دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
صدام الرموز الجزائرية مع رموز العائلة الحاكمة في جزيرة العرب بخصوص مستقبل الأمة، ليس وليد الأمس ولم يكن يوما من جانب الجزائر مبنيا على مصالح ذاتية اوقطرية، بل مؤسسا وبكل تجرد على المصلحة العليا للأمة الاسلامية،
ويعود تاريخه منذ بدايات تفتيت الخلافة تحت عنوان القومية العربية أواسط القرن التاسع عشر، ولعل بداية الصدام على ساحة الشرق الأوسط بشكل عسكري، تجلت على يدي أحفاد الأمير عبد القادر بن محي الدين، وبالأخص الأميرين عبد القادر ومحمد السعيد، الذي جاء بشأنهما في تقرير سري مطول للجاسوس البريطاني المشهور بلورنس العرب، بداية القرن العشرين الى رئيس المخابرات في القاهرة، يتضمن احباطهما لعملية ضرب الخطوط التركية في درعا، وكذلك احباط عملية تدمير جسر اليرموك، فضلا عن رأيه بأن الأمير عبد القادر متعصب للإسلام، ومن أخطر ما جاء في تقريره قوله:” …ولم يكن في سورية من يستحق الشنق كهذين الشقيقين..” (يقصد الأميرين)، ما دعا كثيرا من المؤرخين لاعتبار لورنس وراء استشهاد الامير عبد القادر. استدل بهذا التقرير من كتاب “المخفي من حياة لورنس العرب” لفيليب نايتلي وكولن سمبسون، واثقا من معرفة القارئ بالأدوات العسكرية التي كان يضرب بها لورنس العرب، ومدى دوره الخطير والرئيسي في صناعة أنظمة الحكم بالمشرق العربي قبيل انهيار الخلافة. من هنا بدأ صدام رموز جزائرية بشكل غير مباشر، مع الملوك المستقبليين لدولة السعودية، وإن كان الصراع العسكري والسياسي مع راعي صناعة الشرق الاوسط حينها المملكة البريطانية.(بريطانيا انقلبت على الشريف لتقف الى جنب آل سعود في هذه المرحلة).
الخط البياني للمواجهة السياسية بين القيادة السعودية ورجال الجزائر، تشير بعض محطاته في التاريخ المعاصر للدولتين، لكونه بقي على حاله، بين طرف توسع حلمه بعد تأسيس مملكته الى أحقيته في تولي منصب خلافة الأمة الاسلامية، وإن تحت مسميات أخرى كزعامة العالم العربي، أو قيادة عالم "السنة" كما يحلو للبعض وصفه، وبين دولة عادت للساحة الدولية، ليست صنيعة أحد وإنما بدماء ملايين الشهداء من رجالها ونسائها، لها رؤية استراتيجية تعتمد مرتكزات علمية وليس أحلاما وأوهاما؛ لا أكشف سرا هنا حين أقرر بأن أول صدام لفظي حاد وقع بين الجانبين، كان أواسط سبعينيات القرن الماضي، حين قررت الجزائر فرض اللغة العربية على هيئة الأمم المتحدة، وما كان صادما هنا هو موقف ممثلي السعودية الذي لم يكتفي بمعارضة هذا الأمر، بل عمل المستحيل لإعاقته، وللأمانة التاريخية، ما كان للرئيس الهواري بومدين أن يفرض هذا الحق المشروع للأمة العربية بين مجمع الأمم، لولا أن استعمل بشكل مباشر لغة تهديدية حاسمة، أقحم فيها قوى عظمى تعتبر كلمة الجزائر حينها لا يمكن أن تنزل للأرض، مرضاة حتى لدولة عظمى فضلا عن توابعها.
النقطة الصدامية الثانية من خط بيان العلاقات بين البلدين، وكنت شاهدا شخصيا عليها، كان في القمة العربية في القاهرة وما تقدمها عام 1991، حين رفضت الجزائر بشكل قاطع إقرار الاستعانة بقوى أجنبية لتحرير الكويت، وتمكنت من ضم تسع دول عربية الى موقفها الداعي لتكوين جيش عربي مشترك يضطلع بهذه المهمة، وكان العمل الدبلوماسي الجزائري ماضيا بضغطه وحنكته في جلب مزيد من الاصوات، قابله سوق نخاسة حقير، لشراء أصوات دويلات عربية، كان يقوده الوفد السعودي بحميّة تجاوزت الموقف الكويتي نفسه، ولولا تحايل الرئيس حسني مبارك حينها وبتوجيه الولايات المتحدة، لتمكنت الجزائر من نسف القرار الذي توصلت اليه زورا السعودية، والذي أدخل الأمة العربية من حينها الى اليوم في كوارث لطالما نبه لخطرها الوفد الجزائري؛ هذا ما عرفته شخصيا من الرئيس الجزائري الراحل الشاذلي بن جديد، وبعض من شخصيات الوفد المرافق له حينها. وجاء رد السعودية فيما بعد على الجزائر عام 1992 متجاوزا كل القيم الانسانية، وباختصار لا يختلف في شيء عن بصماتها اليوم في العراق من سيارات مفخخة وانتحاريين، وكذلكم في سورية ولبنان وغيرهما، تحت تغطية من الفتاوى بذات نصوص اليوم، ومن نفس الوجوه تقريبا.
والنقطة الثالثة من هذا الخط البياني، موقف الجزائر من أحداث الثورات العربية، وبالأخص ليبيا ورفضها لتدخل حلف الناتو، الذي استدعاه الطرف الخليجي، متكئا كعادته على فتاوى علماء أهملوا بشكل مفضوح شروط الفتوى في مثل هذه الأزمات المعقدة، التي تحتاج شرعا لأهل الاختصاص، وموقفها ذاته من الأزمة السورية، وبلغ الأمر مداه في ملاسنات حامية بين ممثلي الجزائر واحدى الدول الخليجية في جامعة الدول العربية، انتهت لموقف الجزائر بمنعه من الحضور حتى أقيل هووأميره من منصبيهما، ومما علمته أن الجزائر دفعت ثمنا باهضا كردة فعل من هؤلاء، حين أمسكت بأدلة مادية تؤكد تورطا جزئيا (المال-السلاح)لدولة خليجية، وبشكل مباشر في العملية الارهابية كانون الاول من هذا العام بعين امناس بصحراء الجزائر.
والخلاصة أن رموز الجزائر منذ 1870 الى غاية اليوم، تنظر للصراع في الشرق الأوسط، بضرورة حصر حله داخل منظومة إسلامية موحدة، والبقاء في أي ظرف تحت مظلتها، وهذا ما يؤخذ على الأمير عبد القادر مؤسس الدولة الجزائرية الحديثة وعلاقته بالخليفة السلطان عبد الحميد، من قبل العروبيين والقومجيين، واستنكار بل وتحريم الاستعانة بالعدو على الأخ المسلم أيا كانت درجة الخلاف والخطر، وسدّ كل شق يتسلل منه للشأن الداخلي للأمة، وفي المقابل بقيت العائلة الحاكمة في السعودية على نهجها الأول بدء بتأسيس عرشها بمساعدة الأجنبي وانتهاء اليوم، لإقحامها في كل كبيرة وصغيرة لهذا العنصر، بل والاستعانة به والتغوّل بقوته العسكرية، لفرض تصوراتها وسياساتها على العالم العربي.
نقاط صدام كثيرة مفصلية لا يتسع المقال لذكرها، منها حرب العراق على ايران، وسعي الجزائر لوقفها عكس اتجاه السعودية، والصراع حول تقرير غولدستن الذي اجتهدت الجزائر للتصويت عليه وإدانة العدو وتصدت لها بقوة السعودية؛ لكن أقول: كان يفترض أن تكون للدول العربية لما يجمعها نظرة استراتيجية واحدة، أو على الأقل سياسات متطابقة متقاربة، وحتى إن حدث اختلاف فالملاحظ من قبل بعض ممن أسرّوا لي عن خفايا اللقاءات، فالمشكل الأخطر لم يقتصر على نرجسية الشخصيات السعودية ونظرتهم الفوقية المبنية على خواء غير الثروة المالية، وإنما كل الخطر في تلكم القناعة التي يستشعرها من يجلس اليهم، بأنهم أهل لقيادة الأمة العربية، كحق إلاهي لا ينازعهم فيه أحد، بهذا المبدأ السخيف الذي لا يقوم على منطق أوعقل، ناصبوا العداء لجمال عبد الناصر والهواري بومدين، وبه يحاولون الامساك بجميع ملفات الدول العربية؛هذا الحلم الوهم عبر عنه مؤخرا الوليد بن طلال، حين زعم بأن كل أهل السنة يقفون وراء دولته متى أعلنت الحرب على ايران بقيادة العدوالاسرائيلي؛ إنه لعمرى جنون عظمة أعقب الأمة كوارث يتعذر جبر نتائجها، وأتصور في النهاية أنها تحفر تحت عرشهم دون شعور ولا وعي منهم.
المصدر :
رأي اليوم/ اسماعيل القاسمي الحسني
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة