ ( ميغ-23 ) رؤوسهم إلى ألعاب نارية أضاءت الأفق لدقائق عدّة.
على بعد بضع مئات من الأمتار, يقف أحد الذين سهّلوا دخول الإرهابيين عبر الحدود محدثاً الضابط المسؤول على الطرف الآخر من اللاسلكي ( إصابة مؤكدة..تمت العملية بنجاح).
يجزم مطّلعون أن هكذا عمليات باتت تتم بشكل شبه يومي و بذات الطريقة.. و تطلق ذات النوع من الألعاب النارية!
من ناحية أخرى..لا يستطيع كثير من العاملين في الأجهزة الأمنية السورية إخفاء حزنهم جرّاء حملات التشويه و التحريض و عمليات القتل و التنكيل التي تستهدفهم من قبل من كانوا يعتبرونهم شركاء في الوطن حتى وقت قريب, لكنّهم يدركون في الوقت ذاته أن الوطن أسمى و أغلى من كل التضحيات, و ربما قد تلخص هذه الحادثة بعضاً مما أعنيه:
المكان: إحدى غرف التحقيق التابعة لفرع أمني .
جلس 12 سورياً منتمياً لإحدى الجماعات المسلحة في ريف دمشق بانتظار ما اعتبروه مصيراً حتمياً, فبعد كثير من القصص و الروايات التي سمعوها عن أساليب التعذيب ( الوحشية ) التي تنتظر من يقع في قبضة المخابرات السورية و كيف أن الموت أرحم بكثير من البقاء على قيد الحياة في فرع أمن سوري..تعاهدوا على تحمل هذا التعذيب المنتظر أياً كانت شدته و قسوته و عدم البوح بأية معلومة قد يستفيد منها ( النظام المجرم ) في مواجهة و تعقب ( الثوار ).
فُتح البابُ ليدخلَ المحقّق ( ع ) بشاربَيه العريضين و بنيته الجسمانيّة القويّة و ملامحهِ الريفيّة, يجول بنظره على الموقوفين ثم يأمر بنزع العصابات عن أعينهم و فك قيودهم قبل أن يطلب من الحرّاس الخروج و عدم الدخول إلى الغرفة مهما سمعوا! كان أول ما وقعت عليه أعين الموقوفين هو المسدّس على خصرِ المحقق, و أول ما تبادر إلى أذهانهم ( الآن سيفرغ رصاصاته في رؤوسنا!), التقط المحقق نظراتهم, أمسك بالمسدّس بيده و أمسك الموقوفون بقلوبهم ( لقد حان أجلُنا!)..يبتسم المحقق ثم يضعُ سلاحهُ على الطاولةِ أمامهم!
( مرحباً ) هي آخر كلمة توقع ( الثوار ) الاثنا عشر سماعها من محقق في فرع مخابرات سوري, لكنها كانت أول ما قاله لهم ليُتبعها بـ ( هل أنتم جائعون؟ هل يريد أحدكم دخول الحمام؟ ) ..يتبادل الموقوفون نظرات الاستغراب فيما بينهم مرددين بصوت خافت ( لا..شكراً).
يدس المحقق يده في جيبه ليخرج علبة سجائر وطنية ( أيود أحدكم التدخين؟ ) تمر لحظةُ صمتٍ و ترقّب..يكسرُ أحدُهم حاجزَ الخوفِ و يستلُّ لفافةَ تبغٍ ثم يتبعه آخرون..
( أنتم جميعكم أخوتي و أبنائي, ما الذي جاء بكم إلى هنا؟ هل حقاَ تريدون قتلي؟
عندما كانت أمك أو أختك أو زوجتك تعود لوحدها في منتصف الليل إلى المنزل دون خوف من مجرم أو قاطع طريق..ألم يكن ذلك نتيجة سهري و زملائي لحمايتهم؟ عندما كنتم تذهبون من أقصى جنوب البلاد إلى أقصى شمالها مطمئنين واثقين أن أحداً لن يعترض سبيلكم أو يعكّر صفو أعمالكم..أليس ذلك نتيجة لما يقوم به عناصر الأمن؟ و الآن تريدون قتلنا!!انظروا إلي…رجاءً انظروا إلي..هل آذيت أحدكم يوماً؟ ( يهمهم الموقوفون أن.. لا )إذاً لماذا تريدون قتلي؟ سأقول لكم شيئاً..إذا كان قتلي يشفي صدوركم و يريح قلوبكم هاكم مسدّسي على الطاولة ..اقتلوني..لو كنتم فعلاً تظنّون أن الله سيرضى عنكم بقتلي..هيا..لا تتردوا..اقتلوني!
لكن قبل أن تقتلوني أريدكم أن تعلموا هذا…أُقسم بالله العظيم ثلاثاً أنّي و زملائي و رغم كل ما جرى كنا و سنبقى مستعدّين للتضحية بحياتنا في سبيل حماية أهلكم و نسائكم و أطفالكم..هل تعلمون لماذا؟ لأنهم سوريون و لأننا أقسمنا على حماية سورية).يؤكّد المحقق ( ع ) على أهمية المعلومات التي قدمها المعتقلون بعد تعبيرهم عن الندم الشديد و استعدادهم لأية عقوبة يفرضها القانون جرّاء ما اقترفت أيديهم و يقول ( أميل للاعتقاد بأن دموع الندم التي سالت من عيونهم بعد ما سمعوه من كلام صادق..كانت صادقة أيضاً..أتمنى ذلك).
قد لا تحظى كل الحوادث المشابهة بذات النهاية السعيدة فكثيرٌ ممن انغمسوا في إيذاء الوطن لم يعد بإمكانهم سماعُ أيّ صوت آخر سوى صوت ( الشيخ ) أو ( الأمير !) لكنها تبقى واحدة من القصص الكثيرة التي تذكّرنا بأننا أولاً و أخيرا..سوريون.
بنظر البعض, قد لا تعفي تلك الجهود و التضحيات التي تقدمها الأجهزة الأمنية من ناحية عدم الاستعداد الأمثل لمؤامرات حاكها الغرب و أعوانه في المنطقة من المسؤولية, و من منطلق أن مهمة أي جهاز استخبارات في العالم هو منع وقوع الاعتداء و ليس التعامل مع نتائجه,عدا عن العشرات من عمليات الاغتيال و الهجمات الانتحارية و السيارات المفخخة التي استطاعت الوصول إلى أهدافها رغم كل الإجراءات الأمنية المتخذة, لكنهم برأيي يجانبون الصواب و المنطق, لأن ما واجهته الاستخبارات السورية لا يستطيع أي جهاز أمني في العالم مواجهته و الصمود في وجهه, فهذا الجهاز يقارع رغم الإمكانات المحدودة ( قياساً بما هو متوفر لخصومه ) عشرات أجهزة المخابرات العالمية ذات الباع الطويل و الخبرة الكبيرة في إثارة القلاقل و تدمير الدول من الداخل مستفيدة من إمكانياتها المالية الضخمة و التكنولوجيا المتطورة بحوزتها, و مع ذلك فهو يوجه لهم و لعملائهم الضربة تلو الضربة , و يستمر في إفشال مخططاتهم و زرع العملاء ضمن مجموعاتهم ( حتى أن بعضهم أصبحوا قادة لفصائل و كتائب مسلّحة! ) و استمالة من قاموا بتجنيدهم ليعملوا في صالحه و التصنت على مكالماتهم و اتصالاتهم , و لن أؤكد أو أنفي وقوع عناصر استخبارات أجنبية في أيدي المخابرات السورية فهو أمر ستكشفه الأيام المقبلة , لكن الذي يمكننا الجزم به هو أن المعركة مستمرة و فصولها ستتوالى و لن يكون آخرها ما تناقلته مصادر مطّلعة مؤخراً عن وقوع مجموعة عملاء مكونة من (43) شخصاً ” بعضهم من جنسيات أجنبية ” تابعين لجهاز استخبارات معادي كانوا يتخذون من إحدى مناطق العاصمة ( الراقية ) مخبأ لهم في أيدي المخابرات السورية, بل هي معركة ستبقى مستمرة حتى بعد انتهاء الحرب بشكلها العسكري الحالي المباشر, لتأخذ طابعاً استباقياً هدفه إنهاء الخطر و التعامل مع التهديد…قبل دخوله الأرض السورية.
و سيسجل التاريخ قريباً أن سورية انتصرت بتكاتف شعبها و جيشها و أجهزتها الأمنية, و أن هناك من استحق بجدارة لقب ( حماة الديار )..لأولئك نقول من أعماق قلوبنا: عليكم سلام
المصدر :
الماسة السورية/ وكالة أوقات الشام
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة